الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th May,2003 العدد : 13

الأثنين 25 ,ربيع الاول 1424

الذاكرة الازدواجية
قراءة في رواية "خاتم"(1-2)
حسين المناصرة

"تسارع زرياب مؤكدة: بنت في ثوب ولد، خاتم إنسان، ومثلما خطفونا من أهلنا خطفوه من جده، نقلوه لجسد لا هو بالذكر ولا بالأنثى في الأفراح
والولائم أنثى، وفي الصلوات ذكر، أي لغة يمكن لجسد هذا الإنسان أن يتكلم؟ لو استراح للغنج واسترسل فمن أين يجيء بالرجولة لحمل ثوب. أيضاً في
العشق: يلعب بالإبرة أو بالكشتبان؟! ".." جسد محبوس في لغتين حتى صار يبرطم من هذه لهذه، من لغة الأنثى للغة الذكر حسب مناسباتهم، صار للشك
في الوجهين، لا هو يستريح للأنثى ولا للذكر، انقلب على الإثنين". (خاتم، ص 140)
تعد رجاء عالم ساردة فاعلة في كتابة الرواية الجديدة أو الرواية المضادة.. وتعد قراءة رواياتها التي وصل عددها الى ست روايات من القراءات المتعبة
للمتلقي، وأذكر أنني قبل عشر سنوات قد عانيت كثيراً عندما قرأت روايتها "4 صفر"، فقرأت تلك الرواية في مدة تقارب شهرين، لأكتب عنها قراءة
كلفت بها من أجل ملف أعد في إحدى المجلات المحلية، وقد كانت هذه التجربة المملة في القراءة وغير الممتعة لتلك الرواية أحد الأسباب التي أغلقت باب
قراءاتي لرواياتها التي صدرت فيما بعد، رغم وجودها كلها في مكتبتي الخاصة. وغالباً ما كنت أقرأ بدايات رواياتها ثم أتوقف متخوفاً من الدخول في عالم
القراءة المتعبة التي واجهتها في قراءتي لروايتها الأولى.
لو كانت المسألة قراءة قصيدة شعر فيمكن قراءة أية قصيدة، لأنها لا تستهلك أكثر من نصف ساعة.. لكن قراءة رواية تعني زمنا ممتداً، خاصة إذا كانت غير
مشوقة، وزمنا قصيراً نسبياً مدة أسبوع على الأكثر إذا كانت مشوقة!!
وفي ضوء كتابتي عن رواية التسعينيات المحلية، لا بد أن أقرأ رواية ما لرجاء عالم، ولا أخفيكم أنني كنت متخوفاً من قراءة "طريق الحرير" و"سيدي وحدانة"
و"مسرى يا رقيب" لما فيها من مداخل نصوصية لعبية لا تريح القارئ الذي يريد ان يستمتع بالقراءة كما أسلفت، مهما كانت غايته من قراءة أي كتاب ..
ثم إن حجم روايتها "حبّي" متضخم الى حد ما، لأنها روايتان في رواية، لذلك أمسكت برواية "خاتم" وبدأت أقرأ.لقد فوجئت بهذه الرواية تشدني من
بدايتها الى نهايتها، وكأنها أفضل رواية قرأتها على المستوى المحلي.. قرأتها باستمتاع كبير، ولم أتركها خلال يومين، الى حد أنني خلال قراءتها لم أفكر
بالبحث عن إشكالية الذاكرة التي توجه قراءاتي ـ في العادة ـ نحو البحث عن ذاكرة معينة في متن أية رواية أقرأها في هذا السياق. كانت هذه الرواية ممتعة
الى درجة كبيرة في لغتها العميقة الدلالات، وتسلسل أحداثها، وتنامي شخصياتها، وفاعلية إمكانياتها، والانسجام بين ثنائية التقليد والحداثة في بنيتها..
فغدت هذه الرواية ـ في تصوري ـ متميزة بوصفها رواية تحرص على التواصل مع متلقيها مهما كانت ثقافته، دون أن تفقد في الوقت نفسه حرصها على
أن تكون رواية "حداثية" أو رواية "جديدة" بمعنى أو بآخر !!
لا شك ان الرواية الحقيقية هي الرواية الفنية التي تشد قارئها الى إنهاء قراءتها في وقت قصير، وأنها بالتالي تقدر جماليات ضرورة ان تكون رواية سلسة، إذ
يمكن أن نوصل الأفكار التي نريدها بعدة طرق، لعل أفضلها طريقة السهل الممتنع، أي أن نتعب القارئ ونريحه معاً، لا أن نتعبه ونضعه في دوامة من
المتاهات ونتركه حتى يضيع، فلا يجد ما ينقذه من هذه المتاهة، وحينما لا نستطيع أن نجبره على أن يتابع قراءة الرواية التي بين يديه، وفي الوقت نفسه نبعد
الرواية عن طرق الكتابة الاستهلاكية المثيرة في غير سياق فني..في ضوء هذه الرؤية يغدو مفهوم الرواية الجديدة أو الرواية المضادة مفهوماً مزدوجاً، فهو
مفهوم سلبي في يد الروائي غير المتقن لصنعته الروائية، وهو مفهوم إيجابي في يد الروائي العارف بتقنيات صنعته والحريص على التواصل ونفي القطيعة، لذلك
كان مفهوم الرواية الجديدة إيجابياً ـ في تصوري في رواية "خاتم" وسلبياً في رواية "4 صفر".
تبدو الإشكالية السابقة ليست موضوعنا في هذه القراءة على وجه التحديد، إنما أحببت أن أشير الى أن قراءتي لرواية "خاتم" أعادت الى ذهني استمتاعي
بقراءة رواية "مئة عام من العزلة" في حين تقاربت قراءتي لرواية "4 صفر" مع قراءتي لرواية "العجوز" لأفنان القاسم الذي كتبها على غرار الرواية الجديدة
الفرنسية!! ما ذكرته لا يخرج عن إطار الرؤى الانطباعية التي لا تقدم أو تؤخر كثيراً على مستوى النقد الموضوعي!!
تقدم رواية "خاتم" فانتازيا حركية... ثلاث شخصيات بارزة في الرواية:
الأولى: حركية شخصية "الخنثى"/ خاتم بنت الشيخ نصيب، حيث تمثل هذه الشخصية دور البطولة، ومن خلالها تكشف الساردة عن ازدواجية العلاقة بين
الذكورة والأنوثة داخل وعي المرأة وجسدها، فتصبح حياة هذه الشخصية حياة غرائبية في بناء ازدواجية قلق الذكورة والأنوثة، بحيث تغدو ذكراً في علاقاتها
بالطرق والحارات والحرم الشريف وحلقة الشيخ مستور، وتغدو أنثى في بيت والدها، وفي دار الشيخة تحفة "الأم الغولة" مكان الغناء والرقص في دحديرة
عسّاس.ومن خلال هذه الشخصية تتولد ذاكرة الساردة عن العلاقة بين الذكورة والأنوثة في تشكيل شخصية المرأة الخنثى في التصرفات على أقل تقدير،
والتي تشكل تأثيراً واضحاً على نمو الجسد وتشوهه في نهاية المطاف.
الثانية: حركية "سند " ربيب الشيخ "نصيب" وابن الجارية "شارة"، وهي حركية تمثل هي الأخرى ازدواجية التضاد بين دماء كل من السادة والعبيد، فسند
هو الآخر ابن المملوكين فرج وشارة، وهو أيضا ابن/ ربيب للشيخ نصيب الذي لم ينجب ذكراً من زوجته السيدة سكينة، لذلك اتخذه الشيخ نصيب سنداً
وربيباً له فغدا الآخرون يتعاملون مع سند على أنه ابن الشيخ نصيب، خاصة بعد أن أخذه معه الى زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وبعد ان أرضعته
أخته زين من لبنها، فأصبح بهذا اللبن ابناً للأسياد.. فبهذا اللبن صار سيداً، يتلقى العلم من حلقة الشيخ مستور، ثم صار مساعداً لشيخ الجواهرجية، يتقن
صوفية التعايش مع أرواح الحجارة الكريمة !!
الثالثة: حركية "هلال" وهو ابن الحاج طاس أحد المهاجرين القاطنين في دهاليز البيت الكبير الذي يمتلكه الشيخ نصيب، وشخصية هلال تحمل ثنائية الكرامة
والذل، فهو يعتقد ان كرامته من المفترض ان تكون من خلال أن يعيش مع والديه بين الناس العاديين في دحديرة عساس، بين الناس الذين يعانون الفقر
والجهل.. لكن والده عاش في دهاليز الشيخ نصيب يقتات من فضلاته من وجهة نظر هلال، لذلك ولدت هذه الحالة الازدواجية العنف داخل هلال، فغدا
ينتمي الى عالم العنف المتشكل في المزمار، حيث أصبح "ابن جن" أو "هلال الجن" في الصراع بين فتوات الأحياء، الصراع الدامي الذي يجعل العنف جزءا
من حياة "المزمار" الذي تشتغل فيه الخناجر من خلال النار والموسيقى، كما وجدنا ذلك واضحاً في رواية "الحفائر تتنفس" لعبد الله التعزي..
في ضوء هذه الحركيات الثلاث تبدو بيئة مكة في أواخر العهد العثماني، وعهد الأشراف مسكونة بإشكاليات عديدة تطرحها الرواية، منها: رحلة الأشراف
الى المدينة المنورة لزيارة قبر الرسول صلى الله ليه وسلم، والبيت الكبير "بيت الشريف الشيخ نصيب" في جبل هندي بمكة، حيث نجد فيه ثنائية السادة
والعبيد، السادة متمثلين بالشيخ نصيب وزوجه سكينة وبناتهما وأزواجهما، والعبيد متمثلين بمن يقيمون في دهاليز أو جحور البيت الكبير مع الحيوانات،
سواء أكانوا عبيداً أم مهاجرين مثل المهاجر طاس وزوجه ميمونة وابنهما هلال، والجارية شارة وزوجها فرج.. وتشكل حياة الفقر والعوز في الأحياء
السفلى والمنحدرات سمة تلازم الناس القاطنين في حي الحشاشين، ودحديرة عساس.. فهذه العوالم تمتلئ بخفافيش البشر في تصور الساردة: عالم السراق
والبغايا والبائسين، حيث يبرز بيت الشيخة تحفة شيخة الدحديرة "أمنا الغولة" الذي يحوي مجموعة من الفتيات اللواتي يجدن الموسيقى والغناء والرقص، وهن
جواري خطفن من أهاليهن خلال الحج، فصرن سلعاً في أسواق النخاسة، فغدون جواري الليالي التي تقام في حوش دار الشيخة تحفة للقادمين من أماكن
عديدة، حيث تتنوع هؤلاء الفتيات من خلال أسمائهن: زرياب الحلبية، ودانة القحطانية، وللا المغربية، وصفا خان الهندية، ومرام الاسكندرانية، وهاجر
الحبشية، وفرح العجمية. ويشكل "مهراس" شخصية خطاف البنات، والذي يشاع عنه انه يأكل البنات الصغيرات السن، ويبيع الكبيرات للمشترين!! يظهر
في سوق الجواهرجية شيخ الجواهرجية الشيخ محمد علي المطاف، والمعلم سفر ياقوت.. وتبدو حارات مكة وأحياؤها واضحة من خلال التنقل في الأمكنة
المختلفة، حيث تبرز شخصيات عديدة تعبر عن التكوين البشري الهلامي، حيث الأتراك في قلعة أجياد، وفي بقية الأماكن نجد فئات الأمراء، والشيوخ،
والعبيد، والحجاج، وأصحاب المهن، اللصوص..
تنتمي رواية "خاتم" في سياق احتفائها بفانتازيا المكان الى الرواية الواقعية السحرية، كما تبدو في الكثير من روايات أمريكا اللاتينية، وهذه الواقعية السحرية
هي التي تجعل البنية السردية بنية غرائبية، لكنها على أية حال لا تنفصل عن الواقع التخيلي، أي أن الساردة استطاعت ان تلتقط من الواقع ما يلفت النظر من
خلال الكشف عن المخفي أو المسكوت عنه بطريقة تخيلية. فهي لا تهتم بتسجيل المألوف أو العادي، وإنما تتغلغل الى أعماق المغيّب، فتكشف المخفي، بحيث
يغدو بنية سردية جمالية، لا مجرد صف إنشائي تقريري، لذلك تكتسب اللغة السردية شاعرية ممزوجة بصوفية تهدف الى تشكيل العالم الواقعي في إطار
سحري، فيغدو أقرب الى الأسطورة، أو تحديداً أقرب الى ما يمكن تسميته "الأسطورة" السردية على وجه العموم !!
إن حميمية العلاقة الصوفية واضحة في علاقات: خاتم بالموسيقى، وسند بالحجارة الكريمة، وهلال بالخنجر والمزمار، والشيخ نصيب بالولد الذكر، وعائلة
الأشراف بقبر النبي عليه الصلاة والسلام، والشيخ مستور بحلقته، والشيخة تحفة بدحديرتها وبناتها المخطوفات، وبنات دار الشيخة تحفة بولائهن لهذه الدار
خدمة وموسيقى، والشيخ مهراس بضحاياه، وشيخ الجواهرجية بنسبه وعلو مكانته، وسفر الياقوت بإتقان معرفة أسرار الحجارة الكريمة.. وهكذا مع بقية
الشخصيات التي تجعل علاقات الرواية تميل الى تفعيل اللغة الصوفية، التي توحي بالمبالغة في توجه الشخصية نحو علاقاتها، وخاصة علاقة خاتم بجسدها
"الخنثى" وبالعود رمز الموسيقى التي تمزج بين ثنائية الذكورة والأنوثة من خلال العلاقة بين الريشة والوتر..
في ضوء هذا كله تبدع رجاء عالم في التغلغل داخل بناء العلاقات الحميمة بوصفها انفجاراً صوفياً أساسه التشبع باللغة الدالة على التوغل في سبر الأشياء،
وتوضيح العلاقات، بحيث يصعب أن نجد لغة سردية عادية، أو لغة مجانية.فالصوفية الخرافية، أو المبالغة في تصوير العلاقات الى حد (الأسطرة) هي الدافع
وراء التخلص في نهاية الرواية من الأبطال، في موت مبرر من الناحية الأسطورية أو الفانتازية، حيث يدب الخلاف بين أمراء الهاشميين على إمارة مكة، فتقع
الحرب بين الأميرين الهاشميين غالب وأحمد، فيقع الأبطال الثلاثة خاتم، وسند، وهلال صرعي أمام الدار الكبيرة التي يمتلكها الشيخ نصيب على أيدي جنود
الأمير أحمد في سياق مكافحتهم لمؤيدي الأمير غالب، فتغدو دار الشيخ نصيب مخصية، لا يوجد فيها غير النساء، وبقايا الشيخ نصيب المنهارة. أما لماذا
حُسبتْ "خاتم" على حساب الذكور في هذا الموت؟.
قد تكون الإجابة كامنة في اللعبة الأسطورية التي تلعبها القاصة من بداية الرواية الى نهايتها فيما يخص شخصية خاتم الخنثى، وهي اللعبة التي سنحاول
الكشف عنها من خلال "ذاكرة الخنثى" في الجزءالثاني من هذه القراءة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved