الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th May,2003 العدد : 13

الأثنين 25 ,ربيع الاول 1424

هؤلاء، مرَّوا.. على جسر التنهدات!!
الملك..السيف !
بقلم/ علوي طه الصافي

اسمه.. من أسماء السيف.
حليم إلى أبعد حدود الحلم.. لكنه إذا غضب ونادراً جداً ما يغضب تحوَّل غضبه إلى إعصار الصحراء.. وأمواج المحيط.. دون أن يفقد شخصيته اتزانها
(اتق غضبة الحليم).
"راكد" ركود سلسلة جبال "السرواة" التي فَتَحها.
لا تهزه الأحداث كَبُرت.. ام صَغُرت.. يقول الشاعر:
وتصغر في عين الكبير الكبائر
وتكبر في عين الصغير الصغائرُ
زعيمٌ لا يتكرَّر.. ثائر لا كالثوار.. قام في بلاده بثورات صنعت متغيِّرات غيَّرت وجه التاريخ داخل بلده.. دون أن تراق قطرة دم.
* تحريره للعبيد من عبودية البشر، إلى عبودية خالق البشر.. رب السماوات والأرض.. كان ثورة.
* تعليم المرأة.. وإخراجها من ظلمة "الجهل" إلى نور "العلم" امتثالاً لتعاليم الاسلام.. واقتداء بنساء مسلمات الأسلاف الصالحات.. كان ثورة.
* إدخال التليفزيون رغم كل العقبات.. كان ثورة.
إذا رأى في أمر من الأمور.. أو قضية من القضايا فيها خير بلاده، وأمته اتخذ قراره بشجاعة، دون الاصغاء إلى هرطقة المهرطقين.. وباعة الكلام الفارغ في
حوانيت أسواق الثرثرة.. ودون تردد.. فالقرارات الكبيرة، تحتاج إلى الرجال الكبار.
قليل الكلام.. كثير العمل، إذ كان يعمل (17) ساعة في ال (24) ساعة.. في آخر أيامه بحكم الاجهاد، وعامل السن نصحه طبيبه بالراحة من خلال
تخفيف ساعات عمله، وإنقاصها.
ابتسم في وجه الطبيب.. وسأله: وماذا عن مصالح وطني، وأبناء وطني، وأمتي.. أليست أمانة في عُنُقي؟ رد عليه الطبيب مشفقاً على صحته قائلاً: أَوْكِل بها
غيرك!!
قال باحساس المؤمن المسلم العميق الواثق من نفسه: وماذا سأقول لخالقي يوم القيامة.. يوم لا ينفع ملكٌ، ولا جاه، ولا مال، ولا أولاد، ولا مَنْ سأوكل
إليهم جزءاً من واجبي؟
كأنَّه بسؤاله هذا يود أن يذكِّر بمقولة، وصدق حكمة الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطَّاب "لو عَثَرَتْ شاةٌ في العراق لَسأَلَني الله لِمَ لَمْ أمهِّد لها
الطريق؟".
طبيبه يعرف أن عزيمته لا تفل.. ومواقفه حادة لا تتغيَّر بتغير الظروف.. والأزمات صحية كانت، أم عملية.. فلم يملك طبيبه إلاَّ الدعاء له بالتوفيق.
حضرتُ مجلساً له كان يستقبل فيه رؤساء تحرير جرائد ومجلاَّت عربية حينها دخل مواطن من البادية.. قادماً من خيمته، وعلى ملابسه غبار الصحراء منادياً
بأعلى صوته دون خوف، أو وَجَل.. رافعاً بيده ورقة قائلاً:
"يا فيصل.. يا ولد عبدالعزيز" قالها البدوي بكل عفوية "الفطرة" الإنسانية، التي لم تفسدها رخاوة، ونعومة المدينة.. والمدنية، ولاحساسه بأن مليكه لم
يتخرَّج من جامعة أوروبية.. أو أميريكية.. وأنه مثله من أبناء البادية.. يعرفها، ويعرف اهلها البسطاء الطيبين، قبل أن يصبح ملكا.ً
لم يقل له "يا سيدي".. أو "يا صاحب الجلالة".. أو "يا صاحب العظمة"!!
تحوَّلت وجوه رؤساء التحرير العرب الذين كانوا في المجلس إلى علامات دهشة، واستغراب.. وإشارات استفهام.. لأنهم لم يألفوا أن يدخل بدوي قادم من
الأرياف ليس على رئيس الدولة فحسب، بل على وزير.. ودون ألقاب مثل: "يا صاحب الفخامة".. و"يا دولة الوزير".. أو "يا باشا".. و"يابك".
التفت إليهم "أبو عبدالله"، وهو يقرأ في وجوههم علامات الدهشة، والاستغراب.. وإشارات الاستفهام.. التفت إليهم وهو يبتسم ابتسامة الصقر الحر.. ثم
أشار بيده مستقبلاً البدوي بكل تواضع، ورحابة صدر.. تسلَّم منه الورقة.. قرأها والبدوي واقف ينتظر النتيجة وقتها.. ثم أشار إلى أحد "أخوياه".. وجَّهه
بما يجب عمله.. وطلب من البدوي أن يتبعه.. لكن البدوي طلب منه الاذن لإلقاء قصيدة "نبطية".. فاستأذن "أبو عبدالله" من ضيوفه قائلاً: هل تحبون سماع
قصيدة بلهجتنا البدوية.. هو نوع من الشعر الذي يسميه بعض أشقائنا العرب ب"الزَّجل".. ويسميه البعض الآخر ب"الميجانا والعتابا"، أما في اليمن
فيطلقون عليه "الشعر الحُميني"، وهو قريب من شعرنا "النَّبَطي" لأنه شعر بادية الجزيرة العربية صحراءها وخليجها؟
اندهش رؤساء التحرير من ثقافة "أبي عبدالله" ليست عن السعودية فحسب، بل عن الوطن العربي عن الشعر الشعبي، لأنهم لا يعملون أنه من أساتذة من
يقول "الشعر النَّبطي"، واغراضه.. وبخاصة "الشعر النَّبطي الحِكَمي" من الحكمة.
وحين أعلن رؤساء التحرير موافقتهم.. أشار إلى البدوي موافقاً على إلقاء قصيدته "النبطية" التي بدأها بالبسملة، والحمدلة.. ثم موجهاً قصيدته إلى "أبي
عبدالله"، فكان يخاطبه من بدايتها إلى نهايتها باسم "يا ابن عبدالعزيز".. وخرج البدوي مسروراً منتشياً أن قصيدته دخلت التاريخ لأنه ألقاها بين يدي
"الفيصل أبو عبدالله".. وفي مجلس "الفيصل بن عبدالعزيز".
ولا استبعد أن الشاعر الدبلوماسي الكبير الذايع الصيت (عمر أبو ريشة) الذي كان يلقي بعض قصائده الغُرر في مناسبات الحج.. لا أستبعد أنه تأثَّر بمخاطبة
"الفيصل" بصفة "يا ابن عبدالعزيز" مما كان يسمعه أثناء وجوده في مجلس "الفيصل"، فاقتبسها في إحدى قصائده التي كان يلقيها في الحفل التكريمي السنوي
الذي يقيمة "الفيصل" لضيوفه من رؤساء الدول، والوفود المرافقة لهم، وغيرهم من الضيوف.. وأذكر بيتاً من قصيدة قال فيها بسحر التفات اللغة العربية:
يا ابنَ عبدالعزيز، والتَفَتَ المجدُ
وأصْغَى، وقَالَ مَنْ نَادَانِي
وقد حضرتُ حفل افتتاح مبنى التلفزيون الجديد بجدة في الثمانينيات الذي شرَّفه "الفيصل".. كان وزير الاعلام وقتها الأستاذ "جميل الحجيلان" الذي بعد أن
ألقى كلمته نهض "الفيصل" بقامته المهيبة مرتجلا كلمته، كما هي عادته في كل خطاباته التي يلقيها في المناسبات التي يرى فيها أهمية الخطاب الذي سيلقيه..
لأنه في خطاباته يترسَّل على سجيته بعيداً عن شعارات التصفيق الانشائية البرَّاقة الجوفاء.. مثله كمثل صانع الذهب الموشَّى بالأحجار الكريمة.
قال "الفيصل" في خطابه بما معناه:
"إنني أسمع من الإذاعة وأقرأ في الصحف عبارة "صاحب الجلالة" قبل اسمي.. إنني لا أحب هذه العبارة لأنها دخيلة علينا، وعلى مجتمعنا المسلم"!!
ألم أقل فيما أسلفت إنه لا يلقي خطاباً إلا عند ما يشعر انه يريد أن يوجِّه رسالة تاريخية مهمة إلى أبناء وطنه الذين يسهر لياليه من أجل عزتهم، وكرامتهم،
وراحتهم.
ورسالته التي قالها في خطابه باختصار، ودون تنميق، وزخرفة في كلامه في هذا الحفل الكبير رسمياً، وشعبياً ليست الرسالة الوحيدة التي يريد توصيلها.. بل
أردفها برسالة أخرى لا تقل أهمية عن الرسالة السابقة.. حيث قال موجهاً عتبه الراقي للأستاذ (جميل الحجيلان) وزير الإعلام، قال بما معناه:
"حين كنتُ قادماً إلى هذا الحفل سمعتُ من إذاعتنا أغانيَ، وأناشيد تخصني شخصياً كملك.. وأحب بهذه المناسبة أن أقول إن الاذاعة، والتلفزيون أنشئا من
أجل الوطن والمواطن.. وخدمة هذا الوطن، وهذا المواطن.. وليس من أجل بث الأغاني، والأناشيد في "الفيصل" الذي يعد نفسه فرداً من أفراد هذا الوطن
الكريم بالاسلام.. وهذا المواطن العزيز على نفسي".
رسالتان ساميتان كبيرتان، من ملك وقائد كبير ملهم.. تعنيان انه "لا شاه"، و"لا شاهنشاه" في مجتمعنا القائم على تعاليم الاسلام ومبادئه السماوية التي لا
تفرِّق بين المسلم وأخيه المسلم إلاَّ بالتَّقوى.. فالجميع متساوون في الحقوق، والواجبات أمام رب الاسلام والمسلمين.
وبهذه التعاليم والمبادىء ساد العرب العالم.. وأنشأوا حضارة متكاملة.. في الوقت الذي كانت اوروبا تعيش في ظلام "القرون الوسطى".. وحين تغيَّرنا..
شرَّقْنَا.. وغرَّبْنَا تقلَّص دورنا في العالم.. وانحسرت مساحة الأرض التي كنا نحكمها.. واندثرت حضارتنا، وبادت.. تمزَّقنا إلى دويلات مشرذمة.. وشعوب
متخلِّفة، تعيش على موائد الآخرين الذين عرفوا كيف يستثمرون قدراتهم وثرواتهم ليحتلوا المقاعد الأولى.. ويعتلون المسرح العالمي ليمثِّلوا علينا دور الوصي
والمحتل.. والمستوطن.. والمستعمر، فتحوَّلنا إلى جماهير مهزومة.. ومغلوب على أمرها.. نقف في آخر صفوف المتفرجين في صالة سينما رخيصة.. عيوننا،
وقلوبنا، وعقولنا مشدودة في انبهار لمشاهدة ومتابعة أفلام "الكاوبوي".. و"جيمس بوند".. و"رامبو".. و"جيمس دين".. والافلام العلمية المدهشة التي
تصوِّر الآخرين "سادتنا" يضعون أقدامهم على "وجنة القمر" الذي اكتفينا بالنظر فيه.. وتدبيج القصائد، والملاحم الشعرية!!
حتَّى أطفالنا أصبحوا يتمثَّلون بأفلام الكرتون مثل "سوبرمان"، و"توم اند جيري"، و"بات مان"، و"ميكي ماوس"، و"تيمون و"بومبا".. وغيرها في غياب
"خالد بن الوليد" و"طارق بن زياد"، و"عقبة بن نافع"، و"خولة بنت الأزور"، و"أبوعبيدة بن الجرَّاح"، و"القعقاع".. وغيرهم من صناديد وقادة العرب
المسلمين!!
لم يغيِّبونا نحن الكبار، بل غزوا عقول أطفالنا، جيل المستقبل الذي سيكون فاقداً لذاكرته التاريخية العربية الإسلامية.. وتظل "فلسطين" بقدسها، ومسجدها
الذي صار "القبلة الأولى" في ذاكرة تاريخنا الأسود، تظل جرحنا الكبير، إلى جانب جراحاتنا التاريخية، وعلى رأسها الاندلس.
وحين نذكر معرِّجين على تاريخنا الأسود، وجراحاتنا الكبيرة، فاننا بهذا لا نبعد عن موضوعنا عن "الفيصل" الذي عاش حياته حاملاً في قلبه كل هذه
الجراحات الكبيرة.. حتى أن أمنيته بأن يصلِّي "جمعة" في "المسجد الأقصى" لم تتحقق له.. ومات شهيد هذه الجراحات التي كانت تقتات من حشاشة كبده
وفؤاده.. ولَمْ يكن شهيد المسجد الأقصى وحده.. تغمده الله بواسع رحمته.
ولنعد إلى ذكرياتنا مع "الفيصل".. وهي ذكريات لم ترد في كتب من أرَّخوا لحياته.. وكان زاهداً في كتابة مذكراته كما فَعَلَ غيره من القادة والزعماء
والملوك.. تاركاً كتابتها لجيلنا الذي استظل بأفيائه الوارفة الظلال.
أذكر عند افتتاحه لميناء جدة الجديد.. بعد أن ألقى الأستاذ (محمد عمر توفيق) يرحمه الله، كلمته بصفته وزيراً للمواصلات، وكانت الموانىء تابعة لهذه
الوزارة، قبل أن تتحوَّل إلى "مؤسسة عامة" أذكر أنه شرح في كلمته التي ألقاها أمام "الفيصل"، في حفل كبير، شرح كل ما يجب شرحه عن الجهود التي
بُذلت في تجديد الميناء، وتوسعته إدارياً.. ومالياً.. وفنياً.
ثم اقترح الوزير في كلمته أن يكون اسم الميناء "ميناء الملك فيصل".. وبعد أن انتهى من إلقاء كلمته نهض "الفيصل" كالسيف من مقعده.. أحسستُ وقتها
انه سيوجِّه رسالة مهمة، كما هي عادته.. أثنى على الجهود المبذولة.. بعدها جاء دور الرسالة المفاجئة التي ربما لم يتصوَّرها الوزير نفسه، ولا الجمهور الغفير
الذي حضر الحفل.
لقد شكر للوزير مشاعره الطيبة نحوه باطلاق اسمه على الميناء.. ثم قال: "أرى أن يكون اسم الميناء ميناء جدة الإسلامي" ومن يومها أصبح اسم الميناء كما
أراد "الفيصل" إلى اليوم.
وقبل استشهاده بسنوات قليلة سافر إلى منطقة "عسير" لافتتاح "المدينة العسكرية" بمدينة خميس مشيط.. وكان أمير المنطقة الصديق الروحي الغالي خالد
الفيصل يحفظه الله، ويسدِّد خطاه.. ويوفِّقه في مشاريعه الكبيرة إقليمياً، وعربياً.
وكان يرافق "الفيصل" في هذه الرحلة وفد من رؤساء تحرير الصحف، والمجلاَّت السعودية.. كنتُ يومها أحد موظفي وزارة الإعلام الصغار في السن،
والوظيفة.. وكنت في الوقت نفسه أعمل مساءً محرراً، ومشرفاً على صفحات الأدب والثقافة في مجلة "اليمامة" التي كان رئيس تحريرها الصديق الأخ "محمد
الشدِّي" الذي أغراني بمشاركة الوفد الصحافي في هذه الرحلة التاريخية.
باختصار، كان من ضمن برنامج زيارة "الفيصل" تشريفه لحفل دُعي له من قبل شيوخ القبائل "العسيرية" للقيام أمامه باستعراض رقصاتهم الحربية، في مكان
جرت فيه معركة حربية كان فيها "الفيصل" قائداً للجيش السعودي في عهد والده المؤسس لكيان المملكة العربية السعودية الملك عبدالعزيز آل سعود، حيث
انتصر "الفيصل" القائد في تلك المعركة ليدْخل عسير فاتحاً، ويضم إلى كيان المملكة.. كأنَّ القبائل أرادت أن يكون الحفل ذكرى تاريخية.. وتأكيداً لتجديد
الولاء للحكم السعودي الذي نقلهم من عصر القبلية، والشتات، والمنازعات إلى العصر الحديث.. عصر الوحدة والمدنية، والتمدن.. كانت بالنسبة لهم نقلة
حضارية لينعموا بحياة الأمن والاستقرار والتنمية الحديثة.
كان الحفل مكشوفاً دون سرادق، أو مقاعد للجلوس.. الجميع واقفون على أقدامهم، أمراء، ووزراء، وصحافيون.. وعلى رأسهم القائد الملك "الفيصل"
كان واقفاً، يرفع يده بالتحية عند مرور كل قبيلة، تؤدي رقصتها الحربية بملابسها التقليدية.. وأسلحتهم التقليدية كالبنادق التي يطلقون رصاصها في الجو
حين مرورهم أمام "الفيصل".. وسيوفهم.. وخناجرهم التي يتمنطقون بها اعتزازاً بموروثهم القبلي.
مرَّ الوقت طويلا فتعب من الوقوف الطويل من تَعِب، ومنهم في سن الشباب فاضطروا الى الجلوس على الرمل.. ألاَّ "الفيصل" ظل واقفاً في ثبات القادة
النادرين، رغم كبر سنه.. وقد تبرَّع أحدهم فاحضر له مقعداً ليجلس عليه، فالتفت اليه "الفيصل" وقال له كلاما لم نسمعه من دقات الطبول، وأصوات
الرصاص المنطلق من فوهات البنادق.. فعاد بالمقعد مسرعاً كالخائف!!
تحرَّك الفضولي الصحافي، أو الحس الاعلامي داخلي فاتجهت نحو الشخص الذي حمل المقعد ليجلس عليه "الفيصل" الذي رفض الجلوس، ثم أعاده راكضاً به.
سألته ماذا قال لك "الفيصل"؟ رد وهو يبتلع فشله وخوفه لقد قال لي بعنف "عيب.. أنا مع ربعي" إن وقفوا وقفت" يقصد بربعه تلك القبائل التي تمر من
أمامه.
أثارني الموقف.. رغم أنني توقَّعتُ ما حدث.. ونظرتُ إلى نهاية طابور القبائل، فلم أر غير الغبار المتصاعد من وقع أقدامهم، ولم أحدِّد نهايته.. فانتحيتُ
جانباً أجلس متعباً مع الجالسين على الرمل.. لا أدري كم مضى من الوقت.. و"الفيصل" ما يزال واقفاً حتى انتهى طابور القبائل، وابتعدوا عن المكان.. فعاد
"الفيصل" ليمتطي سيارته الخاصة عائداً إلى السكن الذي أعد له.. وتفرَّقنا لركوب سياراتنا.
حين عدتُ إلى الرياض عن طريق جدة، قمتُ بزيارة الصديق (عبدالله الجفري) في جريدة (عكاظ) الذي حدَّثته عن هذا الموقف حكَّ رأسه كعادته وطلب
مني الكتابة عن هذا الموقف، فكتبته له، وبعد قراءته أرسله إلى المطبعة لصفِّه فوراً.. وجعله افتتاحية للجريدة في الصفحة الأولى ووضعنا عبارة الفيصل "أنا مع
رَبْعي" عنواناً لها.
ومن المواقف التي لن أنساها.. إنه في موسم من مواسم الحج.. ذهبنا مجموعة من موظفي وزارة الاعلام، كل موظف مع وفد إعلامي من خارج المملكة
للسلام على "الفيصل" حين اقتربتُ من الملك فيصل الذي كان واقفاً يحيى كل فرد من كل وفد.. كان أحد الزملاء يسبقني، وكان الوفد الذي يرافقه من
إحدى البلدان الإسلامية الأفريقية.. فكان كلّ فرد يسلِّم على "الفيصل" ينحني أمامه راكعاً كما جرت العادة (البرد وتوكولية) السياسية في العالم.. فالتَفَتَ
"الفيصل" إلى زميلي سائلا: "هل تعلِّمون الوفود على الانحناء عند السلام عليَّ؟" فنفى ذلك زميلي.. لكن "الفيصل" لم يكتف بهذا السؤال.. بل قال لزميلي:
"قل لهم إن تعاليم ديننا الإسلامي تحرم الانحناء، والركوع لغير الله" رد زميلي أمرك.. على أساس أن يقول للوفد الذي يرافقه فيما بعد.. لكن "الفيصل" قال
لزميلي : قل لهم ها الحين أمامي!!
ولأن الوفد الافريقي المرافق لزميلي لا يعرف العربية.. فكلَّمهم بالانجليزية التي كان يتقنها.. و"الفيصل" يسمعه لمعرفته اللغة الانجليزية.. فما كان من أفراد
الوفد الافريقي إلاَّ الانحناء راكعين مرة أخرى.. فابتسم "الفيصل" كأني به يقول في نفسه أمام ما حَدَث "الطبع يغلب التطبُّع".. هكذا فسَّرت ابتسامته.
وفي الحال حذَّرت بأدب الوفد الذي معي، وكان من إحدى البلدان العربية من الانحناء والركوع عند سلامهم، ومصافحتهم للفيصل.. فردوا بأنهم سمعوا
وشاهدوا ما حدث مع الوفد الأفريقي.. لهذا حين جاء دوري كنتُ خائفا أن يخطىء أحدهم فينحني راكعاً.. لكنني حَمَدْتُ الله أن مرَّ الموقف بسلام..
حسب أمر القائد المسلم "الفيصل".
هذه مواقف صغيرة محليَّة، لا تعد شيئاً يُذكر مع مواقف "الفيصل" الكبيرة، على المستويات الوطنية، والعربية، والاسلامية.. إنها مجرد قطرات صغيرة من مياه
محيط كبير لا قرار له.. رحم الله "الفيصل" الزعيم العربي المسلم، السيف.. وأسكنه فسيح جناته.. وما ذلك على الله بعزيز.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved