الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th May,2003 العدد : 13

الأثنين 25 ,ربيع الاول 1424

استقبال الغرب في النقد الأدبي "2 - 4"
د. سعد البازعي

بولين يو، استاذة الأدب الصيني في جامعة كولومبيا الامريكية، تقف عند الاثر الناجم عن تطبيق المناهج الغربية في دراسة الادب الصيني، وذلك في بحث لها
بعنوان "آثار الاغتراب: الادب المقارن والموروث الصيني".
معظم المقاربات الغربية، من النقد الجديد فصاعداً، لا مقابل لها في الموروث النقدي الصيني، وتتأسس على مجموعة من الفرضيات الفلسفية والادبية المختلفة،
مما يجعل من الممكن نبذها بوصفها غير ذات صلة في افضل الاحوال، او استعمارية ثقافياً في اسوأها.
في مقابل هذا الطرح هناك، كما هو معروف، طرح آخر يرى ان ما تشير اليه يو بالفرضيات الفلسفية والادبية انما هي "مشتركات" او موروث انساني عام
ومشترك ويمكن من ثم لجميع الثقافات ان تفيد منه دون قيود. ولكن يو التي تدرك وجود مثل ذلك الطرح ترد عليه من منطلق معرفتها بالادب الصيني،
فتقول:" عند التدقيق يتضح ان "المشتركات" الادبية، دون اختلاف يذكر، مشتركات غربية"، والمشكلة، كما تقول، هي ان البحث في تلك المشتركات او
الكونيات، او الانطلاق منها كفرضيات، يفرض على الباحث ان يبرر منحى محدد والاجابة عن اسئلة محددة. وتضرب يو لذلك مثلاً بالاشارة الى اضطرار
الباحثين الذين ينطلقون من تلك المشتركات الى "تبرير لماذا يفتقر الادب الصيني الى الماسأة والملحمة، او، في الاتجاه المعاكس، تبرير لماذا تطورت اخيراً ولكن
خفية. "والنتيجة الطبيعية لذلك التوجه هي "تبخر العديد من الاختلافات المهمة.. في جوهر الاشكال والانواع"
سيتذكر النقاد العرب، لاسيما المختصون في الدراسات المقارنة، ان الاشكالية التي تشير اليها بولين يو هي ما يتكرر في بعض الدراسات النقدية العربية،
المقارنة منها بوجه خاص، كما عند محمد غنيمي هلال، مثلاً. ففي كتابه التأسيسي في التعريف بالادب المقارن، او بالاحرى الدراسات المقارنة كما تطورت
في الغرب حتى 1953، تاريخ تأليف الكتاب، يستعرض هلال تطور المسرحية منذ اليونانيين ليتوقف عن الادب العربي القديم فيقول:
ولم يعرف الادب العربي القديم المسرحيات، ولا فن التمثيل كما هو في العصر الحديث او قريب منه، اذ ظل محصوراً في نطاق الشعر الغنائي وادب الرسائل
والخطب. وعلى الرغم من معرفة العرب آثار اليونانيين الفكرية، وعلى الرغم من ترجمتهم ارسطو، فانهم لم يحاولوا احتذاء اليونانيين في التمثيل، ولا ترجمة
شيء من مسرحياتهم. ولعل هذا هو اهم سبب من اسباب اخطاء العرب الكثيرة في ترجمتهم كتاب "ارسطو" فن الشعر! ولذا لم يتأثر به النقد العربي تأثراً
كبيراً، ولم ينصرف به من العناية بالشعر الغنائي الى غيره من اجناس الادب الموضوعية. هذا التقويم للادب العربي على اساس من نموذج ثقافي مختلف هو
النتيجة المباشرة لتحول المنتج الثقافي الآخر وقيمه ومناهج البحث فيه الى اساس للتقويم، كأنما هو اصل الاشياء، مما يؤدي، كما تقول المختصة بالادب
الصيني، الى تحول الدرس المقارن في هذه الحالة الى ممارسة نقدية وبحثية تتوارى فيها الاختلافات الثقافية ويبرز التمركز الثقافي الغربي.
احد ابرز الباحثين الامريكيين في الادب المقارن، اوين الدرج، توقف متعجباً ازاء هذه الظاهرة في الآداب الآسيوية في معرض نقده لما تبين له من تحيز في
الدراسات الادبية المقارنة في الغرب. فالتحيز الذي يمارسه النقاد الغربيون ازاء آسيا وافريقيا حين يهمشون آداب تلكما القارتين، والذي يثير الاستغراب بحد
ذاته، يصير اكثر غرابة حين يصدر عن نقاد قادمين من آداب آسيا وافريقيا نفسها:" في الشرق، كان المسعى الاكثر شيوعاً هو تطبيق النظريات النقدية
الغربية على الكتابات الشرقية. غير انه لسوء الحظ لا يستطيع المنهج في احد نصفي الكرة الأرضية أن يمنح القراء ما يكفي من الإحساس للتعرف على المناخ
الأدبي في النصف الاخر". ويستشهد الناقد الامريكي بالشكوى الساخرة والمرة التي وردت في رواية للكاتب الصيني تشيان تشونغ شو عنوانها "الحصن
محاصراً"، ازاء تغريب الادب الصيني بعد تغريب غيره من حقول الثقافة في الصين:
قد يبدو من غير المعقول الى حد ما ان يذهب احد خارج الصين لمواصلة دراسته العليا في اللغة الصينية. بيد ان الحقيقة هي ان دارسي الادب الصيني هم
فقط الذين يتوجب عليهم الدراسة في الخارج، لان كل الموضوعات الاخرى مثل الرياضيات والفيزياء، والفلسفة وعلم النفس والاقتصاد والقانون، التي
استوردت من الخارج قد تغربت. الادب الصيني، المنتج المحلي الوحيد، هو الذي مايزال بحاجة الى علامة تجارية اجنبية مسجلة لكي يمتلك علامته الخاصة به.
اننا اذاً ازاء اشكالية تواجهها الثقافة العربية مثلما تواجهها ثقافات اخرى في انحاء العالم، والناقد او الباحث العربي ملزم بمواجهة الواقع وليس الالتفاف عليه
بوعي ناقص او بمقولات فضفاضة وغير مختبرة، مثل "عالمية النظريات" او "الموروث الانساني المشترك" او المناهج المتاحة للجميع، او بدعوى انها نتاج علمي
متجاوز لمؤثرات الايديولجيا، الى غير ذلك من الحلول السهلة التي تسهل القفز فوق حقائق الاختلاف وصعوبات الاقلمة والتوطين.
ان ما يقودنا اليه هذا التحليل هو ان المثاقفة حتمية، لاسيما في ظروفنا العربية، العالمثالثية، الحاضرة، لكنها مثاقفة لا تتحق تلقائياً، وحين نكتشف ما تنطوي
عليه من مشاكل، فان ينبغي ان نكتشف ايضاً أنها لا تقبل الحلول السهلة التي يضعها او يتقبلها ضمناً بعض النقاد والباحثين العرب حين يتبنون مناهج
ومفاهيم ونظريات طورت في فرنسا او المانيا او الولايات المتحدة كما لو كانت صالحة لكل زمان ومكان وبعيداً عن المؤثرات الايديولوجية. يتضح ذلك
الفهم، ومن ثم الخلل، في التصور التالي لاحد النقاد العرب البارزين لطبيعة النظرية نفسها التي رأينا قبل قليل كيف يفمهما الناقد الامريكي ج. هلس ملر.
يتحدث الناقد العربي، وهو جابر عصفور، عن "النظرية من حيث هي تركيب فكري شامل، يقوم على التجريد والتعميم، ويهدف الى تفسير اكثر عدد
ممكن من الظواهر في مجال بعينه، بعيداً عن المعنى الضيق لزمان النشأة ومكانها". ولكي يثبت ما في تصوره من دقة وصحة يذهب عصفور الى الشواهد التالية
مستمداً اياها من تاريخ "العلم" ومما يسمى "القرية الكونية":ولذلك لا نسمع بين المختصين في العلوم البحتة او العلوم الانسانية والاجتماعية، ومنهم نقاد
الادب في كل انحاء العالم الذي تحول الى قرية كونية بالفعل، من يتحدث عن نظرية من نظريات العلوم البحتة، او عن نظريات العلوم الانسانية الاجتماعية،
تنتسب الى هذا القطر او ذاك من اقطار القرية الكونية إلا على سبيل نسبة الانجاز النظري او التنظير الشارح الى محله، بعيداً عن الخلط بين العلم والقومية او
العلم والايديولوجيا ولن نجد ناقداً ادبياً، او باحثاً فرنسياً او انكليزياً او اميركياً او يابانياً في دوائر العلوم الانسانية والاجتماعية، يستحق صفة الناقد الادبي او
البحث العلمي لا الايديولوجي، يطرح على نفسه السؤال عن وجود او عدم وجود "نظرية" فرنسية او انكليزية او امريكية او يابانية، لان مثل هذا الناقد لا
يشغل باله بهذا النوع من الاسئلة الايديولوجية التي تنتهي الى تزييف الوعي بالعلم، ولانه يدرك، نتيجة وضوح الفارق بين العلم والايديولوجيا في ذهنه، ان
النظرية النقدية أو الادبية لا تنتسب الى هوية سياسية او قومية او دينية الا اذا فارقت صفتها النوعية من حيث هي صياغة
صورية تتسم بالتجريد والعمومية.
المشكلة هنا ليست في طرح تصور ما فحسب وانما هي ايضاً في تجريد اي ناقد يرى مالا يطابق ذلك التصور من اية مصداقية، كما هي في تجريد اية نظرية
تخرج عن التصور المطروح من كونها نظرية تستحق الاهتمام. ففي ذلك وثوقية متعسفة وابعد ما تكون عن روح العلم التي يؤكد الناقد اهميتها. ولو ذكرنا
لعصفور اثنين فقط من النقاد الذين يرون عكس ما يراه تماماً لصعب عليه تجريدهم من صفات الناقد او الباحث العلمي، ولا اشير فقط الى الامريكي ج.
هلس ملر، وانما ايضاًً الى ادوارد سعيد في مقالته الشهيرة "انتقال النظرية" التي تؤكد ما تمر به النظرية من اختلافات جذرية احياناً اذ تنتقل ضمن الثقافة
الواحدة، او الثقافات الشديدة التجانس، كما حدث في اوروبا، فما بالك اذا كانت تلك المنطقة تشمل العالم بأكمله!
في مقالته "انتقال النظرية" او النظرية المهاجرة" يحلل ادوارد سعيد ما اصاب مفهوم "الوعي الطبقي" عند الهنغاري، ذي الاصل اليهودي، غورغ لوكاتش،
حين انتقل الى الروماني/ الفرنسي ذي الاصل اليهودي ايضاً، لوسيان غولدمان الذي كان تلميذا للوكاتش والذي "كان كتابه الاله الخفي "1955" كما
يقول سعيد، "احدى المحاولات الاولى والاكثر ابهاراً لوضع نظريات لوكاتش موضع التطبيق العملي والبحثي. في دراسة غولدمان حول باسكال وراسين"،
يضيف سعيد، "يتحول الوعي الطبقي الى رؤية العالم، وهو وعي ليس مباشراً وانما جميعاً يظهر في اعمال بعض الكتاب ذوي الموهبة الرفيعة. ومن هذه
الملاحظة يتوصل سعيد الى الخلاصة الشاملة التالية حول طبيعة النظرية:" اننا بموازنة لوكاتش وغولدمان ازاء بعضهما البعض نتعرف اذن على القدر الذي
تكون به النظرية استجابة لوضع اجتماعي وتاريخي يمثل الحدث العقلاني جزءاً منها. مفهوم "رؤية العالم" لدى غولدمان مكون اساسي في البنيوية التكوينية،
او التوليدية، كما يفضل جابر عصفور ان يصفها، والتي تفرعت عن البنيوية، والبنيوية هي المثال الذي اختاره عصفور في مقالته "تسمية النظرية" المقتبسة
اعلاه لايضاح وجهة نظره حول طبيعة النظرية. فهو يشير الى ان البنيوية كانت "ثمرة جهود فردنان دي سوسير وتلامذته في جنيف في العقد الاول من هذا
القرن، وجماعة الشكليين الروس في موسكو في العقد الثاني من هذا القرن"، الى غير ذلك من مصادر لا تتعدى المحيط الاوروبي الامريكي، ليستنتج من ذلك
"ان النظرية البنيوية" لا يمكن نسبتها الى شخص واحد او الى قطر واحد او الى قومية واحدة او نظام سياسي، لانها تجاوز ذلك كله من حيث هي صياغة
صورية مشتركة، احالها الجهد الجمعي في تجريدها الفكري الى افق عالمي من افاق العلم الانساني. ومع ان عصفور يؤكد بعد ذلك ان البنيوية مثل غيرها من
النظريات يمكن ان ترفض او تقبل او تعدل، فان ما يظل يتحدث عن عالميتها على نحو يناقض ما يورده من امثلة. صحيح ان البنيوية لا تنتسب الى قطر او
قومية او شخص، لكنها تنتسب الى تشكيل حضاري او ثقافي محدد، والى سياق تاريخي محدد ايضاً. لم لم نقرأ حتى الآن اسهاماً يابانياً او صينياً او عربياً
واحداً في تاريخ تطور تلك النظرية؟ امثلة عصفور كلها من اوروبا وامريكا، اي من افق ثقافي ومعرفي متجانس، هو الافق الغربي، مما يجعلها تؤكد مصداقية
القول بتحيز النظرية وخصوصيتها اكثر من دعوى العالمية التي يذهب اليها.


albazei53@yahoo.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved