الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th May,2003 العدد : 13

الأثنين 25 ,ربيع الاول 1424

المرأة بين أقواس "الاسم والإشاعة والجنون" 3/2
د. صالح زيَّاد

لم يكن كفاح "زينة" في قصة "اليوم الثالث" لعبدالعزيز مشري، في سبيل أن تعول نفسها وبناتها بشرف وكرامة واقعاً اختيارياً منها، كما لم تكن الملفوظات
الجمعية التي مضغت سيرتها بالباطل والبهتان فعلاً واعياً ومسؤولاً يمكن إحالته الى معيّن وإخضاعه لمعيار الحقيقة واليقين والتثبت. أي أننا مع "زينة" تجاه
إشكالية تراجيدية بالغة العنف وذات طبيعة تبدو كما لو انها قدر لا مهرب منها ولا معدى عن الانخراط في ألمها واستشعار مدى الحصار والأطواق التي
يسيجها على "زينة" الواقع والثقافة، فيغدو الاسم، بيانياً، علامة هذه الإشكالية ورمزها الذي يحيل وظيفته الدلالية الى وظيفة إعلامية "إعلانية"، وفعل
التعريف فيه الى فعل التشنيع به.
لقد استحقت "زينة" إعلان اسمها، واكتسبت معرفية دلالته الشخصية المائزة، من واقع اختلافها عن غيرها من النسوة داخل الجماعة الثقافية. وهو اختلاف
متأتٍٍ من فرديتها التي أعلنها كفاحها وعصاميتها وجلدها في مجابهة ظروف الواقع بشجاعة وصبر وعزة وهي أنثى، في مقابل ذوبان وتلاشي غيرها من
النسوة اللاتي لا مجال لامتياز فرديتهن، وإن كن أكثر جهداً وشقاءً وجلداً، لارتباطهن برجال ينسين الجماعة أسماءهن لكن هذا الاستحقاق من زينة، إذ
يقلب ميزان الثقافة الاجتماعية، يبتعث، ربما، نقمة لا وعي الثقافة التي تصب عليه لعنتها وتدنسه وتعفي معالم الإعجاب ودلائل الامتياز والتضحية والتفوق
فيه، وتدلل به على "الاسترجال" حيث الخروج عن طبيعة المرأة في الناموس الاجتماعي، وعلى "الخيانة" حيث الخروج عن الفضيلة، وكلاهما دلالة مصطنعة
لا واقع لها ولا يقين عليها في حياة "زينة".
هذا يختبئ في إعلان القصة لاسم "زينة" هذا الملمح الثقافي الذي يحيل الى المواضعة الاجتماعية وهي تمحو دال المرأة واسمها، فتغدو كما نعرف في سياق بنية
الاتصال الذي تتعاطى معه القصة كنية الرجل دوماً بالابن لا بالبنت، فهو مثلاًَ أبو أحمد أو علي أو سعيد، وان كان ذلك الابن أصغر من فاطمة أو
خديجة أو مريم، أو كان مطوياً في ظهر الغيب قبل زواج أبيه أو قبل ولادته. ويغدو إعلان اسم الأم أو الأخت أو الزوجة عيباً يتحاشاه الرجال، وينطقونه
همساً عند الضرورة التي غالباً ما تكون في الجهات الرسمية، وربما يتوسله الصغار لمشاغبة أقرانهم بما يشبه الفضح لهم وكشف المستور عليهم.
2 مفعول "قالوا":
تحتل مقولات "واو الجماعة" مساحة ليست هينة من القصة، وهي مقول الجماعة، الأمر الذي يجعلها غنية بمادة رؤيوية ثقافية سواء في ترويجها لمجموعة من
القيم والمفاهيم الجمعية تجاه المرأة، أو في طبيعة المناخ الاجتماعي الذي تغدو سيرة أفراده مادة تمضغها الأفواه ويقطّع بها الوقت.
ولا يمكن، بطبيعة الحال، أن ننظر الى هذه الأقوال منفصلة عن وعي الجماعة، ولا أنها تحيل الى وقائع خارجية عن ملفوظاتها بحيث تغدو بريئة وشفيفة.
إن أقوال الجماعة هي الجماعة نفسها في ثقافتها وعقلها ومفاهيمها وذاكرتها، وهي بذلك لا تجسد وظيفة تعبيرية، فقط، عن تلك الجماعة، وإنما تملك دوراً
سلطوياً طاغياً في صياغة الجماعة وعياً وسلوكاً ورؤية وعملاً وكينونة اجتماعية.
إن الجماعة، في ضوء أقوالها المعروضة، لا تبقى أنا الذات العليا، بل يغدو لها وجه مزاوج للأنا له صفة "الآخر"، بحيث تحمل أقوالها مضموناً مزدوجاً من "أنا
الذات العليا" التي لا معدى للذات عن الاندراج فيها بحثاً عن مشروعية اجتماعية، و"الآخر" الذي يغاير الذات ويتربص بها ويتعدى على وجودها أو يحدّه،
والآخرون هم "الجحيم" كما يقول سارتر. وهنا تغدو أقوال الجماعة وتراً بشد الذات بينه بوصفه الأنا/ الآخر وبين واقعها الفردي المرير على نحو مزدوج
أيضاً من الدلالة تتضمن الحماية والانتهاك والتشجيع والخذلان والتبرئة والاتهام والنصيحة والشتيمة، فلا تتمحض للغداء لأنها آخر مطلق، ولا تخلص
للإشفاق والصيانة والبر لأنها أنا أعلى أو أب اجتماعي مطلق، وإنما هي الأب والعدو والأنا والآخر في وقت معاً.. وهذا هو سرها الذي استطاع خطاب
القصة ان يكشف بفنية عن توتره الدفين بين المتناقضات.
وبنظرة الى المحتوى الدلالي للمفاصل الخمسة لأقوال واو الجماعة، وهي:
أ "لو أنه ترك فيهم ولداً ..."،
ب "ليس للحرمة غير ظل الرجل ...".
ج "زهق فلان ...".
د "إن الميتمة انقلبت مع الترمل (رجلاً)...".
ه "جنِّية ترافقها ....".
نجد دلالة تتحرك الأقوال باتجاهها، في دائرة مفرغة، وهي الترامي الى تغييب "زينة" الذي يغدو مرادفاً لانتقاء حضورها واستلابه وانتقاصه، أو تجريمه وتخوينه
وتأثيمه، أو تغريبه وعزله ونزعه من سياق المألوف والطبيعي.
فانعدام الذكَر ولداً أو زوجاً هو ذريعة الأقوال الى انتقاص حضور "زينة" وتفريغ فعلها من المضمون، وهذا الحضور والفعل بمعزل عن الذكر هو جريمة وإثم
يقودان الى اكتناه الخفي والمستور، فينقلب صمود ذلك الخفاء المستور الى ضعف، ووفاؤه الى خيانة، وفضيلته الى رذيلة . وإذا كان الناقص والآثم حالتين
للغياب "لأن النقص يبرر الوصاية، والإثم يبرر السجن والعزل الاجتماعي"، فإن حضور الذكر، بزواج زينة، لا يفضي الى ما يسد ذريعة الأقوال وطموحها
الى التغييب، حيث تعمد الى تأويل جديد للحضور يفضي الى انتقاص وتغييب جديدين لأنوثة زينة، لتخرج الى غياب ما يلبث ان يبلغ تمامه في الجنون ثم في
الموت حيث الغياب المطلق مادياً ومعنوياً.
صراع زينة في سبيل ان تعيش هو صراعها ضد الغياب الذي تفرضه عليها أقوال الجماعة، وما بين موت زوجها الأول وموتها هي يغدو خطاب القصة
معركة يصارع فيها الحضور معاني الغياب، في موت الرجل، والافتقار للود، ومقارفة الإثم والخطيئة، والطلاق، والجنون، وعنوسة البنات... لتنتهي الأمور
الى نقطة الصفر بانتصار معاني الغياب من خلال الموت الذي يمثل الوجه المادي لوأد ظل وجهه المعنوي حاضراً في ما مثلته القصة من معاني التغييب في حياة
زينة.
وإذا كان فاعل أقوال الجماعة، بنسبتها الى ضمير الجماعة وروايتها عنه، يتلاشى في العموم ويذوب في الإجمال للجماعة، مما يعلق مسؤولية القول فإن
صراع زينة مع هذه الأقوال هو صراع حقوقي وأخلاقي في أول مستوياته. ويمكن ان نسأل، هنا، سؤالاً بوليسياً وقضائياً".
من الذي انتقص زينة؟ من الذي قذفها في عرضها؟ من الذي نزع عنها مشروعية الفعل والمسؤولية؟ من الذي حملها على الجنون وحمل الجنون عليها؟ من
الذي قتلها؟.
الإجابة، بطبيعة الحال، هي إسناد تلك الأفعال الى "هم" أو "نحن" وما إليها من دوال جماعتها الثقافية، حيث الإجمال والعموم الذي يلغي المسؤولية من
الوجهة الشرعية والقانونية، لتبقى قضية زينة متعلقاً أخلاقياً فقط، يرهنها للضمير.
وهنا، يبرز في قضية زينة وجه آخر لاصطراع ثقافة الحقوق مع ثقافة الغاب، وثقافة الضمير الإنساني مع ثقافة القطيع، وثقافة النور مع ثقافة الظلام، وثقافة
الشرع الحكيم مع ثقافة الغريزة والقوة، وثقافة المعاني والمثل مع ثقافة الجسد، وثقافة الحرية والمسؤولية مع ثقافة الوصاية و"الإفك".
وللحديث بقية إن شاء الله.


zayyad62@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved