الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 26th June,2006 العدد : 159

الأثنين 30 ,جمادى الاولى 1427

للنفس قسوةٌ أخرى
عبدالرحمن السلطان - الرياض
مسَّد الطبيب يدي اليمنى دون مقاومة مني. لم أكن أستشعر رهبة الموقف الجديد، مجرد وخزة سريعة وتنتهي فصول القصة!
: إلى أين أنت ذاهب؟
: .....
: أعتقد من الوااااجب أن...
(مقاطعاً) شكراً.
الثامنة مساءً أغلقت باب عيادتي، على الرغم من عدم نيتي السهر عند (عماد) الليلة إلا أنني اتجهت إليه، شيء ما يقودني إليه... أيكون موقفه الجديد من علاقتنا.. أم أنها مجرد غيرةٍ سمجة بدأت تدق أطنابها في صحراء صداقتنا؟..
قررت أن أسير على قدمي نحو مكتب عماد، فالمسافة بين مكتبه وعيادتي قصيرة فهما على شارع واحد هو شارع العليا العام.
لأول مرة ألاحظ المحلات الفاخرة على جانبي الطريق، ماركات عالمية.. غالية الأثمان.. أما الزبائن فهم ليس بالكثرة المتوقعة!... كما أنني لم أعد أحفل أو أبتهج برؤية الجديد أو التمتع بالفرجة على الغريب.
صديد من زمن قديم ولوعة مرة تتكور ثم تهوي في أعماق فؤادي العليل، أما أنت فلست سوى.... جاهل يتحرك بلا بوصلة أو هدف.. لماذا زمني طويل وعلقم؟
: آسف أنت لا تعاني من شيء؟
: ولكن..
: مجرد وهم...
: احتاج إل... إلى.
: أعتقد يا دكتور أنك بحاجة إلى أقرص (بلاسيبو).
: أستطيع وصفها لي!
: هذه مشكلتك.
: ولكن...
: مساء الخير.
عدل السكرتير الهرم من جلسته حال رؤيتي، غير أنه ما زال ممسكاً بسماعة الهاتف الأزرق، كما أن وجهه العابس استمر على حاله؟
: تفضل دكتور....
: عماد... الأستاذ عماد موجود؟
: .. أخشى أنه غير موجود.. خرج منذ ساعة.
: سيعود؟
: في الحقيقة.. آآ..... لا أدري.
أقلب نظري القلق في أركان مكتب السكرتير الذي يعادل مساحة عيادتي!، على الرغم من أن السيد السكرتير المحترم يجلس على مقعد من حصيلة مالي، فأنا شريك في هذا المكتب الفخم.
: على العموم شكراً لك.
لماذا يهرب مني عماد؟ أهي مشاغل العمل أم أنني مجرد مزعج متطفل، ألم نسهر سوياً الأسبوع الفائت؟، ألم نحتسِ كوبي نسكافية في أحد (كوفي شوب) شارع التحلية يوم الأحد الماضي؟
أستحث خطى العودة نحو العمارة التي تؤوي عيادتي فلقد ركنت سيارتي في مرآبها الضيق.... شوارع نظيفة.. خالية من البشر... مجرد عمالة رخيصة ومحلات تتوارى خلف (فترينات) مبهرة
وإضاءة فاقعة.
عيادتي مجرد مخبأ للأحلام الضائعة.. فيها لم أحقق نجاحاً مهنياً باهراً على الرغم من دخلي المحترم جداً.. ابتسم للعم (مرتضى) حارس العمارة.... أو المدير العام لشؤونها الداخلية والخارجية.. لم يكن يعلم أن ابتسامتي سر لشقاوتي.. تجاوزت عتبات الدرج وأنا أمضغ صمتاً بلا حزن.. هاهو قلبي يعتصر الأسى وقد خالجني شك بما حولي..
منذ أن تسربت ريحها.. وصوتها يكاد يلازم مخيلتي.. عبيرها ينفث الأريج في قلبي.. يُوسّع شراييني بل إنه يعطي القلب قوة إضافية.. فيتسارع النبض ويتصل.
: عيادة الدكتور خ... خالد... للأمراض ال...
ابصق على اللوحة الصماء، فهي من جرّ علي ويلات (سارة)!
تلك الوخزة اللعينة لا تزال تلاحقني، أما لسان حالي الممتقع فلم ألتفت نحوه.... هذه المرة أستشعر عاصفة عطر قادمة.. عاصفة ما زالت تعبث بأنفي الدقيق.
: أهلاً سارة..
: .........
: هلا تمددتي على الأريكة... لا بد من الاسترخاء...
رائحتها المميزة تطرد خيالات ذات لون أصفر باهت، أما أنفاسها فمجرد قرع طبول حرب.
: أعاني يا دكتور.. من رهاب مستطير... من خوفٍ شديد.. من كل شيء.. مع رغبة ملحة للبكاء!
: لا عليك
: دكتور خالد... أرجوك..
: مجرد مهدئات سوف تفي بالغرض.
: .... أنا أثق بك.
كم أمقت هذه الثقة.. تحملني ما لا طاقة لي به..
: ألو.. الدكتور يوسف... آه نعم... أهلاً بك كيف حالك والأبناء.... بخير... أريد منك خدمة بسيطة... أريد موعداً قريباً في عيادتك... نعم إنها حالة احترت في علاجها.... متى؟.... أقرب فرصة... حسناً بعد ساعة.
انتزع معطفي من شماعتي المتهالكة فبرد الرياض القارس لم يترك لنا مجالاً للمناورة. أثناء طريق للخروج أقذف بكلمتين للعم مرتضى.
: إن سأل علي أحداً فقل له إنني لن أعود مرة أخرى.
يرفع إحدى يديه دليلاً على وصول الرسالة، أما يده الأخرى فيرفعها تحية للوداع.
: الدكتور يوسف بالداخل؟
: نعم... لكنه ينظر مريضاً...
أتجاهل حديث الممرض ذي العين المحمرة، أطرق باب الغرفة وأدلف دون انتظار الرد...
: أهلاً د. خالد.... أين مريضك؟
أتجاهل حديثه.. أخلع معطفي.. أفك أزرار قميصي القطني... وأتمدد على أريكة العيادة الجلدية ثم أطبق جفني المجهدين:
: أعاني يا دكتور... من رهاب مستطير.. من خوفٍ شديد... من كل شيء ... مع رغبة ملحّة للبكاء!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved