الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 26th June,2006 العدد : 159

الأثنين 30 ,جمادى الاولى 1427

كحياة رزان
عبدالرحمن الخلف
تنام جزيرة (فَرَسان)كل ليلة محتضنة أحلامها المستحيلة قابعة وسط الماء الأزرق المالح الذي يستمد ملوحته من الدموع تارة ومن فضلات يخوت النخبة تارة أخرى!
وحين يصبح ناسها قبل بزوغ شمس الوطن؛ فهم لا يعبأون من أية جهة ستطل عليهم وذلك بعد عقود من مضغ أسطورة شمس الشمال!
(رزان) تلك السمراء الجميلة المسكونة ببراءة وطهر الطفولة غضة العود كثرى تهامة تلعب مع صويحباتها اللائي يبتكرن ألعابهن كأبدع ما يكون، دون أن يسطو أحد على حقوقهن الفكرية وذلك على اعتبار (فَرَسان) لم تخالطها براثن العولمة بعد!
وإلا فباقة ألعابهن لا تفوق باقات قناة (سبيس تون) أو (المجد) فحسب؛ بل إنها تبز خزعبلات (دزني لاند) بذاتها!
تشعر (رزان) بوخزات في بطنها كالسكاكين لا تكاد أمعاؤها الرقيقة تطيقها لينطلق بها أبوها كالبرق نحو (العبّارة) الوسيلة الوحيدة لربط (فَرَسان) بالخارطة! مبحراً بها تجاه مستشفى جازان المدعوم بالكوادر الطبية العمالية العالمية! حيث لم تحظ فرسان بهم بعد.
يُعمل صاحب المشرط سلاحه المدبب في بطن صاحبة الرقم كذا - هكذا تتم معاملة المرضى هناك - يستأصل الزائدة الدودية ثم يرمم الآثار ويدمدم المسألة فيمضي.
تفيق (رزان) تعاود اللعب كطير أطلق سراحه ثم لا تنسى أن تروي لبنات المدرسة كافة التفاصيل منذ الألم وحتى الغيبوبة الصغرى:
(فاطمة..فاطمة..شوفي الخيوط اللي في بطني.. تصدقين خيطوني زي الثوب!)
(تصدقين لو قلتي لي قبل العملية كان كلمت أمي تخيط بطنك أحسن لك من خياطين المستشفى!) ردت عليها فاطمة بروحها الساخرة.تكركر الصغيرات محتفلات بسلامة (رزان) المؤقتة!
بعد مرور شهرين تعاود الآلام أمعاء
(رزان).. وتزداد وطأة الألم والحمى التي لا تنفع معها المسكنات الرخيصة.. ثم يعاود الأب جريانه مع الريح مفجوعاً نحو رحمة مستشفى فرسان المتواضع...
خبرة حكماء المستشفى لم تسعفهم لمعرفة سر آلام الصغيرة!
لا يفكر الأب كثيراً قبل انطلاقه ب(رزان) نحو مرفأ (العبّارة)..
بانتظار موعد الرحلة الإجبارية.
أمواج البحر تتماهى مع أمواج الحياة لتؤجل الرحلة نحو مستشفى جازان الأقل رداءة من سابقه!
مرة.. مرتان..ثلاث..و(رزان) تتألم وقلب الأب يتألم و(فَرَسان) تأن..بينما أصحاب المكاتب الوثيرة يبدلون مشالحهم عند كل احتفال!
(لا تقلق يا (أبا رزان) لقد تم اكتشاف سر آلام ابنتك ولله الحمد..فقد بينت الأشعة وجود جسم غريب في أحشائها وسنقوم بعمل اللازم لإزالته هذا كل ما في الأمر) طبيب مستشفى جازان يطمئن الرجل بعد وصوله لإسعاف (رزان).
(أهذا كل ما في الأمر؟!) يصيح (أبو رزان) في وجه الطبيب (أي جسم غريب؟! وعن ماذا تتحدث؟!)
(لا تنفعل أرجوك) يخلع الطبيب نظارته ليكشف عن عينين باردتين:
(هذا يحدث كثيراً في مستشفيات منطقتنا الراقية فالطبيب بشر يخطئ ويصيب وقد كان قدر ابنتك يومها أن الجراح نسي كمية لا بأس بها من (الشاش) في بطن ابنتك! هذا كل ما في الأمر) كرر الجملة الأخيرة بثقة كادت أن تفقد
(أبا رزان) بقية تماسكه ثم أكمل الطبيب مرافعته:
(فربما كان مجهدا ليلتها جراء كثرة المرضى..وعلى أية حال هذا كلام في الماضي)
(الذي هو نقصان في العقل طبعاً) قاطعه (أبو رزان) بحرقة ثم طوى شريط الكوابيس الجاثمة على أفقه وقال:
(والآن إيش بتسوي للبنت؟!)
(اطمئن..الأمر أسهل مما تتوقع، عملية بسيطة لا تستغرق نصف ساعة وبترجع بنتك زي الحصان)ينتظر (أبو رزان) خارج غرفة العمليات والساعة لا تكاد تحث دقائقها على المرور، وقد أودع
إنسان مؤمن بقضاء الله وقدره و...)
(قلّي أنك مجهد أنت الآخر..وأنك بشر تقصب وتصيب! يا أخي أنتم من أي مجزرة تخرجتم؟!) انفجر (أبو رزان) في وجه الجراح شاهرا ًيداه على وجهه...
(ألا يوجد في هذا الكون أداة تدريب غير ابنتي (رزان) كي تمارسوا عليها أخطاءكم؟! انتم ما تخافون الله؟!)
(لا حول ولا قوة إلا بالله..لا حول ولا قوة إلا بالله) سُمعت حوقلته في كل ردهات المستشفى ثم هام على وجهه بحثاً عن مسؤول وما من مسؤول.
ظلت (رزان) تحت المهدئات المقلقات وتحت متابعة الطاقم الفاقد الشيء.
قرابة الشهرين.. حتى قدر لصحفي من أبناء المنطقة أن يكشف جزءا من الحجاب لينتشر الخبر الصاعقة بسرعة لدى الناس ثم يصل ببطء لأسماع الوزير الذي أمر بنقلها إلى أحد مستشفيات العاصمة.
استبشر (أبو رزان) خيرا.. فعلى الأقل سوف يغادر بؤرة التجريب التي ظلت (رزان) ترزح في كنفها طيلة الأيام العجاف الماضية.
في الأسبوع الثاني بدت على محيا (رزان) ابتسامة مشرقة..ولعلها بوادر استجابة للعلاج المكثف الذي أعطي لها منذ وصولها (الرياض)..وكانت
(أم رزان) متفائلة بعودة سريعة إلى جزيرتهم الحالمة ففي تلك الليلة أخذت تجهز الحقيبة فمن يدري فربما يكتب الطبيب ورقة الخروج في أية لحظة!
ازرقّ وجه رزان فجأة وبدأت بالسعال ثم تقيأت سائلاً أسود لم يعرفه أبواها فصرخ الأب في وجه الممرضة الآسيوية المسكونة بالسلبية (أن نادي الطبيب بالحال) فاتصلت بالطبيب الموجود في بيته على جواله فقام بإعطائها بعض التوجيهات بعد سؤالها عن خطورة الحالة وختم كلامه بوصفة (فيفادولية) ناجعة.
(ماما..بابا..أنا تعبانة وأبغى أنام)
نامت (رزان) وارتاحت كما ينام ويرتاح المأتمنون على أرواحنا..وتركت لنا أنموذجاً - سينسى - للقابعين على هامش الخريطة!
1- للأسف..القصة ليست من نسج الخيال!
2- حسب (صحيفة الجزيرة) فالنص مقتبس من آخر جملة نطقتها (رزان)
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved