الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 26th July,2004 العدد : 69

الأثنين 9 ,جمادى الثانية 1425

الجواهري ذلك الميت الحيّ*
* د. علي بن محمد الرباعي
* ورقة عمل مقدمة إلى الاحتفالية بمركز الجواهري ببراغ
* الباحة عضو مركز الجواهري
من الأسماء التي تمر بذاكرتنا أسماء تاريخية، أبدعت في جانب من جوانب الحياة وأضاءت حيزاً من مسار البشرية ورسمت صوراً من الجمال أمام ناظر الإنسانية وعندما نذكر التأريخ تحضر الأسطورة بقوة لأنها تمثل الوجه الآخر له: (وإن كانت ترتكن إلى الخيال أكثر من الواقع وإذا جاز أن نطلق على بعض الرموز وصف (التأريخي) فمن المفروض أن (نلصق) ببعضهم الآخر تهمة (الأسطورة)، وأحسب أن شاعراً بحجم محمد مهدي الجواهري رحمه الله أول من ينطبق عليه الملمح الأسطوري، ومن قرأه إنساناً وسيرة وشاعراً فربما يوافقني الرأي ويخرج بذات الانطباع المدهش والمبهر الذي خرجت به وأنا أتأمل حياة هذا الرجل الذي (أحب الناس والأجناس من يسوّد كالفحم ومن يبيّض كالماس) وكانت لي معها وقفات..
أولها: ما تشبعت به روحه من فيض إنساني نادر الحدوث وما خالط وجدانه من ضمير حي اعتبرهما من أقوى (المسوّقات) لأشعاره لتغدو حداءً على كل شفة وفوق كل لسان وقد عبّر عن بعض إنسانيته شعراً فقال:
أقول لنفسي إذا ضمّها وأترابها محفل يزدهى
تسامي فأنت أعزّ النفوس إذا قيس كل على ما انطوى
وأجمل ما فيك أن الضمير يصيح من القلب (إني هنا)
ومع كل هذه (الشفافية) في وصف (الذات) إلا أنه لا ينكر أنه صاحب هنات شأنه شأن بقية البشر، حيث قال في قصيدته (ليلة معها):
لا أكذبنك أنني بشر جمّ المساوئ آثم أشر
لكم شقيت بما بصرت به فوددت أني ليس لي بصر
النفس شامخة إذا ظفرت بك ساعة والكون محتقر
الوقفة الثانية: قدرته على الرؤية (الاستباقية) للأحداث والمحدثين والتي تؤكد أن موهبة الشاعر الجواهري (توليدية لمستقبل خلاق) إنها الرؤيا المتجاوزة للسائد الكئيب و(الكاشفة) عن (غائب) يحضر قريباً وها هو يخاطب (الطغاة) الذين غرّبوا المبدعين وأحرموهم من أبسط (حقوقهم) الآدمية، بقوله:
باقٍ (وأعمار الطغاة قصار) من سفر مجدك عاطر موار
ولقد رأى أنفاس الطغاة تتناهى على مدارج الريح مغبّر قائلاً:
عصفت بأنفاس الطغاة رياح وتنفست بالفرحة الأرواح
إلا أنها فرحة لم تتم؟!!
الوقفة الثالثة: (الطبع التمردي) والذي لم يجعله ينسجم مع (التيارات) و(الأحزاب: بل تمرد حتى على ملك العراق في ذلك العهد رغم أن الملك كان يتودد له وكان ينادي الشاعر ب(ابني محمد) ورشحه للبرلمان وحين رفض ذات مساء الذهاب للبلاط الملكي (فعوتب من بعض محبيه: فأجابهم بقوله: ألا ليت الإنسان ينسجم مع نفسه دائماً).
الوقفة الرابعة: (قدرة الشاعر) على توفير التناغم الحركي بين شكل القصيدة ومضمونها وربما ملك (حدساً) من نوع (خاص) قد لا يتوفر إلا عند القلة من شعراء العرب كذي الرمة والمتنبي، هذا الحدس النادر يخلق تفاعلية بين المتلقي وبين القصيدة، فتغدو القصيدة ومن يقرأها كياناً واحداً تصعب تجزئته!!
الوقفة الخامسة: لغة الجواهري لغة (إلماح) أكثر من كونها لغة إيضاح فتشعر أنه يعلي من شأن القارئ مفترضاً أن شعره لا يفهمه إلا الأذكياء!! حتى أنك وأنت تتصفح (مجموعته الكاملة) تسلّم أنك تقرأه بعقلك أكثر من قراءتك له بعاطفتك وإن كانت أبياته مؤهلة أن ترتقي (بالفكر) في كثير من قصائده إلا أن بعض القصائد قادرة على استمطار الدموع:
كم هزّ دوحك من قزمٍ يطاوله فلم ينله ولم تقصر ولم يطلِ
ثبّت جنانك للبلوى فقد نُصبت لك الكمائن من غدرٍ ومن ختلِ
الوقفة السادسة: (ملامح الحزن) المعجونة بها ملامحه فقد صهرت أفراحه (قضايا العروبة) وأزمات العراق حتى تشطّر كيانه أو تشظى:
دمشق ما جاء بي عيش أضيق به فضرع دجلة لو مسحّت درار
أنا العراق لساني قلبه ودمي فراته وكياني منه أشطار
إنه قدر الشاعر المبدع: مع المعاناة اللا نهائية وإنها ضريبة الإبداع التي لا فكاك منها ولا مهرب عنها!!!
الوقفة السابعة: لقد جمعتني بالشاعر كلمته المعبّقة بالفصاحة وجملته المشبّعة بالإنسانية، واكتمل جسر التواصل عبر (ابن أخت الجواهري) الأستاذ رواء الجصاني الكاتب والناشر المغترب (ببراغ) وصاحب (دار بابيلون) للنشر والتوزيع والذي أصدر عن خاله كتابين والثالث في طريقه إلى القراء، وقد حاول خدمة تراث الجواهري فأقام (مركز الجواهري ببراغ) عاصمة جمهورية التشيك وتم الاحتفال بمرور عامين على افتتاحه في 7 7 2004م وشرفني بعضويته فأكرم به من ابن أخت وأنعم بالجواهري من خالٍ. وكم من موتى في حياتهم وآخرين ببطن الأرض إلا أنهم أحياء.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved