الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th December,2005 العدد : 135

الأثنين 24 ,ذو القعدة 1426

خطاب الأنا العربية بين التقليل والتضخيم
(قراءة في وعي الشخصية العربية) «7»
لقد تزامنت عودة الوعي المتسامي إلى الشخصية التاريخية في حاضر الوعي الواقعي للشخصية العربية، مع الهزائم السياسية والعسكرية المتلاحقة، بعد فشل الثورة العربية واكتشاف العرب ملفات وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو ومقررات مؤتمر سان ريمو وتنفيذ سياسة الانتداب على الدول العربية الفارة من جحيم الدولة العثمانية والبدء في تحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود والاستعمار.
هذه الأزمات كانت تتطلب نوعاً خاصاً من الهوية يتقارب مع الواقع ويُعزل عن وعي الشخصية التاريخية، وتشكيل هوية بهذا التوصيف لا يتم إلا عبر حصرية الوعي حول نقطة في آخر الطرف، فكانت القومية محتوى هذه النقطة.
وهكذا ظنّ الوعي العربي أنه قادر على تجاوز تلك الأزمات المتلاحقة عبر التجمهر حول قيمة القومية العربية، صائغاً منها، تعريفاً أولياً لهويته ونشيداً رسمياً لوعيه الشخصي.
بلادُ العُربِ أوطاني منَ الشّامِ لبغداد
ومن نجدٍ إلى يَمَنٍ إلى مِصرَ فتطوانِ
فلا حدٌّ يباعدُنا ولا دينٌ يفرّقنا
لسان الضَّادِ يجمعُنا بغسَّانٍ وعدنانِ
لنا مدنيّةٌ سَلفَتْ سنُحييها وإنْ دُثرَتْ
ولو في وجهنا وقفتْ دهاةُ الإنسِ والجانِ
فهبوا يا بني قومي إلى العلياءِ بالعلمِ
وغنوا يا بني أمّي بلادُ العُربِ أوطاني
(سليمان العيسى)
وكان إثبات الهوية العربية لفلسطين مقابل ادعاء الفكر الصهيوني بيهوديتها سبباً ركيزاً لتأصيل القومية العربية داخل وعي الشخصية العربية؛ يقول محمود درويش:
سجل!
أنا عربي
أنا اسم بلا لقبِ
صبورٌ في بلادٍ كلُّ ما فيها
يعيشُ بفورةِ الغضبِ
جذوري...
قبلَ ميلادِ الزمانِ رستْ
وقبلَ تفتّحِ الحقبِ
وقبلَ السّروِ والزيتونِ
.. وقبلَ ترعرعِ العشبِ
إن معطى القومية كان الحلم الذي اعتقدته النخب السياسية والثقافية العربية، بأنه سبيل النجاة، والوحدة والأمة، وإن كانت تلك المفاهيم تتفاوت نسب دلالاتها وارتفاع سقفيتها وسماكة جدارها عند النخب السياسية والثقافية العربية، كلاً وفق ما ينتمي إليه من تيار؛ فالدلالة تتفاوت كلما اقتربنا أو ابتعدنا عن التيار الإسلاميّ أو الماركسيّ أو الوجوديّ؛ فتعريف القومية عند المنتمي إلى التيار الإسلامي تختلف دلالةً ومحتوى؛ فالأمة تزاحم القومية في صياغات هذا التيار، وتدعو إلى إعادة تكوين الأمة في مفهومها الشمولي، وفصل الأمة عن أي تطبيع مع الغرب الذي نسجه جميعاً داخل شرنقة العدو والمتآمر؛ فظلت رؤية التوجس والشك تؤلف خطابات الهوية من منظور التيار الإسلامي، ودخل مصطلحا العلمانية والغزو الفكري منظومة الثقافة الإسلامويّة، وغلبا على علاقة التطبيع بينها وبين الغرب، بل بينها وبين التيارات العربية الأخرى، وهو ما كوّن قاعدة تاريخ صراع التيارات في الوطن العربي، الذي أنتج جماعة الإخوان المسلمين ونظرية التكفير، وتمدد أفرعها لبقية البلدان العربية.
صعد التيار الثوريّ الماركسيّ العربيّ إلى مركز الحكم في البلاد العربية بعد إسقاط الملكية في كل من مصر والعراق وبعد خروج الاستعمار من سوريا ولبنان وليبيا والجزائر وتونس، وحكم الجيش هذه الدول. وتهدف الثورة الماركسية العربية، أو كما ادعت حينها، إلى محاربة الاستبداد والقمع السياسي في أي صورة له، كما هدفت إلى محاربة الطبقية والدعوة إلى العدالة الاجتماعية وحرية الفكر واحترامه، وكانت الناصرية النموذج الثوري الأعلى الذي اعتنقته الكثير من النخب السياسية والثقافية، وصاحب كركتر خاص يقول عنه الأمير خالد بن سلطان بن عبد العزيز في كتابه (مقاتل من الصحراء): (كان لعبد الناصر تحدياته الأيديولوجية أيضاً. كان بطلاً نتطلع إليه ويحبه الأمراء الصغار بلا استثناء حباً جماً إلى درجة أن الخلاف كان ينشب بيننا إذا قال أحدنا إنه أشد حباً له، كنا جميعاً ناصريين كما كان أكثر العرب كذلك...) - مساءلة الهزيمة - د. محمد جابر الأنصاري - ص 29، بل وجد له تأثيراً عميقاً في وعي الشخصية العربية الشعبية، ولعل هذا الحضور الطاغي لعبد الناصر، واحد من أعظم رؤساء العرب الذين باعوا لمجتمعاتهم وهم البطولة فكانت خموراً قديمة في قوارير جديدة، أقول: لعل هذا الحضور الطاغي لعبد الناصر يرجع إلى أنه أعاد إلى الوعي الشعبي رائحة البطولة التي ما زالت راسخة في قاع وعيهم نتيجة النصف الآخر للقيمة العلياويّة للثقافة التاريخية.
إن أهم ما يميّز ثقافة العرب الشعبية والنخبوية على السواء أنها ثقافة وجدانية، وثقافة بهذا التوصيف تميل عادة إلى أسطورة البطل والنهايات السعيدة والخطابات الرنانة ذات الجرس الموسيقي القوي، والأناشيد الحماسية؛ ولذلك تستطيع بسهولة أن تخدعهم، وهي ثقافة - كما أسلفت - تحقق لذلك الوعي مقداراً من الإزاحات.
إن وعي الشخصية العربية لم يستوعب - على رغم أزماتها المتلاحقة - أن كل بطل يتحول في نهاية المطاف إلى دكتاتور وطاغية، وخير من يمثل هذه النظرية رؤساء العرب الثوريون ولا استثناء من هذا القانون؛ فالحقيقة الغائبة عنّا دائما أننا نحن الذين نمثل وعي الشخصية الشعبية ومن يصنع تماثيل الأبطال، ونحن - كمرحلة لاحقة - من يحولهم إلى دكتاتورات، وبعدها نفقد السيطرة على ضبطهم. إن الرئيس الدكتاتور - كما يصفه المفكر السعودي عبد الله القصيمي - (الاستبداد والطغيان إحدى مركباته.. لا يريد بمغامراته أن يحقق أهدافاً معينة، إنما يريد أن يصنع أحداثاً مثيرة، فهو حدث لا فكرة، يتنقل بين المتناقضات في مهرجانات من الدعاية والإعلان، يكتب الدستور ويطلق الرصاص على من ينادون به، يدعو إلى الحرية ويعاقب من يصدقونه، يمجد الكرامة ويسحبها من السوق، يقدّس اسم الشعب ويحتقر إرادته،.. لا يحترم عقل الجماهير ولا يخشى ذكاءها... إن انتصارات الدكتاتور وهزائمه مأخوذة من حسابات الجماهير... وأبشع ما في الدكتاتور أنه اعتداء على الرجولة.. يحوّل المجتمع إلى قطعان من الخصيان الفاقدين الفحولة العقلية والأخلاقية.. لا يبحث الدكتاتور عن الأفضل بل عن الأضخم... إنه بسبب الظروف التي يعيش فيها الدكتاتور قد يقدم نفسه كرسول عزيز ينادي بمحاربة الرجعية والإقطاع والاستغلال، ولكن الدكتاتور هو أخبث مستعيد لتلك العصور، بل إن مجرد وجود الدكتاتور هو أوقح وجوه الرجعية، فإذا هاجم أي دكتاتور الرجعية، كان المعنى أن الرجعية في أعلى درجاتها تهاجم الرجعية في إحدى درجاتها).. فنحن نستطيع أن نعمم تلك المواصفات على كل رئيس عربي دكتاتوري في أي مكان وزمان بداية من أبي عباس السفاح ووصولا إلى صدام حسين.
إن الثقافة الديكتاتورية بالمواصفات السابقة بدأت تتسرب من النخب السياسية إلى النخب الثقافية، وكما أصبح في كل مجتمع عربي رئيس دكتاتوري، أصبح هناك مثقف دكتاتوري، وإن اختلفا في الوسيلة تساويا في الدلالة، وأصبح الوعي الشعبي العام مربوطاً بحبل يشده طرفان.
إذا سلّمنا بالفرضيّة التي وضع قانونها الحجاج بن يوسف (يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق..) بأن المجتمعات الدكتاتورية والمستبدة هي التي تصنع الرئيس الدكتاتوري المستبد والمثقف الدكتاتوري المستبد، لزمنا قراءة مختلفة لوعي الشخصية العربية الشعبية من خلال هذه الفرضيّة، بأن (دكتاتورية الجماعة هي التي تغذي دكتاتورية الحاكم الفرد،... فالجماعة الحرة تخلق رجالها الأحرار، والجماعة المستبدة المستعبدة تعيد إنتاجها على مقاسها وطرازها) - مساءلة الهزيمة - محمد جابر الأنصاري - ص 146.
(يتبع)....


سهام القحطاني
seham_h_a@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved