الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th December,2005 العدد : 135

الأثنين 24 ,ذو القعدة 1426

شجرة الطفولة.. غابة الأدب «3»
د. صالح زيَّاد

الطفولة - البداية
البداية هي الوعد والأمل، وهي البشارة والفأل. بدايات الأشياء هي طفولتها المشرئبة إلى الكمال والتمام. الطفولة، هكذا، هي التجدد وهي التخلق المستمر. أن تكتمل يعني أن تنتهي... أن تبلغ التمام يعني أن تشيخ، والشيخوخة بالمعنى الشعري الذي لا ينفصل عن المعنى الحيوي، ليست بداية بل نهاية.
تلبُّس البداية باسم الطفولة لا يعني وصفها بالصغر، بل يعني في الصميم رؤيتها حية نامية.
في شعرنا العربي مكرورة لتركيب لغوي يضيف الطفل إلى الأشياء أو يصفها به، مانحاً إياها تلك الرؤية الحيوية النامية ومستمداً منها في الوقت ذاته خواص شيئيتها الظرفية والحسية والعملية، ليغدو مركبُ الحيويةِ هذا أسطورةَ خَلْق جديد، ممتلئٍ بمعنى الاتجاه إلى المستقبل وبإرادته.
نجد مثلاً، (طفل الروض) (طفل النبات) (طفل الصباح) (الليل طفل) (الوصل طفل) (البدر طفل) (العهد طفل) (طفل الأماني).. إلخ.
ومعنى البداية التي تتجه بالأشياء هنا إلى المستقبل، لا ينفصل عن معنى الحدب عليها والرعاية لها، كونها طفلاً، ما يعني أن المستقبل ليس امتداداً تلقائياً ينطرح باتجاه الأمام، بل هو صناعة وبناء وتوجيه ورعاية، إنه إرادة أن نمتلك مستقبلاً، أي إرادة أن نحيا، وحلمه.
الطفل والمرأة
هناك قران في مستوى من مستويات الشعر العربي بين الطفل والمرأة، فهناك دوماً صورة المرأة الحانية على طفل بأشكال مختلفة، محفوفة بإعجاب الشاعر وولهه، ويستوي في هذا السياق أن يجعل الشاعر المرأة في شعره مقترنة بطفل، تنظر إليه، أو تضمه في حجرها، أو ترضعه، أو تلاعبه... إلخ، وأن يشبهها بظبية أو بقرة وحشية مطفل، فالنتيجة تضعنا بإزاء معنى لا يكتمل مدلول الطفل فيه في غياب المرأة، مثلما لا يكتمل مدلول المرأة بمعزل عن الطفل، ليستحيل هذا المعنى بدوره إلى معنى أعمق يجاوز بنا معنى أن تكون المرأة أماً وأن يكون الطفل ابناً، أو ما وقف عنده الشرّاح من جمال المرأة ذات الطفل، لأنها (أحسن نظراً من غيرها، لحسن نظرها إلى طفلها من الرقة والشفقة).
ولا ينفصل وصف المرأة، في الشعر العربي القديم، بأنها ذات طفل، عن مجموع وصفها الجسدي الذي يذهب إلى تأكيد أهليتها لوظيفة الأمومة، والخصوبة النوعية، من خلال خلقها شعرياً بجسم ممتلئ، وميل إلى البدانة.
إن الشاعر يؤثث بالطفولة عالمه الشحيح، ويفجر، في عدمية هذا الواقع، ونذر الجفاف والقتل والتيه والموت المحيطة به، نبع الخصوبة المتجدد، ونسل الحياة ودلائلها المستقبلية التي تشرع الأفق للبقاء، وتغالب دواعي الفناء وعوامله بما تختزنه من طاقات الحياة، ومن معاني دفئها العاطفي، وقرارها.
وفي مستوى آخر نجد اقتران المرأة بالطفل، كاقتران الأشياء بمعاني الحيوية والحركة التي تخرج بها عن تضاريس جمودها، ومألوفها.
الطفل هنا مقابل للاتزان والجدية حيث أفق اللعب وفضاء الجسد الخارج عن خارطته والنافر من تضاريسه.
ولا يختلف (طفل التيه) الذي (تحرك في مهد طرف) جميلة الوأواء الدمشقي عن (طفل الغصن) الذي رآه الزهاوي (على الهبات... يمضي ويعود)، فالحركة هنا وهناك اتساع يكتشف بهجة المكان، وغنج يفلت من قبضة الصرامة وقيد الثبات وإطلاقية السكون.
اقتران الطفل بالمرأة، في الشعر، يحيل، فيما يحيل إليه، إلى بنية ثابتة في الوعي الثقافي، يؤلفها التقابل بين الموت والحياة، والماضي والمستقبل، والسكون والحركة.
فالطفل هو دال الحياة والمستقبل والحركة الذي يعادل به العقل السلبية.
لكنه دون المرأة ذخيرة نافدة وأفق مغلق، ولهذا جاءت المرأة دالاً على الولادة المتجددة ونبعها الدافق، فلم تكتمل دلالتها دون طفل.
الطفل والمدينة
في مقابل المدينة برز الطفل في الشعر علامة على الطبيعة والفطرية والبراءة.
المدينة هنا عالم تغادره الألفة والوداعة والطهر، ويخلو من العواطف ومن حس التكافل والتراحم... إنه فضاء متوحش، أمام دلالة الطفولة التي تصبح دلالتها ضمن هذا الفضاء دلالة ذات أوجه متعددة: تهجو المدينة، وترثي نضوب الحس الإنساني فيها، وتحيل إلى الريف والبراري والغابات التي تتنزل منزلة الطفولة في الوعي بالمجتمع تكويناً وتاريخاً.
ويبدو أن الشعر مهيأ نوعياً وسياقياً، للوفاء بمعنى البدائية التي تقترن بالطفولة وحسها، فهو تلقائياً يجد فيها القلب، أمام (مدينة بلا قلب) بحسب أحمد عبد المعطي حجازي.
إنه هنا، كما هي الطفولة، انطلاق من قيد الآلة وميكانيكية العقل، وتمرد على الرتابة، بما يجعل الأشياء ناطقة، مثلما كان كل شيء يتكلم!
بروز الطفولة في مقابل المدينة، في الشعر العربي الحديث، يؤشر على ثابت متجدد في الوعي بالشعر يصله بذلك الحس الذي يأنس إلى امتلاك العالم، بقدر أنسه بحياة تقع المدينة منها في موقع الضد، سواء في دلالتها على التكدس والعفونة، أو القيد والمحدودية، أو الزيف والاصطناع.
ومن المفارقة، كما يبدو، أن تترافق، في الشعر العربي الحديث، تلك النغمة الملحاحة على هجاء الزمن العربي الشائخ والمتخلف، والمتلهفة على النهوض والتقدم، مع صور الهجاء للمدينة الحديثة، ورغبة الفرار إلى نقاء البراري، وطفولة الغاب.
ولعل أبا القاسم الشابي، أحد أبرز من جسد في شعره تلك الدلالة بصورها المتنوعة والمتخالفة، فعلى الرغم من الأوتار الاجتماعية التي غنى فيها للثورة والعدل والتقدم، واستنهض الوعي تجاه الجهل والبدائية والتخلف، فقد كانت (طفولة الغاب) كما يعبر، فضاء أثيراً، اتخذ من إسباغ معنى الطفولة عليه مداراً لتخليق الدلالة الضدية للمدينة:
فزَمَانُ الغابِ طفلٌ لاعبٌ
عَذْبٌ جميلْ
وزمانُ النَّاسِ شَيْخٌ
عابِسُ الوجهِ ثَقيلْ
لكننا عند أحمد عبد المعطي حجازي نجد التدليل بالطفولة على قسوة المدينة ووحشتها المريعة وانعدام حسها الإنساني. وتبدو الطفولة، هنا، عنواناً للإنسان، واسماً لمعناه وكينونته.
ولنقف، مثلاً، عند قصيدته (مقتل صبي) التي تحشد دوال الطفولة بكل ما تجتمع عليه من نبض حيوي غامر، وأحاسيس حميمية، وحدة دلالية على الحاجة إلى الرعاية والأمن والتعاطف والتقارب الإنساني، في مقابل دوال المدينة التي تغدو رديفاً للموت!
الموت في الميدان طَن
الصمت حطّ كالكفنْ
وأقبلت ذبابةٌ خضراء
جاءت من المقابر الريفية الحزينة
ولَوْلَبَتْ جناحها على صبي مات في المدينة
فما بكت عليه عينْ!
إن موت الطفل، هنا، حدث فاجع.
لكنه ليس موضوع القصيدة، بل هو شكلها المصور للمدينة والدال عليها دلالة تحلها في موضع النقيض والمقابل للطفل.
وهو موضع تلخصه جملة الختام في المقطع السابق: (فما بكت عليه عين!) إذ تغدو دلالة هذه الجملة على المدينة محوراً لتنامي بنية القصيدة باتجاه التصعيد لمعنى التقابل بين (المدينة) و(الطفل)، ويغدو الموت بدلالته العدمية الفاجعة عامل الجمع بين الطرفين، ثم تمضي حكاية الفجيعة:
الموت في الميدان طَن
العجلات صفَّرت، توقَّفَت
قالوا: ابن من؟
ولم يجب أحد
فليس يعرف اسمه هنا سواه!
يا والداه!
قيلت وغاب القائل الحزينْ
والتقت العيون بالعيونْ
ولم يجب أحد
فالناس في المدائن الكبرى عَدَدْ
جاء ولدْ
مات ولدْ!
المدينة التي قتلت الطفل، تمحو الأسماء، فهي (عَدَدْ).
الأسماء وعي بالأفراد، والعدد وعي بالمجموع.
الاسم دليل الذات وعنوان الخصوص والانفراد.
طفل المدينة ليس له اسم، وذلك ملمح أولي للموت، لكن الأكثر فجيعة هو ما تقودنا القصيدة إلى اكتشافه وتعميق الوعي به وهو علاقة الأسماء بالطفولة.
وعي الطفولة هو وعي أسماء، أي وعي خصوصيات وامتيازات فردية الطفل إشارة ذاتية إلى (الأنا) وليس (النحن).
إنه وعي وجودي، أي وعي حر بالكينونة، فالوجود يبدأ من ذاته وينتهي إليها.


Zayyad62@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved