الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th December,2005 العدد : 135

الأثنين 24 ,ذو القعدة 1426

ليلة بكى فيلليني
قاسم حول *

لم يكن فيلليني مجرد مخرج سينمائي إيطالي يكتب اللقطة السينمائية ويرسم لتلك اللقطة شكلاً هو غير الشكل المألوف عبر التشكيل والنور والحركة، إنما هو واحد من معالم روما ومعالم إيطاليا التي تحفر على جدار الزمن.
روما كانت تؤرقه فلقد أحبها وأحب تأريخها وأحب ما رسمته في معالم الحضارة. فجاء فيلمه روما الذي سمي روما فيلليني أي روما كما يراها فيلليني، هي غير روما التي يعيش فيها الإيطاليون والسائحون. فيوم خرجت روما بكاملها تشاهد مباراة كرة القدم لكأس العالم والشوارع مزدحمة تصعب فيها حركة المرور بين ذاهب للملعب وبين مسرع للدار يرى المباراة على شاشة التلفزيون، كانت الحفارات والبلدوزرات تحفر نفقاً يتكسر تحت فؤوسها آثار الرومان الخالدة التي تحكي قصة الحضارة. هذا المجتمع الذي صنعته ثقافة كرة (القدم) كان فيلليني يخاطب القسم كرة الرأس.. يخاطب عقل المتلقي، يخاطب وعيه عبر الثقافة وأداتها الأجمل السينما التي جمعت باختراعها الفنون السبعة وسميت بالفن السابع. هذه الأداة كانت أداة فدريكو فيلليني التي امتلكها بامتياز وكرس مفردات لغتها التعبيرية في فلسفة جمالية فيها الكثير من الشعر والكثير من الأفكار والكثير من الأحزان التي يعيشها مرهف في عصر يسعى فيه الإنسان لتدميره بنفسه.
(نحن نعلم أن روما هي مدينة مثقلة بالتأريخ، بيد أن قدرتها الإيحائية تتركز، في الحقيقة، في هذا الشيء ال ما قبل - تأريخي، الأولي الذي يظهر بوضوح في بعض من منظوراتها اللا محدودة الموحشة، وفي بعض خرائبها التي تشبه قطع المستحدثات العظيمة، أشبه بالهياكل العظيمة للماموث من كتاب كيف أصنع فيلما لفدريكو فيلليني، ترجمة نبيل أبو صعب).
هكذا يرى فيلليني روما التي بنت أنفاق القطارات في جسد تأريخها النابض بالحياة وبالحكمة فيما أهل روما المحدثون يشغلهم الهدف الأول في المباراة وليس هدف فيلليني في رؤيته لروما، ويهرعون بعد الدوام وسط صراخ الناس وأبواق السيارات لكي لا تفوتهم صفارة الحكم عند بدء المباراة.
لا بد هنا أن نتوقف قليلا عند موقف الفنانة الراحلة ميلينا ميركوري وزيرة الثقافة اليونانية في أول حكومة لبابا أندريو بعد سقوط الدكتاتورية في اليونان عندما أقنعت حكومتها برفض الدعم المقدم لليونان من الوحدة الأوروبية لبناء نفق للمترو في أثينا لكي يخفف من التلوث بسبب كثافة السيارات والتنقلات في المدينة معتبرة أن أي فأس يشق أرض اليونان سيقع على رأس تمثال لنحات إغريقي أو لأسطورة إغريقية.
لقد بكى فيلليني روما في السينما وعبر عن دمعته بمشهدي التناقض كرة القدم وشق النفق وسط الآثار المدفونة، لكن دمعته التي سالت كان قد ذرفها حقيقة لا مجازاً عندما لم يعد المنتجون يكترثون كثيراً أن يكون مخرج فيلمهم فيلليني نفسه أو مخرج آخر أقل كفاءة وأقل أجراً. فاضطر حينها لمساومة التلفزيون، وبكى.
عرف فيلليني أن اسمه لم يعد يستهوي صناع السينما الذين يتراكضون نحو فيلم رخيص قليل الكلفة مشبع بأجساد النساء والعنف والأغنية ذات الحركة السريعة الإيقاع والسيارات التي تتدحرج والحيوانات التي تأكل البشر وهي مصنوعة داخل الكومبيوتر.. انتهى عصر فيلليني، وصار عليه أن يقبل الإشارة الآتية من مدير إنتاج تلفزيوني فيذهب قبل أن تفوته الفرصة ويأخذ الفرصة مخرج غيره. فيلليني يعرف أن التلفزيون أكثر انتشارا ولكنه يعرف أن التلفزيون لا يميل إلى الموضوعات الفلسفية فهو جهاز الثقافة السهلة والمتعة مهما كانت محتشمة أو غير محتشمة، نكات وكلام وكلام وكلام واختيار حسناوات روما سواء ظهر على الشاشة اسم فيلليني أم غيره فلا أحد سوف يقرأ اسم المخرج ولا اسم مدير التصوير ولا الموسيقار ولا المونتير. بل إن عيون المشاهدين تنتظر حسناوات روما على شاشة التلفزيون وليس اسم شاعر السينما الكبير فدريكو فيلليني.
رضخ فيلليني للتلفزيون ولإشارة مدير الإنتاج والتلويح ببضعة ملايين من الليرات الإيطالية التي لا تعادل سوى بضعة آلاف من الدولارات.
فيلليني الرسام.. فيلليني الشاعر.. فيلليني الروائي.. فيلليني كاتب السيناريو والديكوباج.. فيلليني المخرج.. كم يملك من التخطيطات وكم لديه من الوثائق الفوتوغرافية والسينمائية وهو ينفذ تلك الأفلام التي سحرت مشاهدي العالم.. فمن ينسى الحياة الحلوة ومن ينسى ساتيركون ومن ينسى روما فيلليني.. ومن ينسى ومن ينسى..؟
ولكن فيلليني الذي بكى انتقاله من السينما للتلفزيون مات..
كنا نطمح عندما نزور روما أن نزور بيته الذي تصورناه أن يكون متحفا يرسم للأجيال صورة الفيلم السينمائي الحقيقي ودور السينما في الحياة.. مات فيلليني وكنا نطمح أن تؤسس روما ذاكرتها ومن مفردات ذاكرتها فدريكو فيلليني، لكن الذي حصل أن فيلليني كان مديناً لضريبة الدخل لأن الضرائب في أوروبا لا ترحم ولا تفرق.
فمن يا ترى يدفع لفيلليني المستحق عليه من ضريبة الدخل.. لا أحد.. لا بلدية روما ولا وزارة ثقافتها.. أخذت مديرية الضرائب القرار ببيع بيت فيلليني واستحصلت الموافقة من الجهات المسؤولة لتسديد المستحق من ضريبة الدخل.
الذي اشترى البيت يقال لا يعنيه فيلليني بشيء فرمى محتويات الدار وتأريخ سينمائي مدهش ووضع ديكورا جديدا وصورا لنجوم كرة القدم..
هنا لو صح هذا الخبر فإن فيلم روما فيلليني الذي ركضت فيه الجماهير نحو ملعب كرة القدم فيما البلدوزر يشق النفق ساحقاً تماثيل روما قد تحقق هذا المشهد في دار فيلليني بعد موته، فقد سحقت آثار روما ثانية وحلت محلها صور نجوم كرة القدم.
أتذكر هذا وأنا أرى حجم البرامج الرياضية في القنوات الفضائية العربية وانحسار برامج الثقافة.
لم تبق سوى صفارة الحكم.. صفارة الإعلان عن انتهاء المباراة!


* سينمائي عراقي مقيم في هولندا
Sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved