الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th December,2005 العدد : 135

الأثنين 24 ,ذو القعدة 1426

باشراحيل ..حول الشعر والجوائز وشجون الأديب!
هناك نرجسيات تقزم مساحات الفكر وتقف أمام المواهب

حوار - عبدالله السمطي
في يوم من الأيام صفقنا للقصيدة الحداثية وقصيدة النثر، صفقنا لها بدون أن نعي ما هو المستقبل. الآن القصيدة مع الأسف تراجعت، معظم نقاد الحداثة تراجع عن كثير من مفاهيمه ونظرياته وأصبح الآن يحاول أن يزاوج بين الشعر التقليدي وشعر التفعيلة وقصيدة النثر، حتى يسترجع شيئاً من ماء الوجه لأنه قد كتب وقال وأسس نظريات على قصيدة النثر وبشر بها أنها سوف تكون لغة الشعر العربي الجديد، لكن مع الأسف وأنت ترى مثلي أن كثيراً من النقاد الكبار المعنيين بالحداثة تراجعت أفكارهم وبدؤوا يقولون الآن كلمة الحق.. هكذا يتحدث الشاعر الدكتور عبدالله باشراحيل عن حالة الشعر اليوم، ويحدد ملامحه.. باشراحيل صار ظاهرة ثقافية اليوم.. أكثر من 20 ديوانا شعريا، ندوات ومؤتمرات عنه وعن تجربته، ونحو 15 كتابا نقديا عن تجربته وكتاباته الشعرية.. تجربة تثير حساسية الشعراء الآخرين فيمن يضعون أسئلة جمة حول تجربة باشراحيل الشعري، منهم من يرفض التجربة، منهم من يقف منها بحذر، منهم من يرى أنها صناعة تجارية.. كنت من هؤلاء - حقيقة - لكنني حين اقتربت، وتساءلت وأصغيت.. تغير السؤال.. وامتدت المساحة لتعثر على الرؤى الأخرى والأصوات الأخرى لتخرج بنا عن نفق ونفاق المودرنيزم الذي حبس عنا تجارب وأصوات متعددة متميزة.
يتحدث باشراحيل في هذا الحوار عن تجربته، موقفه من الأندية الأدبية، ومن وزارة الثقافة والإعلام، حيث يطالب الوزير السيد إياد مدني بتحقيق أماني الأدباء والمثقفين.. وهذا نص الحوار:
* في تجربتك الشعرية نوع من التصاعد من الجزئي للكلي، باعتبار أنك بدأت بتجربة رومانتيكية ذاتية ووجدانية بسيطة، إلى معانقة القضايا الكبرى والهموم العربية وطرح القصائد التي تنافح عن العروبة والعرب.. هل ترى أن الشعر يستطيع أن يشكل موقفاً من تحولات الوجدان العربي؟
- لا شك أن الشعر العربي والشعر الذي يؤسس لتجارب وانفعالات حقيقية، لا شك أنه يؤدي دوراً فعالاً في هذا الزمن الرديء، وفي ظل المتغيرات العالمية التي نشهدها جميعا. يجب أن نعترف أن الشعر العربي في العصر الذي نعيشه قد تدنت مستوياته، وأصبح هناك الكثير ممن يحاول أن يكون شاعرا، حتى ولو لم تتوفر له الموهبة، وهذا من أكبر المشكلات التي تعاني منها الصحف ويعاني منها الشاعر الموهوب، ويعاني منها أيضاً كثير من الموهوبين الذين حملوا لواء الشعر وجعلوه مرآة صادقة لأمتهم، ودافعا قويا كي يعبر الشاعر عن مكنونات وعن أسرار ربما تكون غير واضحة للعامة، فالجرأة التي يتعمدها الشاعر الموهوب، والشاعر ذو الملكة الحساسة، هذه كلّها ولاشك تمثل روافد مهمة جداً في بناء وتشكيل عقليتهم.
* أحدثت في السنوات الأخيرة نوعا من الحراك الشعري والنقدي، الشعري بالنسبة لك شخصياً بإصداراتك المتوالية والنقدي بالنسبة لكثرة الكتابات النقدية عن الشعر. في ظل هذا الحراك هل ترى أن الشعر يستطيع الصمود أمام الفنون الأخرى؟
- الشعر هو مقاتل جيد إلى الآن، برغم توالي الزمن والحقب عليه منذ العصر الجاهلي إلى اليوم وهو في صراع دائم ولا زال له حضوره، لا نقول أننا ألغينا وجود الشعر العربي؛ لأن الشعر هو ديوان العرب، ولا يمكن أبداً أن يغلق هذا الديوان وأن تطمس معالمه، حتى ولو كان ممتدا إلى عصور أبعد من ذلك، وحتى لو كان تأثير الفيديو كليب أو القنوات الفضائية المتعددة، التي برغم أنها ولاشك حددت إقامة الشعر، لكن الشعر الجيد يتفلت من المبدعين الحقيقيين الذين أثروا الساحة في العصر الحديث، والذين استطاعوا فعلا أن يؤكدوا أن الشاعر العربي سواء القديم بامتزاجه بالجديد شكل نوعية من التواصل حققت شيئاً من الرضى الذي يشجع على تجاوز الإنسان لنفسه.
* هل ترى أن ثمة وجلا - إذا صحت الكلمة - من قبل النقاد السعوديين من قراءة تجربتك، وبشكل أو بآخر أين يضع الشاعر عبدالله باشراحيل نفسه في حركة الشعر السعودي الراهن بالنسبة لمسألة المجايلة، بالنسبة لمسألة النقد، وعلاقته بالشعراء السعوديين الآخرين.. هل هناك إضافات، هل هناك نوع من المرحلية الشعرية الخاصة؟؟
- أكيد أن كل إنسان يتمرحل مع الحياة، ويتمرحل مع العمر، أكيد أن عبدالله باشراحيل عندما نظم أول قصيدة رومانسية له تختلف في تطلعاتها وتجاربها وانفعالاتها عمّا يكتبه اليوم. في العمر الذي مضى في سن الشباب دائماً الإنسان يتوق إلى الحبيبة وإلى الأم وإلى ذكر الوطن، والحنين، هذه أكثر الأشياء، والحب الدافئ، وكلما تقادمت به التجارب والسنون، يستطيع أن يشكل نقلة إذا كان هناك إبداع. من التطور تعطي القارئ والناقد والباحث رؤية جديدة لهذا الشاعر بحيث إنها لا تنفصم فيما بين التراث الأول وما قدمه جديدا، بحيث يكون هناك تنوع في الرمز في الصور يستطيع أيضاً أن يحقق إضافة ويضع بصمة. ولازال شعرنا العربي بخير إن شاء الله، ولا يمكن أن تحجبه الرؤى أو تتغافل عنه العيون ولا الأذهان. أعتقد أن الشعر العربي، ولي قصيدة أرد فيها على أحد النقاد الكبار في عالمنا العربي:
الشعر ديوان العرب
أن كنت تعرف ما الأدب؟
وهي قصيدة طويلة موجودة في ديواني: (مدن الغفلة). فالشعر ويجب أن نعترف بأننا أمة شاعرة طلع منها نبي الهدى بلغة القرآن الكريم، وبهذا التجديد الذي لم تعرفه أمة العرب، حتى أنه شكل عندهم شيئاً من التنافس والخصومة، حتى أصبح كل شاعر ومبدع ومفكر يجد خصمه دائماً في القرآن، يحاول أن يصدر عملاً يبدع فيه شيئاً قريباً من القرآن، ولن يستطيع أحد أن يتجاوز القرآن لا في الصياغة ولا في بلاغة القول ولا رصانة الكلمة، لأنه كلام غير عادي وكلام إلهي. لذلك كل المبدعين في عالمنا العربي تجد أن الضد أمامهم هو اللغة القرآنية فهم ينهلون منها الكثير حتى تجد البعض أن قاموسه اللغوي يمتح من القرآن بشكل واضح، ويستطيع أيضاً أن يشكل الصورة بحيث إنه لا يكون فيها تشابه في الكلمة أو الشكل بحيث إنها تعطي روحا جديدة للشعر، حتى لا يكون هناك تكرار خصوصاً إذا كان الشاعر قارئا للشعر العربي بمختلف مراحله الإنسانية، فيجب على الإنسان أن يحترم موهبته ويحاول ألا يكتب شيئاً إلا أن يتجاوز به نفسه، وهذا ما عرفته أخيرا. في البدايات كانت السليقة تحكم الإنسان وكان ينشئ عبّرها القصائد، ومنها الجيد ومنها الرديء ومنها البسيط لكن في النهاية هذه القصائد هي أبناء الشاعر ولا يستطيع أي شاعر أن ينكر قصائده أو يجحدها لأنها أبناؤه.
* ننتقل إلى مقام نقدي.. يرى البعض - من دون ذكر أسماء - في تجربة عبدالله باشراحيل نوعا من التضخيم والتضخم، فكيف ترد عليهم؟
- نحن نرد على أي جانب، نحن نعرف أن كل شيء يحتاج إلى دليل، في أي جانب كان هناك تضخيم؟
* في الكتابات النقدية وكثرتها؟
- ألا يفرحك أنت كأديب عربي أن يشتعل ميدان الثقافة والأدب بالرؤى النقدية التي تحرك الجمود الذي تعايشنا معه ردحا من الزمن هل هذا يعد معيبا؟
- إذا كان هذا عيبا، فالعيب أن يكتب وأن ينقد بشكل موضوعي أو بشكل علمي، لا أن نتجرأ على خصوصيات الشاعر أو الأديب أوالمبدع. أنت تحب أن تلبس لونا أحمر، هذا شأنك، أنت تحب أن تمشي ورأسك مكشوفة فهذا شأنك. لكن أنا ليس لي شأن بك، أنا لي شأن بالنص الذي تكتبه، إذا كان النص قد بحثته من الوجهة النقدية وكان هناك معايب في النص فمن حقي أن أظهرها، أو أن هناك ظواهر تستحق الإشادة فمن حقي أن أظهرها هذه أمانة الكلمة، أما أن تكون أنت دكتورا أو طيارا أو غيره فهذا لا يليق به أن يقرض الشعر هذا كلام فارغ. عندنا التجارب كثيرة جدا. علي محمود طه (المهندس)، وإبراهيم ناجي (الطبيب) وهذان أحدثا نقلة في الشعر العربي، عن طريق (أبوللو) وقد أثرونا شعريا، وكنا نتغنى بأشعارهم عبّر ما تنشده أم كلثوم وعبدالوهاب، إذن كان الشعر يمثل قيمة في زمن ليس بالبعيد. مع الأسف الشديد نحن نقتل هذه القيم، بمعنى أننا نحاول أن ندخل على الشعر أشياء نسميها من بنات أفكارنا ونسميها شعرا، الشعر المتعارف عليه هو الشعر الكلاسيكي وشعر التفعيلة، أما ما عداه وإن كتبت في قصيدة النثر في ديوان (وحشة الروح) ولكني لم أكتبها لتكون شعرا ولكنني نظمتها للتدليل على ما يزعم بالقصيدة النثرية أو القصيدة المنثورة ليست بالأمر الصعب أو الشيء الذي يشكل تعثرا لدى الشاعر الموهوب الذي من الممكن أن يكون كلامه النثري شعرا. عندما تقرأ كتابي: (أصداء الصمت) وكثير ممن قرؤوه مثل أدونيس، وشوقي بزيع، ود. محمد مريسي الحارثي، ود. صلاح فضل ذكروا لي (أن أسلوبك النثري شعر) هذه ملكات، أعتقد ذلك، وأعتقد أن الحياة كلّها شعر؛ لأنها تقوم على شيء من الواقعية، وتقوم أيضاً على شيء من الخيال. ولولا وجود الخيال لما اتسعت آفاقنا، ولما كان هذا العالم قد توصل إلى مستوى غزو الفضاء، لأنهم بدؤوا بخيالات فرضية، حتى أثبتوا بالتجارب أن هذه الفرضيات قد تحولت إلى تجارب تطبيقية، وأصبح لها كيان، وأصبح لها علم يدرس، وأصبح لها أساتذة وتلاميذ، فهذا هو الفكر. نحن نبحث عن الفكر المنتج دون أن ننظر إلى من ينتج لنا هذا الفكر. أما أن نتصيد بعضنا ونجلس نتهافت ونلح على خصوصيات تعد من السخافة بمكان أن نذكرها، فهذا شيء مع الأسف الشديد راجع لضعف الشخصية الأدبية والنقدية، أو محاولة ابتزاز النقد لمصلحة النرجسية ومصلحة النفسيات المريضة، وهذا للأسف ما وجدناه في فترات متعاقبة، وليس كما قال المتنبي (لا هو في العليق ولا في اللجام) وتراه مع الأسف الشديد يدلي بدلوه ويتكلم عن فلان وفلان ولا هو فاهم ماذا يتكلم عنه. فقط مجرد إطفاء جذوة حقد في نفسه دون أن يعرف هذا الإنسان. من الممكن أن يكون هذا الإنسان يقدم عملاً رائعا. لماذا تحسم أنت الأمور وتضع هذا الإنسان أنه عدو وأن هناك خصومة نقدية بينك وبينه. لا بالعكس يجب في عالمنا العربي أن نتنبه إلى أن الأدوار التي كانت تمثل علينا وكانت تحاول أن تنال من بعضنا البعض، وإضفاء حواريات مقيتة وسلبية هذا هو الشيء الذي يريده أعداء الأمة، أن نتخألف في كل شيء وأن نتناكر في كل شيء وألا نلتقي وأن تفصم عرى التواصل بين الأجيال، حتى لا يكون هناك تسلسل وتقارب وتطور في حياتنا، ويأتي الجيل اللاحق ليشتم في الجيل السابق. من المفترض أن نعكف على كل كلمة ونخضعها للبحث والتحليل والدراسة والتجريب في أي مجال، حتى في الأشكال الأخرى غير الشعر. لا ينبغي أن نقف مثلاً عنده. الشعر مادة من مواد الفن التي هي مواد كثيرة ومتنوعة ومختلفة، فلماذا نحن نحاول أن نتقوقع على مادة بعينها ونحاول أن ننال من أشخاصها ونزرع الشكوك والغيبة والتطاول على المبدعين الذين ربما يكونون في يوم من الأيام أحد مفاخر الوطن العربي، لماذا نقتل هذه المواهب، ربما في يوم من الأيام يولد من يعيد لنا المتنبي - ولو أن الأشخاص لا يكررون ولكن بشكل أو بآخر - ربما يولد إنسان يجعلنا نقف احتراما وإجلالا لأدبه وعلمه وثقافته فهذا وارد. في يوم من الأيام صفقنا للقصيدة الحداثية وقصيدة النثر، صفقنا لها بدون أن نعي ما هو المستقبل. الآن القصيدة مع الأسف تراجعت، معظم نقاد الحداثة تراجع عن كثير من مفاهيمه ونظرياته وأصبح الآن يحاول أن يزاوج بين الشعر التقليدي وشعر التفعيلة وقصيدة النثر، حتى يسترجع شيئاً من ماء الوجه لأنه قد كتب وقال وأسس نظريات على قصيدة النثر وبشر بها أنها سوف تكون لغة الشعر العربي الجديد، لكن مع الأسف وأنت ترى مثلي أن كثيراً من النقاد الكبار المعنيين بالحداثة تراجعت أفكارهم وبدؤوا يقولون الآن كلمة الحق منهم: د. عبدالسلام المسدي، ود. صلاح فضل وأدونيس، وكنت في جلسة معه في مجلس، وقال: إن الشباب يتخرصون عن القصيدة الكلاسيكية وهذا كلام غير سليم. معنى ذلك أننا كنا في ضياع، والآن بدأنا نتحسس أنفسناً ونتحسس الأشياء من حولنا، وأصبحنا بقدر ما نقبل بهذه الحلول ونمازج بين الفنون والأشكال الأخرى حتى نستطيع أن نصل إلى الواقع الفكري المنشود لهذه المرحلة.
* انتقد البعض تأسيس جائزة المرحوم الشيخ محمد بن صالح باشراحيل في القاهرة.. كيف ترد على هذا الانتقاد؟
- هذا قمت بالرد عليه في صحف الشرق الأوسط والأهرام، وكتب الأستاذ حمد القاضي في الجزيرة كتابة في منتهى الروعة في مقال رائع وجريء، وقال: إن هذا الرجل قدم جائزته أول ما قدمها بلوائحها ونظمها إلى رعاية الشباب، لكن ربما لا نعلم: ربما هناك ما يمنع إقامة هذه الجوائز في الوطن، ونحن تبع لما تفرضه الظروف وما تمليه الرؤى العليا. فجعلنا القاهرة مقراً للجائزة، وهل عيب أن نقيم الجائزة في القاهرة. القاهرة هي وطننا الثاني ومهجع نفوسنا، ودرسنا في القاهرة وعشنا في القاهرة وشربنا من ماء النيل بالقاهرة واستفدنا من القاهرة وأساتذتنا من القاهرة وتتلمذنا عليهم من نعومة أظفارنا، فما العيب أن تكون الجائزة في القاهرة ومصر تمثل الريادة في مختلف الفنون والاتجاهات ويجب أن نعترف بذلك بدون مجاملة وبدون نفاق. لنرجع للماضي ونسأل أنفسناً عن فحول الشعراء والأدباء والنقاد والمفكرين أليسوا من مصر العربية ومن لبنان ومن سورية؟ لماذا نحاول أن نضع الأمور في غير مواضعها. بالعكس الجائزة التي ستكون أكثر انتشارا هي في القاهرة؛ لأن مصر هي قلب الأمة العربية، وأي فن لا يظهر في مصر نقول: عليه السلام.
* ما دور النخبة، ودور الشعر في استرجاع صحوة الروح العربية، في هذا المجال؟
- كنت أنادي باستعادة دولة الفكر والأدب، وقد سميتها دولة؛ لأننا نحن الأدباء والمفكرين والمبدعين، نعتبر كوكب الأرض، بلا نرجسية، وبلا تفاخر؛ لأن الفكر الناضج والواعي هو الذي يهدي، الفكر المتجاوز لنفسه، ولذاتيته الفكر الناظر إلى المجموع، إلى الأمة إلى الأهداف والمستقبليات. هذا هو الفكر الذي يجب أن نمنحه الفرصة لكي يقف بشعرنا وأدبنا وقيمنا كأحسن ما يكون؛ حتى نستطيع أن نتواصل مع الفكر العالمي، وحتى نستطيع أن نؤسس كما أسس العلماء المسلمون من قبل ريادة كبيرة جدا.
من علمائنا ابن سينا وابن خلدون وابن رشد والفارابي وابن الهيثم والرازي وغيرهم في مختلف الاتجاهات، كيف في ذلك الزمن الذي لم تكن فيه هذه الاختراعات والتقنية والإبداعات العلمية.. كيف استطاع هؤلاء العلماء أن يحدثوا نقلة في الفكر العالمي، حتى أن الغرب وأمريكا تتلمذوا على نظرياتهم، ودرسوا دراسة جيدة، وأضافوا إليها إضافاتهم العلمية التي أصبحت اليوم أنشودة الزمان والمكان، وهذا واقع يجب أيضاً أن نعطيه الجانب الكبير.
إذن الفكر إذا لم تحدد إقامته، وإذا أعطي تشجيعه، وإذا أعطي المفكر والأديب والشاعر حقوقه الإنسانية والاعتراف بقيمته سيخلق وطنا عربيا يؤسس لمرحلة علمية كبيرة جدا، تستفيد منها الأجيال القادمة.
مع الأسف نحن مصابون أيضاً بأعداء الأمة، الذين يحاولون تفتيت الفكر العربي للشباب، ييحاولون أن ينحوا به مناحي أخرى نحو الأشياء السطحية، نحو الأخذ بنظريات الغرب حتى يكون هناك تابع ومتبوع، وحتى ننقاد لهم في كل أمور حياتنا.
بالعكس أنا أرى أن الفكر العربي في كل أدوار حياتنا حتى في هذه المرحلة التي ندعوها بالتشرذم والانكسار، لكن هناك من العقول العربية الناضجة التي استطاعت أن تحفر في الصخر لكي نستخرج جواهر العقول وكنوز الأدب والفكر، ونؤدي الدور المنشود والمطلوب منا.
* يشار دائماً إلى أعداء العرب، ومعروفة من هي الدولة الكبرى التي تعادي العرب، وقد كتبت أنت في (قلائد الشمس) عنها.. هل ترى أن الشاعر يستطيع أن يمثل الصوت الحقيقي لجوهر الإنسان العربي، يستطيع أن ينطق بالكلمة التي لا ينطقها أحد خاصة اليوم سواء في الإعلام أو الكتابات أو الخطب؟
- أعتقد أن الشاعر المبدع يستطيع أن يتجاوز كل الحدود والموانع التي تفرض عليه، ويستطيع أن يتفاعل مع الخيال، ويشكل عالمه، وأمة خاصة به، ويستطيع أن يخاطب وجدان الأمة التي ينتمي إليها. الشاعر في وطننا أعتقد أنه يأخذ حقه باعتراف القارئ والناقد والإنسان المتواصل مع الكلمة الصادقة، أعتقد أن أكبر تشجيع له هو أن يقرأ، أن يقدم بأمانة. ألا يزيف عليه، أو له. يجب علينا أن نستشعر أن قيمة الإنسان تكمن في فكره، وأن هذا الفكر أن لم يكن فكرا خلاقا سيكون فكرا مبتذلا، وفكرا محملا على هوامش الضياع. لذلك نود أن يولد من المبدعين من يؤدون الأدوار الفنية التي تستطيع أن تثرينا وأن تقدمنا للعالم الآخر بأننا أمة حضارية، أمة لها من الأمجاد والاجتهادات ما يحق لنا أن نفتخر به. ولكن ليس افتخارا على أساس أننا ننام على علاتنا وننسى تاريخنا، ولكن أن نتواصل أيضاً مع حاضرنا بالشكل المفيد.
* من واقع تجربتك في العمل الثقافي الخاص لدي سؤال رسمي يتعلق بوزارة الثقافة والإعلام، التي عقدت لقاء مع المثقفين.. وإلى اليوم لا زالت تبحث مع المثقفين.. ما هو الدور الذي يمكن أن تنهض به وزارة الثقافة والإعلام لخدمة المثقف السعودي والثقافة السعودية؟
- هذا سؤال وجيه الحقيقة، وسؤال أتمنى أن يوفقني الله للإجابة عنه بشكل موضوعي. لقد فرحنا كثيراً جداً عندما تأسست وزارة الثقافة، وعبرنا عن ذلك في معظم الصحف السعودية، وكان ذلك في عهد الوزير السابق الدكتور فؤاد الفارسي..
فرحنا الآن بالأستاذ إياد مدني وهو أيضاً من رجالات الدولة الذين نتطلع أن يحدثوا تجديداً في هذا الموات الثقافي والأدبي، وأن يحاولوا قدر الإمكان أن يقدموا النموذج السعودي الجيد. ليس النموذج الذي يعتمد على الواسطة ويذهب خارج الوطن، ويكون في وضع سقيم جدا، يقدم صورة سيئة عن الوطن، ويرتاد معظم الحانات.. يجب أن نتخير القيم والقامات التي تستطيع أن تمثل الوطن، وهذا شيء يجب أن يلتفت إليه وزير الثقافة والإعلام إذا أحب أن يكون له شيء من التقدير والإكبار. أما أن تكون أدوار المسؤولين بالشكل السلبي، وبالشكل الذي يتصرف في حدود ضيقة جدا، وألا يتجاوزها. بالعكس. الجميع يحبون وطنهم، والجميع يدينون بالولاء للوطن والدولة.. ليس هناك معاد أو ليس هناك إنسان لا يستشعر قيمة الدولة وما تقدمه، لكن أيضاً يجب أن تتقدم جميع الفنون والأعمال بشكل متناسق بحيث يحفز الأول الثاني إلى أن نصل بجميع الإمكانيات إلى منطقة الأمان، ولو أننا لا نستشعرها.
والشاعر والأديب والمفكر المتمرد لن يرضى عن عمله في يوم من الأيام، بل على العكس، فالرضا إذا حصل سيكون رضا وقتي يتجاوزه برضا آخر.. حتى تراه أنه لا يرضى عن كل ما قدمه، وهذه ظاهرة جيدة. حتى نستطيع أن نرى الفكر المبدع الخلاق.
* هل ترى إذن أن تنشئ وزارة الثقافة والإعلام مجلساً أعلى للثقافة، هيئة للكتاب، رابطة للأدباء، معرضاً للكتاب؟
- في أبسط من هذه الآراء، مع الأسف، لم يلق بالا لنا.. إذا كان مثلاً النوادي الأدبية مع الأسف الشديد، يجب إعادة صياغة هيكلتها، يجب إعادة صياغة لغتها وخطابها.. فهذه أيضاً من المآسي.. أن يجلس الرئيس بعقلية متأخرة قديمة، ويطبق أفكارا خاصة به هو، بعيدة كل البعد عمّا يلم بالمرحلة، والفكر الجديد، والوقائع الجديدة.. حتى لتجد أن كثيراً من الأندية الأدبية هجرها الأدباء والمفكرون فلا تجد أن هناك أعداداً كثيرة تذهب إليها، حتى تعد على الأصابع من يحضرون في محاضرات هذه الأندية من الضيوف أو النقاد أو الكتاب والمثقفين. لكن حاولنا أن نكسر هذا الطوق بإنشائنا للمنتدى الثقافي (منتدى الشيخ صالح باشراحيل)، وأحدثنا بالفعل أيضاً لفتة، أحدثنا شيئاً من التغاير والتحديث في الدماء الجادة، حتى أصبح المنتدي - ولله الحمد - يشار إليه بالبنان، وكثير من الصحف تستدل بالمنتدى هذا ولو أنه مدعاة فخري، وأن يكون منتدى على هذا المستوى في المملكة، إلا أنني أعدّ ما قدمه المنتدى لم يكن يعطي الصورة المتطلع إليها الإنسان المتفوق الذي ينظر إلى الأفضل ويود أن يرقى بهذه الأمة إلى مصاف العالمية وإلى أن يرقى للفكر العالمي.
أتمنى من الله أن يأخذ وزيرنا المحبوب برؤى المفكرين والأدباء، وأن يقدم لهؤلاء الأدباء الذين منحوا زهرة شبابهم وأعمارهم لهذا الوطن ولهذه القيادة بكل الحب بكل التفاني، بلا نفاق بلا مراءاة، بل بالعكس بما توليه أمانة المودة والصدق والإخلاص والنزاهة. نحن لا ننكر أننا متقدمون في كثير من المجالات، إنما بالنسبة للفنون العربية نحن مقصرون بشكل يدعو إلى أننا نعيد قراءة أنفسنا، وقراءة المستجدات في الفكر العالمي يمنحنا نوعا من الحصانة أيضاً ضد الفكر الغريب والمعادي، الذي يحاول التشويش الذي يحاول جزرنا عن أصولنا، ويحاول أن ينسبنا إلى مجتمعات لم نعش فيها ولم نرب عليها، ويريدنا أن نكون صورة نمطية للفكر الذي يسعى إلى قيادنا.
إضافة في يوم من الأيام تقدمت لسمو الأمير فيصل بن فهد، باقتراح بإنشاء صندوق للأديب السعودي، وكتبت له خطابا وجاءني منه رد، وشكرني على هذه الفكرة، وبالفعل تمت عدة حوارات واجتماعات في الرياض وفي المنطقة الشرقية، وفي جدة ولكن مع الأسف النرجسيات، وأنت تعلم أن ساحة الفكر تعج أيضاً بالعقليات المتشنجة من الأدباء والمفكرين والفلاسفة إذا صحت هذه التسمية في العالم العربي. هناك نرجسيات تقزم مساحات الفكر، وتقف من حيث تدري أو لا تدري أمام القدرات والمواهب بشكل غير لائق، وغير حضاري وغير منطقي. لذلك أرى أن تكون هناك إن شاء الله صحوة خيرية أولا، صحوة قلبية، صحوة نستشعر فيها قبل أن ننشئ تواصلاً مع الفكر العالمي، نستشعر فيها بتواصلنا مع بعضنا البعض من خلال أفكارنا وحواراتنا وطروحاتنا لا أن نحاول أن نلقي بظلال على كل ما ينشر، وأن نفسر الكلام ونحمله أكثر مما يحتمل، أو أن ننظر إليه باستهتار وبفوقيات معينة تدعو إلى تراجع الفكر العربي بعامة مع مرور الأيام واختلاف النظرات.
يجب أن نؤسس لفكر واع، ولأمة تبدع كما كانت من قبل، وهذا لن يتأتى إلا بتضافر الجهود ما بين المفكر والأديب والشاعر وبين وزارات الثقافة في كافة بلداننا العربية.
إذا كنا يا سيدي لا نستطيع أن نعرف بعضنا كشعراء في الرياض أو في المنطقة الشرقية أو في كذا في زمن من الأزمان، أي لا نتعارف. من المفترض أن تحقق الأندية الأدبية هذا التواصل، مثلما نلعب في مكة وجدة عبّر الأندية الرياضية. يجب أن يكون هناك تواصل.. مثلا: نادي مكة يستضيف أدباء الرياض، ونادي جدة يستضيف شعراء أبها، ونادي أبها يستضيف شعراء المنطقة الشرقية بحيث يكون هناك تواصل. إنما كل واحد أخذ النادي وكأنه ملكية خاصة مملوكة له وأصبح الرئيس هو المهيمن، وأصبح الرئيس هو كل شيء، وما عداه فقط هم مجموعة من الأشخاص يحضرون للتوقيع على ما يريده الرئيس. وهذه كارثة إذا لم نلاحظها ونوليها العناية والاهتمام سوف تسعى هذه التراكمات النفسية والأدبية والهموم التي تنتاب الكثير من أدباء الوطن سوف تؤدي إلى الإحباط واليأس والنكرانت والجحود، وقبل أن ينعتنا الآخرون سوف ننعت أنفسناً بأننا أمة تكاد تبيع تراثها.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved