الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th December,2005 العدد : 135

الأثنين 24 ,ذو القعدة 1426

التشرد على مقابر الثقافة
الركود الثقافي في مجتمعنا مع وجود نخبة من أبنائه المثقفين أمران متناقضان يدعوان للحيرة: فما هو المبرر الذي يجمع -بالتلاصق- بين كينونتين متناقضتين على أرض واحدة بدون تأثير ملموس؟ فثلج غير ذائب مع نار لا تمده بطاقة حرارية. وهذا غير قابل للحدوث إلا إذا كان هناك عطب في سير عملية التغذية الثقافية بين طرفين أحدهما متغذٍ - أو يفترض- والآخر مغذٍ -أو يفترض-. ومن المسلم به أن مصادر الثقافة هي العلوم والخبرات التي دونت في الكتب أو أي مراجع، ولكنها عادة راكدة على الأرفف وتحتاج للخبير الذي يعمل في مجتمعه كمحرك للثقافات المكنوزة في أوراقها وكحلقة وصل بينها وبين المستجدات وبينها وبين الأفراد، فيقوم بالتنبيه إليها، والإرشاد، والتنظيم والتدريب على استيعابها وترجمتها، ربطا بينها وبين احتياجات المجتمع ومصالحه، وباختصار الاستفادة منها بنشرها على أرض الواقع. فالطرف الأول إذن هو عامة الأفراد، والطرف الآخر هو نخبة المثقفين.
ولا بد لظهور الركود الثقافي في المجتمع من أن يضع المثقفين أمام الشعور بالمسؤولية وبغض النظر عن موقفهم إما بالقيام بدورهم الطبيعي في المعالجة عن طريق نشر الثقافات، وتحديداً التغذية بالعلوم والخبرات النافعة مع تنوعها بقصد الوصول إلى التفاعل المطلوب في شخصية المتلقي، أو بالتنحي عن هذا الدور. ومن البديهي أن تكون حياة الأفراد أفضل كلما ازدادوا تنوعاً في الثقافات وارتفعت درجة تحصيلهم الفعلي لها- أي استمرار الاستيعاب والتجسيد-، الأمر الذي يساعد على اتخاذ الفرد للقرارات السليمة طوال الحياة وتنظيم سير العلاقات والأداء في المجتمع، وعلى التفاعل - عقلياً- مع قرارات الحكومة والشعور بأهمية النظام العام حيث إن الأنظمة والثقافة الخاصة والعامة تعمل معاً. والسؤال هنا: إذا كان تنوع الثقافة وازديادها يساعد على ذلك كله، فعلام يساعد ضمورها وانحسارها إذن!
يكون انحسار الثقافة حين يكون الركود في تداولها مما يتمثل في بعض المظاهر التي من أهمها الأداء والعلاقات غير المتأثرة بالثقافات وحتى لو ارتبط بعضها بها عشوائيا. ومنها أيضا تفاعل الأفراد السلبي تجاه قرارات الحكومة والأنظمة وعدم إدراكهم بأهمية دورها أو حتى دورهم. وأما تداول معنى مشوّه -بكسر الواو أو فتحها- ل (ثقافة ومثقف) بحصرها في أطر فكرية معينة بما يندرج تحتها من مفاهيم -عالمية أو وطنية- لا تمثل أكثر من آراء شخصية غير مدعمة حقيقة فهو من أخطر تلك المظاهر لدرجة أنه قد يمثل أداة هدم فكري أكثر من كونه مظهرا، وأسوأ ما في الأمر هو الدوران حول تلك الأطر مع إغفال الثقافات الحقيقية أو الملحّة في الأهمية.
ووجود مثل تلك المظاهر كسمة من سمات غالبية الأفراد تعني قصوراً في بلورة الثقافات وترجمتها في المجتمع، وهنا يمكن تأكيد أن نخبة المثقفين لم تحقق هدف ثقافاتها -فلنقل- بالصورة النهائية، إذ إن المثقف هو بالأصل إنتاج لعملية تعليمية عالية جدا اكتسب من خلالها عمقاً وخبرة في معرفة معينة أو أكثر، ولكنه ليس النتاج النهائي لتلك العملية وانتهى الأمر، وليس من حقه ولاحق غيره أن يعتقد أنه - بذاته- يمثل هدفاً أو نهاية مطاف، وإلا لأصبح مثله مثل أي مجموعة كتب تعيش هادئة على الأرفف، بل بينما تكون الكتب أوراقاً محفوظة وباقية يكون هو دماغا بشريا ينتظر الموت وحيث يُدفن تُدفن ثقافته معه فيكون القدر الذي حبس منها في شخصه هو قدر يمثل خسارة من خسائر المجتمع. ولا شك أنه من الربح أن يؤدي المثقف وظيفة أو عملا محدداً ولكن ذلك لا يعني ربحاً على كل الأوجه قياساً على مسؤولياته المتناسبة مع علمه وخبراته! لأن وظيفته -وحتى لو كانت في المجال الأكاديمي- تفيد المجتمع بالتخصص حيث يتعامل مع فئة معينة لهدف معين، لا التنوع والعموم حيث يتعامل - بانطلاق- مع فئات غير محدودة، فالمتوقع منه نشاطات إضافية على نطاق واسع مثلا إجراء دراسات مدنية عامة، تقديم محاضرات عامة، المشاركة في تأسيس دورات والإشراف على المدربين وعملية التدريب، وفي تأسيس جمعيات تخدم فئات شتى، أو أي شكل تغذية ثقافية عامة يتاح لجميع المواطنين عن طريق جهود فردية وجمعيات ومؤسسات اجتماعية وتعليمية وغير ذلك مما يتيح التواصل الثقافي العام في المجتمع.
والتواصل الثقافي العام حركة مهمة في المجتمع، إذ إنه من غير المعقول أن يحصل الفرد على ثقافات شتى عن طريق التعليم الأكاديمي، ولكن من الضروري جدا مواصلة تحصيله العلمي الذي حصل عليه أصلاً، وأيضاً الاستمرار في حصوله على أجزاء من ثقافات شتى ومهارات أخرى موثقة أو غير موثقة، وحتى المثقف ذاته يحتاج إلى التغذية المستمرة في تخصصه ومن ثقافات أخرى. وقد أشار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الاستمرارية عندما أمرنا (تعاهدوا القرآن)، وهو كلام الله جل شأنه ومع ذلك فهو غير محفوظ في صدر المؤمن ما لم يتعاهده، أي يستمر ويواظب. كما أن هناك اكتشافات ودراسة علمية مستمرة مما يحتم التواصل معها، التواصل الذي لا يمكن أن يعم أو ينمو إلا تحت ظل جهود النخبة المثقفة، أي العلماء والخبراء. وباختصار، ليس من المنطقي أن يرضى نخبة المثقفين بتجمد أو ركاكة عملية التغذية الثقافية العامة والمتنوعة أو على ركود السير والتداول الثقافي العام. فلماذا قد يحدث مثل هذا الرضى غير المنطقي!
ببساطة، لأن هناك عطبا يتعلق بالطرف الثاني وبالتحديد في عملية توجه المثقف لنشر ما يمكن من علمه وخبراته وسواء لأسباب تعود إليه أو لأسباب أخرى هو أقل قدرة على التحكم بها. إذ لا يمكن أن يتوقع أن المثقفين غير مدركين لأهمية ثقافاتهم الخاصة أو دورهم في المجتمع، ولا أن جميع الأفراد فيه غير مستعدين للتلقي، حتى لو كان ذلك صحيحاً فتحويل الدفة وإثارة العقول للبدء في التفاعل يقعان على عاتق الطرف الثاني، وهذا ليس مستحيلاً وخصوصاً في مجتمع مسلم يؤمن أن تلقي العلوم بين فرض عين وكفاية ويقرأ القرآن الكريم بإيمان ووعي! وفي التوازي مع ذلك، ليس من المجدي غض الطرف أو رفض الاعتراف بركود الثقافة في المجتمع فقط لمجرد التباهي أو لمجرد الحكم على مستوى جميع أفراده من خلال الحكم على أبراج ثقافية محدودة، فبرج المثقف أو محيطه الخاص لا يمثل عيّنة صادقة من المجتمع.
وفصل المثقف عن دوره في التغذية الثقافية العامة له عدة أوجه، كلها غير مقبولة. الوجه الأوضح هو إما تنحيه أو إبعاده عن نشر ثقافته، انتهى. ومن الأوجه الأقل وضوحاً، وضوحاً لا خطورة، عمله على نشر بشكل أحادي الجانب، بمعنى أنه لدعم مصلحة أو اتجاه عام أو قناعة ذاتية، يعمل على تسليط كل الأضواء على جزئيات محددة من الثقافة الواحدة مهملاً جميع أجزائها ومكوناتها الأخرى، مما يدعو لحدوث صدع أو خلل أو تشويش على تلك الثقافة ذاتها فيؤدي - بالتالي- إلى تداولها تداولاً سطحياً أو حتى سلبياً. ومنها -كما سبق ذكره- التركيز على ثقافة مقنعة أو غير نافعة مع تجاهل -متعمد أو غير متعمد- للثقافات الأخرى المهمة. ومنها الدعاية لثقافة واحدة والإيحاء أو التصريح بفصلها كلياً عن بقية الثقافات. وأيضا الشعور الخاطئ بإمكانية الاعتماد الكلي في نشر الثقافات على معاهد أو مؤسسات خاصة تعنى أكثر بتجارة الشهادات لثقافات محدودة وتفتقر افتقارا شديدا لتخطيط وإشراف مثقفين. كل ذلك يمثل تزويراً في عملية التغذية الثقافية، وبالأحرى عرقلة فعلية.
إذن لا يكفي أن يكون هناك نخبة من مثقفين ذوي خبرات علمية عالية، ما لم تصل ثقافاتهم ثم تترجم على بقية الأفراد ليتم ظهورها مرئية ما أمكن. فوجود الثقافة عند تلك النخبة ثم فصلها عن أرض الواقع باختزانها -حتى الموت- داخل أدمغتهم، لا يفيد مجتمعاً بالكثير، وأحياناً قد لا يعني شيئا غير مقابر ثقافية تتشرد حولها الغالبية ممن يعانون من الفقر المعرفي. وكيف ستمدهم الثقافة بالمعرفة إذا كانت حبراً على ورق لا يدرك معناه إلا خبير احتكر -لو احتكر نفسه- لغرض أو لغير غرض ففقد دوراً في نشرها ووضعها موضع (الفعل) و(الظهور) ف(النفع).
إن أمة لا تتداول الثقافات النافعة أمة شديدة العطش.


انتصار إبراهيم

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved