الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th December,2005 العدد : 135

الأثنين 24 ,ذو القعدة 1426

(آسفة.. يا حبيبي.. الصغير)
مريم خليل الضاني
تساؤل مرير:
(من أنت؟ ما أنت؟
وردة ذابلة.. شمعة ذاوية.. شهقة مختنقة
أم سجين أسير؟
من أنت؟ ما أنت؟
حسرة دائمة.. لوعة حارقة.. أم طائر لا يطير؟
من أنت يا ابن أختي المعاق؟
من أنت يا حبيبي الصغير؟)
ممدد فوق فراشك الدائم.. ذاك.. الوحيد الذي يعلم كل شيء عنك، وشعاع شمس الصيف يدخل من النافذة.. يقترب شيئاً فشيئاً من جسدك الضامر.. بل من أشلائك.. وأنت مشبع بالعذاب ولا مكان شاغراً في نفسك لحرقة شعاع الشمس.
تركت مجلتي المترفة.. وضعتها جانباً وانتبهت إليك.. جسمك.. شجرة خريفية نحيلة جافة تتدلى فروعها.. ذراعين.. أو ربما خيطين واهيين.. يلتقيان دوماً عند وجهك
ربما يشتكيان لك
ربما يشتكيان منك
يتعانقان.. وربما يعانقانك
حيث لا أحد يمنحك الحنان.
وكان جسمك مقوساً ملتوياً على شكل علامة استفهام.. من لحم وعظام
وحيدة كنت معك.. في الحجرة.. حين سألتني بجسمك الذي استحال سؤالاً:
خالتي.. ألا تحبينني؟ ألا تحسين بي؟
لماذا كلما تأتين لزيارتنا.. تتجاهلينني وكأنني صرصار.. أو ذرة من غبار.. وتلعبين مع إخوتي الصغار؟ أسمعك تقبلينهم.. تمازحينهم وتشترين لهم الحلوى والألعاب.
أليس لي في قلبك مكان صغير؟
أليس لي في حبك لهم نصيب.. حتى وإن كان نصيب يسير؟
فقلت لك: بلى يا حبيبي.. يا فيلسوفي الكبير.
لكنني سأسرد أعذاري لك:
عندما بنينا مدينتنا الإسمنتية القاتمة.. دفنّا (الرحمة) تحت أساساتها وخرسانتها الهائلة الحجم،
وحين كنت أركض مع أهل مدينتنا.. ونلهث وراء (المادة).. سقط مني الإنسان في ذلك الزحام.. وداسته الأقدام الكثيرة.. وحين هممت أن أنحني لألتقطه وأضعه في جسمي.. خشيت أن ألقى نفس مصيره فتركته ومضيت معهم.. (دمية بشرية).
وهاك عذراً آخر.. إن قلبي يا صغيري مثخن بجراحي وعذاباتي الخاصة.. وأنا منشغلة بها..
فلا أهتم لعذابات الآخرين.. ولا أحس إلا بما يجرحني أنا
وما يؤرقني أنا
وما يقلقني أنا
أنا.. أنا.. أنا
أنت رهين محبس المرض.. وأنا رهينة محبس الأنا.
وهاك عذر آخر: إنني لا أعرف كيف أتعامل مع طفل عاق في السادسة من العمر.. كل ما فيه معطل.. سوى عقله وإدراكه.. ونحن في عصر السرعة والسهولة ولا أريد أن أجشم نفسي عناء البحث عن وسيلة ناجحة للتواصل معك عبر الحاستين السليمتين عندك (السمع واللمس).
وهاك عذري الأخير.. إن وزنك ثقيل وأنا اعتدت أن أتحمَّل ثقل الأشياء إذا كانت أكياساً ممتلئة بمشترياتي.. ملابسي أحذيتي.. عطوري.. لكن لماذا أتحمَّل ثقل جسم طفل معاق؟
لعلك يا صغيري تغبطنا على نعمة
الصحة والعافية.. التي نرفل فيها ولا نشكر الله عليها.. لكنك لا تعلم أننا نسخِّر أجسامنا القوية.. المعافاة لخدمة شهواتنا.. وأطماعنا.. وجبروتنا
وأن هذه الأجساد معاول نهدم بها أرواحنا.. فلا تغبطنا على تعاستنا
أنت لست شقياً.. إننا الأشقياء
لا.. لست بائساً إننا البؤساء.
ليتك تعلم ما يكنه لك أهلك وأقرباؤك ومعارفك في قلوبهم.. هم يحبونك.. يشفقون عليك.. يتمنون شفاءك العاجل لكنهم يائسون من ذلك لذا (قد تُفاجأ حين تعلم) أنهم ينتظرون موتك على أحر من الجمر.. لا لترتاح أنت بل ليرتاحوا هم من عناء خدمتك وإزعاجك..
حين تنتابك تلك الحالة العصبية.. تظل تتقلَّب على جنبيك يمنة ويسرة.. وتصرخ.. تنهال عليك سياط عذاب جسمي.. عصبي أو نفسي.. لا نعلم.. تتقلَّب كأنك تشوي على النار حياً.. وتبكي بكاءً غريباً.. لا يشبه بكاء إخوتك.. أو أي طفل آخر.
بكاء كأنه فحيح.. نحيب.. عويل.. أنين.. عواء
هو مزيج من كل تلك الأشياء
وأمك المسكينة حينئذ يشلها التوتر والحيرة.. تبحث عن سبب بكائك.. فتعطيك دواءك.. تطعمك.. تسقيك.. أو تبدل ملابسك المتسخة بأخرى نظيفة فأسألها عندئذ: ما الذي يؤلمه؟
ما أسخف السؤال بل ما أسخفني.
فأعود أسألها: ما الذي لا يؤلمه؟
وحين تستمر حالتك تلك.. تتضجر أمك المسكينة.. تضيق بها الأرض بما رحبت.. تنسل إلى حجرتها وتغلق بابها.. لعلها تحظى بلحظات من السكينة وتهرب من واقع لا مهرب منه.
واليوم.. أتى أخوك الصغير الشقي ذو الثلاث سنوات.. ورفسك بقدمه وكان التّشفي بادياً في عينيه.. فلم أعجب من فعله.. هو إنسان مثلنا وها هو يتدرب في عمره الصغير على أخلاقنا نحن الكبار. يضربك وهو يعلم أنك لن تقتص منه.. كما يقتص منه إخوته وأبناء الجيران.
.. في تلك اللحظات ملأ بكاؤك سماء المدينة وتلبدت بالشقاء.. حينئذ لم تبك يا حبيبي الصغير وحيداً.. بل بكيت أنا والأثاث والجدران لبكائك.
واليوم حملتك للمرة الأولى.. لكنك لم تكن ثقيلاً كما ظننت.. تأملت وجهك وأنت تصرخ صراخك المعتاد المتواصل.
سرت كل عذاباتك في جسمي.. وضعت سبابتي بين أصابعك المطبقة دوماً
قبّلت خدك المبلل بالدموع.. بدأت أدور معك في الحجرة وأغني.. وغنيت لك أغنية قديمة للصغار.. غنيت.. غنيت.. غنيت
وحلقت معك بعيداً عن هذا العالم الصدئ
وكنت أنا وأنت.. عصفورين
وأنت تحلق بجناحين ملونين
وكنا هناك قرب النجوم..
وبين الغيوم
نشرب من ماء المطر
هدأت قليلاً.. وشيئاً فشيئاً تلاشى بكاؤك
ذاك النحيب وذاك العواء
وُلِدَتْ.. على شفتيك ابتسامة كوجه الشمس حين تشرق لأول مرة بعد ليالٍ مطيرة ابتسامتك نبتت في مقبرة جسمك خضراء صغيرة..
هَمَسْتُ في أذنك.. أعلم أنك تعي ما أقول: سامحني يا حبيبي.. كلما آتي لزيارتكم سأقضي معك وقتاً طويلاً.. لعلي أؤنسك في عالمك الحزين الكئيب.. بل لعلك أنت تؤنسني في عالمي الحزين الكئيب.
آسفة.. يا حبيبي.. الصغير
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved