الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 27th March,2006 العدد : 146

الأثنين 27 ,صفر 1427

البريد الهندي: من كابول إلى بغداد (6)

*فاضل الربيعي :
يقول موسى الشابندر الذي سوف يصبح في الأربعينات من القرن الماضي وزيراً للخارجية في حكومة رشيد عالي الكيلاني المعادية للإنجليز، انه كان صغيراً عندما دخل البريطانيون بغداد ولكنه أدرك في وقت مبكر ما الذي عناه الاحتلال.
كان والد موسى يدير الشركة الإسلامية للمفروشات وقد استعد في اليوم الثالث من سقوط المدينة لتفقد أحوال شركته ودكاكينها المحترقة، ومن بينها المعرض الرئيس في سوق السراي في قلب العاصمة المحتلة.
فور وصوله ومعه ابنه الصغير موسى إلى هناك، ابلغه العاملون في الشركة أن الوالي التركي أرسل قبل أن يفر من بغداد نحو 17 قطعة من المفروشات العائدة للحكومة التركية لحفظها كأمانة. لكن كل شيء كان قد احترق؟ اخذ والد موسى طريقه إلى الحاكم البريطاني السير برسي كوكس وابلغه بالأمر.
وكما كان متوقعاً فقد زوده كوكس بكتاب إلى الجنرال مود، حول حكاية القطع المتروكة كأمانة وابلغه - زيادة على ذلك - أن وكيل الوالي التركي في بغداد طلب، في وقت سابق من الأحداث، من صاحب الشركة الإسلامية بيعه 15 قطعة من المفروشات وان أصول عملية البيع والشراء تمت بحضور القنصل الأمريكي.
بعد نحو شهر واحد فقط من سقوط بغداد (وفي 5 نيسان/ ابريل) كان موسى برفقة والده داخل المعرض الرئيس للشركة الذي احترق كليا عندما وصل، في تلك اللحظات، المفتش التجاري البريطاني المستر soon.
أجرى المفتش محادثة سريعة مع والد موسى، فهم منها الصبي أن الأمر يتعلق بالأمانة أو الممتلكات العائدة للأتراك، والتي أودعت في الشركة الإسلامية وان البريطانيين يريدون استردادها.
دار الحديث بين المستر soon ووالد موسى حول هذه النقطة بالفعل. ولكن عبثا حاول الرجل إقناع المفتش البريطاني أن كل شيء احترق بسبب القصف الجوي، وان لديه كتابا من كوكس بهذا الشأن.
يقول موسى الشابندر: إن المفتش رفض المبررات وطالب والده بدفع مبلغ ألف ليرة هي كامل رأسمال الشركة: وهنا كان الخطأ فقد اعتمد والدي على العدالة البريطانية وعلى الحق، ولم يعالج الأمر بصورة عملية وكان من جراء ذلك أن أمر المستر صون بتوقيف والدي وحجز جميع محلاته التجارية وأمواله وكانت هذه مؤامرة محكمة دبرها كوركيس والخضيري وبعض اليهود.
لم يدرك موسى الشابندر حتى وهو يكتب ذكرياته هذه، ويسترد بألم واسى واقعة إفلاس والده والزج به في السجن ومصادرة ممتلكاته دون أي ذنب، أن تصرف المفتش البريطاني لم يكن مجرد إصرار أحمق على التعامي عن رؤية الوقائع كما هي؛ بل كان جزءاً من استراتيجية الاحتلال: تحطيم وتفكيك الركائز التجارية التقليدية في بغداد تمهيدا لتطبيق شعار: بغداد اليهودية. كانت فكرة تحويل بغداد إلى مدينة يهودية تستند إلى سلسلة من الدراسات الاستشراقية الاستعمارية في الميدان الاقتصادي، والقائلة: إن النشاط التجاري في بغداد يقوده التجار اليهود في الأصل، وان تحسين وتطوير ظروف هذا النشاط وتمكين اليهود من لعب دور مركزي أكثر نشاطا وفاعلية، سوف يكون ضروريا لتحقيق تغيير شامل في الطابع التاريخي لبغداد، التي يجب انطلاقا منها، تهويد العراق واسترداد بابل وذكريات السبي البابلي.
يجب أن تتحول صورتها من مركز للخلافة الإسلامية إلى مدينة يهودية يقود التجارة فيها ويمسك بعصب الحياة فيها حفنة من التجار اليهود. بكلام آخر، جرى تخيل بغداد في صورة مكة جديدة لا يعوزها سوى وجود (قريش) أخرى ولكن على دين اليهود لتقود تجارة الإيلاف فيها بين القبائل العربية.
وما كان لهذا الأمر أن يتم من دون استخدام كل ذريعة وأي ذريعة ممكنة، لتحطيم تجار بغداد ودفعهم إلى الإفلاس والسجون أو الإفقار.
بعد نحو ثمانية أشهر فقط من سقوط بغداد سقطت القدس في يد الجنرال اللنبي. في هذا الوقت وقف رئيس الوزراء جورج لوسد ليقول أمام حشد من اللوردات وأعضاء مجلس العموم البريطاني كلمته الشهيرة: (بريطانيا هي أداة الله في يد اليهود).
وطوال الأشهر الثمانية وما بعدها بقليل لم يهدأ الجدل في الأوساط السياسية والعسكرية في لندن وبغداد، حول النقطة ذاتها: إن بغداد مدينة يهودية. إن اللازمة التي يكررها دون ملل كتاب وباحثون يهود من أصول عراقية، تدور حول هذه النقطة على وجّه التحديد.
مثلا يكتب كل من سامي زبيدة (واسحق نقاش 1996) أن اليهود في العراق كانوا القوة التجارية الضاربة حتى أثناء الاحتلال التركي؛ وان هذا الدور انحسر بترحيل اليهود في الخمسينات ليحل محلهم تجار شيعة. في هذه الأجواء حدثت أولى الصدامات مع الاحتلال البريطاني. لقد اكتشف العراقيون بسرعة ان التحرير البريطاني من الاستبداد التركي، لم يكن أكثر من خدعة استعمارية كبرى جرى تمريرها بقدّر من السهولة. في ذلك الوقت كان العراقيون، وبكل تأكيد، في أمس الحاجة إلى المال والعتاد والرجال والخبرات القتالية لكي يتمكنوا من قيادة وتنظيم أي مجابهة فعالة مع الاحتلال. ولذلك؛ نجحوا في تطويق المشروع الاستعماري البريطاني جزئياً بعد ثلاث سنوات فقط.
إن دراسة حملة الجنرال مود، من هذا المنظور، سوف تمكننا من التعرف بعمق أكبر على المغزى الحقيقي لما سنطلق عليه هنا: أفغنة العراق؛ أي تخيله في الخطاب الإمبريالي الجديد كامتداد لأفغانستان.
وهذه ستكون خطوة أخرى ضرورية صوب الكشف عن المضامين الفعلية، والأكثر جوهرية لما بعد الاستشراق؛ وبالتالي تطوير رؤية خلاقة تعيد بناء الرواية السائدة عن الاحتلال، ومغزى التحول أو الانقلاب المثير في الخطاب السياسي الأمريكي لاتجاه العراق وحده؛ بل وتجاه العالم العربي والإسلامي.
إن التأمل في الخطاب الأمريكي السائد سوف يكشف ببساطة عن استمرارية في خطاب استعماري قديم بدأه الجنرال البريطاني مود عند دخوله بغداد مُنتصراً.
لقد حظي هذا الخطاب بقدّر وافر من التحليلات التي اهتمت بشعاراته ووعوده؛ بيد أن العودة إليه مع عودة الاستعمار القديم إلى مستعمراته في العالم العربي، علنا أو بالتسلل أو بالاحتلال المباشر، تظل ضرورية وملحة من أجل الكشف عن الجوانب الخفية في المشروع الكولنيالي البريطاني، وبشكل أخص الكشف عن الرابطة الخفية بين التحرير من الاستبداد وما بعد الاستشراق.
إن لمن المثير حقاً أن ترتبط روح التحرير (الشريرة) هذه، مع الرغبات الاستعمارية الجامحة للتلاعب بتركيبة البلاد الثقافية والتاريخية.
مثل هذا الترابط الوثيق هو الذي يقودنا إلى رؤية ما بعد الاستشراق بكل أبهته الزائفة.
إثر نجاح حملة الجنرال مود في البصرة، ودخوله وهو يحمل بيانه الشهير عن التحرير والحرية والقضاء على الاستبداد التركي، والذي سوف يلقيه في بغداد، تفجر وبصورة مبكرة وغير متوقعة التنافس المحموم بين الشركات الأمريكية والبريطانية، والذي سرعان ما انطلق بين الحلفاء غير المرئيين من اجل الفوز بنصيب الأسد من مشاريع الإعمار وإعادة بناء ما هدمته الحرب.
كانت الشركات الأمريكية تترقب الفرصة السانحة لتقدم نفسها كشريك قوي للبريطانيين، وهي حظيت بدعم سياسي مباشر من ساسة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بأسرها.
بيد أن الشركات الأمريكية سرعان ما أصيبت بالصدمة وخيبة الأمل؛ إذ يبدو أن التنافس كان يتجه إلى النهاية لصالح الشركات البريطانية، ومع ذلك لم يكن ثمة ما يشكل عائقاً أمام الصحف الأمريكية ودوائر الدعاية، لكي تقدم دعماً إعلامياً قوياً ومباشراً للخطاب الاستعماري البريطاني.
وأتضح أن الأمريكيين كانوا يطحنون الهواء.
ففي ذلك الوقت اشتكى السفير الأمريكي علناً وبمرارة من هيمنة حلفائه البريطانيين على سائر المشاريع العمرانية، وهذا ما يُماثل - ولكن بالمقلوب - الوضع الراهن للشركات البريطانية التي راحت تشتكي من هيمنة زميلاتها الأمريكيات. في سعيها للحصول على نصيب معقول من مشاريع إعادة الإعمار في العراق؛ لم تكف الشركات الأمريكية عن الشكوى، حتى ان السفير الأمريكي في بغداد الذي وصل للتو، ندد بغطرسة زميله البريطاني قائلا: انه يتصرف كحاكم مطلق الصلاحيات.
لندن.. مع حلول عام 1928 أدرك العراقيون بعمق أن مخاوفهم من (تهويد بغداد) لم تكن ضرباً من الهلع الجماعي وحسب؛ بل كانت في صميم إحساسهم بأن بلادهم باتت عرضة لصنوف شتّى من التخيل. في الثامن من شباط/ فبراير علمت مجلة الشرق الأدنى أن الفريد موند أحد أبرز زعماء الحركة الصهيونية يعتزم زيارة العراق.
وعلى الرغم من التكتم الشديد الذي أحاط به البريطانيون خبر الزيارة؛ فإن أنباءها تسربت إلى العراقيين عن طريق أستاذ عراقي يعمل مدرسا في مدرسة التقدم التابعة للطائفة اليهودية. وعلى الفور تجمهر الطلاب في شارع الرشيد ونظموا مظاهرات احتجاج عارمة، ثم زحفوا من هناك باتجاه شارع المتحف ليسيطروا على الطريق المؤدية إلى جسر الخر، حيث توقعوا مرور الموكب.
وفي تحذير نادر حملته إحدى الصحف (الزوراء) في 9 أيلول/ سبتمبر تمت الإشارة بوضوح إلى الدور النشط الذي تقوم جمعية (اتفاق إسرائيل في بغداد) التي استأجرت مقراً لها في قلب العاصمة العراقية وقامت بتوظيف عدد من معلمي اللغة الفرنسية والإنجليزية.
في اليوم التالي رفع الطلاب مذكرة احتجاج إلى حكومة عبد المحسن السعدون قالوا فيها: (إن مظاهرة 8 شباط ليست من الحوادث المخلة بالنظام العام وسلامة الدول لأن المظاهرة قامت احتجاجاً ضد الصهيونية) اللغة ذاتها والأبطال أنفسهم، ولكن العصر هو الذي تغير، ومعه تغيرت الأدوار وتبدلت أشكال ونسب القوة والحجم والطاقة على الهيمنة بين المتنافسين المتحالفين.
لقد عادوا إلى المسرح نفسه ليلعبوا الأدوار ذاتها وليدخلوا من جديد في التنافسات المحمومة وغير الأخلاقية، وليثيروا المواضيع الملحُة نفسها في المجتمعات نفسها، التي ظلت من دون حلول عملية لمشكلاتها المتوارثة والمستمرة باستمرارها. اليوم؛ وبدلاً من سياسة تحويل العراق إلى (هند) أخرى، يجري تحويل العراق تدريجاً إلى أفغانستان أخرى. إنه البريد الهندي القديم الذي جاء ليحمل إلينا الرسائل نفسها.
- الآنسة غروترود لوشيان بيل 1868-1926م. التحقت بالحملة البريطانية على العراق عام 1916 وعملت في مكتب السير برسي كوكس بصفة سكرتيرة للمكتب الشرقي للمندوب السامي. توفيت ودفنت في بغداد في الثاني عشر من تموز/ يوليو 1926م.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved