الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 27th March,2006 العدد : 146

الأثنين 27 ,صفر 1427

على استحياء
صلاح بن هندي - 88 صفحة من القطع الكبير

*سعد البواردي:
* على استحياء (مجلة يتوق إليها الذين يتملكهم الحياء فما يجعجعون.. وما يصرخون.. وما يقابلون الصياح بصياح كي لا يُغلبون.. على استحياء مزيج من الخجل.. والتواضع.. وأيضا التستر حتى لا يشيع القول وتتناقله أفواه الوشاة.. هل هذا ما يعنيه شاعرنا في عنوانه لديوانه؟
من هذا الذي يحسبه هو؟ العنوان أحسبه أنا.. من ذا يكون؟
وجرعني الزمان أسى وهماً
فكان الصبر لي خالاً وعماً
فما أشكو وإن عظمت خطوبي
فطبعي لا أُري الإخوان غما
أكفكف ما ترقرق من دموعي
بحزمي إذ جعلت الحزم كما

يبدو أن الحدس صدق.. مؤشرات شاعرنا تشير إلى رفعة نفْس.. ودفقة نفَس.. وجَلَد أمام المصائب.. حتى أمام الموت إنه يضحك وقد شرعت المنية نابها!! هذا كثير يا عزيزي.. لا أحد فينا يستعجل الموت.. ولا يستطيب قدومه وهو قدر لأنه نهاية حياة..

(افتحي إني أتيت).. يبدو أن شاعرنا لا يحتفظ بالمفتاح في جيبه.. إلا إذا كان المفتاح لبيت آخر غير بيته.. المهم أنه طرق الباب.. ومن داخل الدار تناهى إلى سمعه صوت هادئ يسأل.. (من؟!)

افتحي إني أتيت
قادني شوق وبيت
قادني وجه صبوح
وجهك الضاوي عنيت
يستعجلها فتح الباب فهو على استحياء..

ها أنا جئت إليك

وعلى الباب ارتميت

فاحضنيني مثل أم

إنني طفلاً غدوت

كلما جلت ببالي

عن جوى نفسي سلوت

الباب مشهده مغلق وموثق بالضبة والمفتاح في وجه رغبات شاعرنا صلاح.. ربما الحياء أيضا له فعل السحر..
(ذكراك يا ولدي) صوت أبوة موجوعة برحيل قرة عينها تتذكره على مدار الساعات والأيام والأعوام:
وأمرّ يا ولدي بقبرك كلما زرتُ الصديق
مرأى المقابر يا بُني يشبّ في القلب الحريق
فيغيب عن عيني البريق..
وهل بريق يبقى لمفجوع أو موجع في أعز الناس إليه..؟!
وعلى يميني سور مقبرة يطاردني كثعبان الحُواة
مزماره آه بصدري تلو آه
أنفاسه الحرى لهيب من لظاه

الحرقة في حروفه مشبوبة لا يطفئها الماء.. ولا يقلل من وجعها استقبال صباح أو مساء

اعذر أباك إذا تولى بعد دفنك كالمساء

وأتى الظلام يمد أجنحة الشقاء

فكذا الحياة - حشاشتي - فإلى لقاء
ما دامت الحياة عند شاعرنا يقين بالموت.. ووعد باللقاء فإن الصبر أجر.. والاحتساب فضيلة ورصيد ثواب.. كلنا فقَد.. وكلنا سيفقد.. الحياة مرحلة نودع فيها بعضنا البعض.. ونودع فيها حصيلة رحلة زمنية بعضها حلو والآخر مر.. والقادرون على تحمل المصائب هم الأقدر على نيل المثوبة..

فصبراً في مجال العيش صبراً

فما نيل الخلود بمستطاع

(على استحياء) مفتاح اللغز الذي باع به، وأزاح عنه الستار في هدوء:

قسمات وجهك قبل دفنك في التراب
شمس تغيب وشرفة وسنى يجللها الضباب
بيديّ يا ولدي أهلت الترب في حزن عليك
وبكيت مثل الطفل في شوقي إليك

فلذة كبد شاعرنا الصابر الحزين بمثابة عينه وكفه.. أما والدته وشقيقه الراحل:

حتى إذا ما عدت للبيت الحزين

أبعدت أمك بين أحضان الأنين

وأخوك يسأل وهو في عمر الرضيع

ويقول: (أين أخوي يا بابا)

لك.. ولأمه.. ولشقيقه الصغير العزاء وسعادة العمر.. أحياناً طوله مرهق ومكلف.. على نهج (الأطلال) رائعة ناجي وأم كلثوم.. نهج: أجتزئ منها بعض الأبيات:
يا سراج كان يضوي فخبا
وجواد ظل يعدو فكبا

(سراج) و(جواد) حقهما الفتح لأنهما مخاطبتان (يا سراجاً) و(جواداً)

قد تعاهدنا صغاراً أبريا
أن سيبقى وصلنا يأبى الجفاء
أبريا محتاجة إلى همزة أخيرة (أبرياء)
وبكينا مثل طفلين جرى
منهما الدمع وقد بل الثرى

ومن نهج أطلاله إلى لحظة وداعه:

كفكفي الدمع بطرف الذكريات

واطردي الحزن بعيداً يا مهاة

أنا لن أرجع يوماً ها هنا

بعدما جف معين البسمات

من يدري فقد يكون لبسمته عودة لو أنها عادت.. وأعادت حبل وصالها الموثق..

* (ابن زيدون في ثوبه القشيب) موحية وجميلة منها:

(أبا الوليد) زمان الشعر يدنينا

والدهر في سيره ما زال يقصينا

لو أن (ولاّدة) الأحزان تقصدني

أجبتها عنك فاسمع يا ابن زيدونا

إليك عني فليس الدمع يغرينا

إليك عني فلا عادت ليالينا

إن الزمان الذي بالأمس أسعدنا

غداً زماناً مع التذكار يشقينا

إلى أن يقول في مقطوعته الرائعة:

بالأمس كنا وثغر الحب يمدحنا
واليوم هذي دموع الحب ترثينا
يا ليت قومي غداة البين ما سمعوا
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا
(ولاّدة) الهم عودي لست لي أملاً
وكفكفي الدمع ما عدنا محبينا

تمرد على حب لا يشبع جوعا ولا يروي ظمأ.. هكذا وصفه شاعرنا فأحسن الوصف.. (جلست بقرب شباكي) مفروقة شعرية خفيفة الظل:

وقفت بقرب شباكي

أكفكف طرفيَ الباكي

وأبصر حوليَ الدنيا

جحيما عند ذكراكِ.!

فديتك يا منى روحي

فمن بالهجر أغراك؟!

سأرحل يا منى عمري

ولكن هل سأنساك؟!

أشعر أنني أمام شاعر إبداعي يجيد المدخل والمخرج لمشاعره دون ضعف ولا تلكؤ.. شعره الوجداني يتلاحق ويتساقط كحبات المطر طرية وذكية.. ولكثرتها.. وتشابه أغراضها أتجاوزها في حب وإعجاب بمكنوناتها (أتبكي عيناكِ) (وقفة مع حسناء) (رسالة إلى الزوجة المجهولة).

(قبلة الشوق) (أسطورة) (دنياي أمي) هي بيت القصيد الذي نلج إليه:

إن شحّ في معين الحب أو نضبا

فبحر حبي يا أماه قد عذبا

تعبُّ منه شراييني وأوردتي

فيصبح القلب بالأشواق ملتهباً

على ذراعكِ كم هدهدتني فرحاً

كأنما تحضنين الدر والذهبا

أماه عفواً فليس الشعر موهبتي

لكنما القلب يهوى الشعر والأدبا

موهبتك لا تحتاج إلى شهادة بل وإشادة.. شعرك الجميل الشاهد عليها.. وكما قال عن أمه.. قال عن جدته خطاباً مشابهاً ومماثلاً في جودته..

(الأحساء) (واحة النخيل.. واستراحة الناس الطيبين كان لها في قلبه منزلة.. وفي قلبي أيضا نزلا لها ولأهلها: إنه يستعرض بعض معالمها وإعلامها (طرفة بن العبد) الشاعر (الأجش العبدي) (وابن المقرب) (وابن فيروز) (يوسف أبو سعد) أعلام، و(الجرها) و(جواثا) و(عين الخدود) و(الحسا) و(عين نجم) معالم.. أنصف أحلامه ومعالمه شعراً أصيلاً وجميلاً اختتم به هذه الأبيات:

أحساء هذا الهوى العذري يحملني

صوب الديار فهل ألقى بك الطلبا

أتيت أحمل أوجاعي على كتفي

وأسحب الآه.. والإعياء والنصبا

وأمضغ المرّ علكاً بات يحرقني

وألبس الذل ثوباً يورث الجربا

حبيبتي إن بكى الأطفال أمهمو

فأنت أمي وهذا الدمع قد سكبا

يكفيك شهادة وفاء.. واقتدار ما قلت عن أحسائك (أحسائنا جميعاً.. اخلع عن كتفك حمل أوجاعك، واسحب آهك وألق بلباس الذي جانباً.. فمن يحمل ثوب وفاء وولاء وانتماء لوطنه لا بد وأن يكون حراً..
وقفته الشعرية على قبر نزار طويلة.. لا تقدر أقدامنا على تحملها فقد تحملها هو نيابة عنا جميعاً.. وعلى مقربة من مثوى نزار محطة رومانسية:

أمريم أنت غرامي الجميل

وأنت الحبيبة بين البشر

تعالي نصافح ذاك النخيل

ونقطف منه لذيذ الثمر

فديتك أنسا يزيل الهموم

وطيفا جميلاً بوقت السحر

الحياة فرحة.. واللفظ أحياناً فرحة:

أحب اللفظ من فيكِ
لأني هائم فيك
جناس جميل.. وإيقاع أجمل: وتوصيف أغرق به صورة محبوبته ينتهي إلى هذا المقطع.
سأروي للدنا حبي

وللأطيار أشدوك

على هامة الرابية وقف شاعرنا يبكي.. ولأني لا أستطيب كثرة البكاء تجاوزتها لا ضعفاً في بنائها الشعري وإنما ضعفاً في موقفها الدرامي الملفع بالحزن..

شاعرنا أحسن إلينا كمتابعين لرحلته أراد لنا معه أن نطرح الملل جانباً كي نستريح من عناء السفر:

وداعاً أيها الملل

فمنك اليوم أرتحل

إلى دنيا تجملها

فتاة وصلها أمل

طبعاً وقوفنا كان بعيداً عن مشهد اللقاء.. ومن عالم الفتاة إلى عجائب الدهر.

عجائب الدهر تشجيني فتبكيني
وكلمة الهم عند الضحو تغشيني

أليست مفردة (الصحو) رمز اليقظة أنسب من (الضحو)؟

دع الفقير الذي لو كان مقوله

يحيّر اللب في عرض البراهين

ما كان ينطق لا حقاً ولا كذباً

إذا تحدث أصحاب الملايين

مشهد من العجائب.. وآخر:

وإن تفاخر ميسور بثروته
وجدته في الحجا صفر الموازين
ألم تسمع يا صديقي بتلك المقولة المعقولة واللا معقولة في آن واحد (اللهم أعطني مالاً يخدمني به أولو العقول ولا تعطني عقلاً أخدم به أولي الحظوظ).
الأرقام تتحدث عن نفسها.. والأصفار خرساء لا تقدر على المنطق ولو أنها نطقت لسقطت، وكما أعطى لنا نهجاً للأطلال.. هذه المرة يرثي أطلال مجد الماضي:
على المذلة غنى اليوم حادينا
ولم يبق شيء من الدنيا بأيدينا
بالأمس كنا ملوك الأرض قاطبة
لم نعرف الذل حتى ذل شانينا
نعم عشقنا ولكن عشق حنظلة
الفيل لا عشق قيس وابن زيدونا
فليت شعري هل جفت منابعنا؟
أم أننا اليوم لا نهفوا لماضينا؟

أخشى أن أقول كلتا الحالتين معاً.. ويبقى الأمل قائماً.. من لا أمل له لا عمل لديه.. اليأس ممنوع من الصرف والتداول..

(تمتمات أب) أغرودة في آذان الصغار أشبه بالموسيقى كتأتآت الصغير على مشهد من أهله:

قد طال غيابك يا ولدي
والشوق يرفرف في خلدي
أشتاقك جاء يرويني
فيحيل الجدب إلى رغد
أشتاقك روحاً تحييني
فأنا من مات من الكمد
يا (أحمد) والحمد رداء
فالبسه.. لتغنم يا ولدي
نعم النصيحة..

تذكرت مع مقطوعته (والقهوة بشيري) أغنية أسمهان التي تقول فيها: (يا من يقول لي أهوى أسقيه بإيدي قهوة) وأغنية سميرة توفيق وهي تغني للقهوة وتطلب المزيد من الهيل.. هل قوة شاعرنا قهوة هوى.. أم قهوة قهوة!؟

أديري القهوة الحمرا أديري
وكوني عند نشوتها سميري
وزيديني من البن اليماني
سلافاً ينتشي منه سروري
سلاف لو ترشفه النواسي
لأعرض عن هوى بنت الخمور
لو أن أبا نواس حي ماذا سيرد عليه؟

أديري القهوة الحمرا فإني

عمى (يعقوب) والقهوة بشيري

الحب المجنون أحسبه للساقية.. لا للفنجان.. أنه يذكرني بمقولة (مجنون ليلى)

وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
وما دمنا مع شاعرنا في محيط القهوة وفنجانها وساقيها.. فلن نكون بعيداً عن شبيهة لها عنوانها (عيناك هما الكأسان)

نظمت الورد والأزهار عقداً كي أحلّيك

بعقد الورد والزهر..

وطرت جميلتي كالنسر للنجمات نشوانا

قطفت نجيمة حلوة

انتهى به المطاف إلى قطاف حلو من شجرة النجوم.. إنه محظوظ.. ولكن أين العيون؟!

ويا آه لعينيك
هما الكأسان والساقي رموش العين
تسقيني ومن بَرَدي تسبيني فغنيني
بحرف الراء والسين
جميل أن أرى الأشواق في عينيك تدعوني
عيناها مرآتان عاكستان فيهما الليل والنهار..
والبحر.. والبحار.. وسفن الحب.. والأمواج الكاملة.. هكذا صورها شاعر قبلك
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
أتراك نجوت من سلاح أهدابها.. وسحر أحداقها؟ لا أدري
وأخيراً مع رحلة شيقة ممتعة مع شاعرنا المرهف (صلاح بن هندي) في مسك ختام ديوان (على استحياء) مع مقطوعته الأخيرة غيداء.

وغانية ألقت شِراك غرامها

بدربي إذا مرت مرور السحائب

هتفت بها: مهلاً فديتك إنني

(هزبر) أسير في شراك النوائب

أسد وقع في شراك ظبية شرود.. القوة دانت للضعف لأن سلاح الجمال شل حركة العضلات المفتولة..

هتكت لها ستر النصيف فهالني
جمال المحيا وارتسام الحواجب
وأنف كحد السيف حين امتشاقه
وعين تريك الموت عذب المشارب
وشعر كأن الليل سقط سواده
تمنيت أني بين عقص الذوائب
وجيد كلون العاج لون أديمه
وخصر تثنى فوق كثب الحقائب
حلفت لها بالله إنيَ هائم
بتلك السجايا مغرم بالمناقب
فقالت وصكت وجهها: (وي فضحتني)
وعرضت أهلي لانتضاء القواضب
ليست هي وحدها التي تعرضت لسيوف أهلها.. فقد تعرضت أنت بقوة من الأسلحة الفتاكة لا طاقة لك بها.. كل ما فيها يحارب
.. ويجندل.. ويقتل.. اسلم بجلدك.. أما مرافقك في هذه المرحلة فإنه لا يكتمك إعجابه بشعرك.. وقدرتك على الطرح.. واستحواذك الذكي على الفكرة دون إرباك أو ارتباك..

الرياض ص.ب 231185
الرمز 11321 - فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved