الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 27th March,2006 العدد : 146

الأثنين 27 ,صفر 1427

السارقة الصغيرة
*إبراهيم بن فهد الوسيدي:
أميرة.. طفلة فقيرة
أخذت من الطفولة البراءة ومن الفقر البياض
فغدت أصدق من صبح
وأصفى من دمع
جبينها شروق
وعيناها أنهار
وابتسامتها النهار
يداها بيضاء من غير سوء..
لم تتلون بهدية ولم تتلوث بعملة نقدية
لم تمسهما غير أوراق الأشجار وبقايا الخبز والطباشير
غاية آمالها.. عودة أباها السجين
وجمع شمل الأسرة من جديد واستغناء أمها عن العمل في المدرسة
أغلى أمانيها أن يتحول البشر إلى عصافير.
لا يخزنون الطعام عن غيرهم
عندما تغمض أميرة عينيها..
تهجع الفراشات على جنبات قلبها
وعندما تستيقظ تطير حولها وتبث السعادة في نفوس كل من تقابلهم
فكل من بالمدرسة يحب أميرة ويستبشر خيراً
ب(فلجتها) التي تميز ابتسامتها عن بقية الأطفال
كل من في المدرسة يعرف فستان أميرة الزهري
الذي يتكشف كل سنة عن ساقيها أكثر فتبدو أجمل
الكل تعود أن يرى أميرة في فسحة الإفطار وهي تأخذ المقشة من يد أمها وتحشو بها بقايا أوراق الأشجار في كيس كبير
وفي نهاية الفسحة تلتقط بقايا سندوتشات الطلاب
فما علق منه برائحة دسم تضعه في سلة صغيرة
وما نشف تفتته وتضعه للعصافير
في تلك الليلة كانت أميرة سعيدة جداً وحزينة جداً
فاليوم استطاعت شراء لحاف لأبيها ليحمي عظامه المنخورة من رطوبة السجن
ويحزنها عدم شرائها الدواء لأمها لعدم كفاية بقية راتبها الضئيل خاصة وأنها هذه الليلة بدأت تسعل بشدة
فقامت وجمعت ما علق ببقايا سندوتشات الطلاب من لحم مفروم وبيض وفلافل
وفتت فوقهم بقايا السندوتشات ووضعتهم على النار قليلاً
لعل صدرها أن يهدئ بعد أن يشعر بالدفء
وضعت الصحن أمامها وأظهرت الشبع بسبب تلك الوجبة الدسمة التي ادعت تناولها مع أبيها في السجن
وصارت تقوم ببعض أعمال المنزل وهي تختلس النظرات لأمها لتتأكد من أن يدها تمتد جيداً للطعام
ألقت أميرة جسدها المنهك على الفراش بعد أن أتمت عملها وهي سعيدة هذه المرة أكثر بانطلاء حيلتها على أمها التي أكلت وغطت في نوم عميق الآن
انطوت أميرة تحت غطائها وهي تستجدي أحلامها لمواجهة سياط الجوع التي
بدأت تلدغ معدتها الصغيرة
فأمعنت بأحلامها أكثر حتى أنها سددت دين أبيها
وخرج من السجن وأسكنها وأمها في منزل خاص بعيداً عن هذه الغرفة الكئيبة الملحقة بمبنى المدرسة فصارت مثل الأطفال الآخرين
تأتي إلى المدرسة من خلال الحواري والطرقات
وتستمع بتبادل التعليقات معهم عن كل شيء يصادفهم في الشارع
وصارت تشتري الحلوى والدفاتر والأقلام التي تختارها بنفسها
لكن هيهات فللجوع سطوة لا تقاومها الأحلام
فالأحلام للبطون الملأ فقط
فاستجدت النعاس فجاءها سريعاً يلبي النداء بسبب يومها الشاق
ولكنه لم يستطع مقاومة أسلحة الجوع الفتاكة فانقشع عن عينيها سريعاً لتجد سياط الجوع قد ألهبت معدتها كثيراً..
ملمت لحافها ووضعته تحت بطنها..
ولكن المعدة الخاوية لا تنطلي عليها حيل الفقراء
جالت بفكرها على كل أرجاء المدرسة لعلها تجد ما يصلح للأكل
فتذكرت تفاحة كانت وقد وضعتها معلمة الرسم أمام الطلاب
ذهبت بأمر من معدتها هناك
دخلت الصف وأشعلت النور ووجدت التفاحة
ووجدت نفسها أمام الامتحان الصعب معدة خاوية وتفاحة في خلوة
قبضت على التفاحة تريد أن تلتهمها ولكنها أنزلتها بسرعة في صحنها
واقشعر بدنها من هول ما أقدمت عليه
وبما أن الجوع لا يراعي الفضائل
أمسكت التفاحة مرة أخرى وعندما همت أن تطبق عليها أسنانها..
خيل لها..
بأن الطالبات ينظرن إليها فوضعتها
ابتسمت.. وذهبت إلى آخر الصف لتلتهما على الورق
فمرة رسمتها مقشرة ومرة قد أكل نصفها وفي آخر مرة
رسمت بذرتيها فقط في قاع الصحن
ولكن حيل الفقراء لا تنطلي على بطونهم..
فقفزت إليها وقضمت منها قضمة ورمتها على صحنها بسرعة وذهبت ركضاً إلى غرفتها
وتحت غطائها لم تبتلع ما قضمته من التفاحة بل أطبقت عليه فمها
وتركت للعابها الاستمتاع بتذويبه ويبدو أن معدتها استقبلت بفرح ما يتقاطر عليها من هذا الشيء الممتع الذي لم تعهده من قبل فرضيت بكمه
القليل
وناااااااااااامت أميرة..
وفي الصباح وعندما اختلطت أصوات الأطفال بأصوات العصافير
كانت أميرة تفتح عينيها بسعادة وهي تتهيأ للمدرسة وقبل الخروج تفقدت نفسها بالمرآة
رأت قشر التفاحة عالقاً في فلجتها فذكرها بأمر سرقتها الليلة البارحة
فارتجفت ورمت الحقيبة وأسرعت في الاختباء تحت غطائها
ولكن استدركت أن غيابها سيجلب لها الشك فعزمت على الخروج ودخلت الصف وضربات قلبها الصغير من فرط قوتها
تكاد أن تخلع أضلعها الهشة
مر الدرس الأول بسلام وفي الدرس الثاني (درس الرسم) رأت بوضوح أثر
سحبة فلجتها على جسد التفاحة الطري
واسترقت النظر إلى كراسات الطلاب فإذا بهم يرسمون بوضوح تلك السحبة
فوضعت يدها على فمها حتى لا تظهر فلجتها (دليل الجريمة) طوال ذلك اليوم والأيام التي تلته.
حتى صارت عادة حرمت الناس من رؤية ابتسامة أجمل أميرة.


harb_999@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved