الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 27th March,2006 العدد : 146

الأثنين 27 ,صفر 1427

ابتسامة الموت
*حصة العتيبي:
الخوف يرقب تلك العيون الصغيرة، تختلق النظر، تحتار كيف تستقر في قمة الرأس دون أن يغشاها الدمع، أو تسافر بعيداً هرباً من المنظر الدامي، وتحلق في المدى سائحة تخشى أن تعود للأرض فترى تلك الأجساد المسجاة من فعل القصف المستمر.
الطفل الغريق في بحر من دمه، صار ذكرى في صورة وخبر، تتناقله الصحف، تلتقط الجسد الغارق في دمه من كل الجهات وتتفنن في جعل الخبر أكثر تأثيراً على الأعين المرتقبة لشيء جديد.
الثياب الممزقة تعلن عن وحشية الانفجار، وأيادي المسعفين ازداد خضابها احمراراً كلما زاد عدد الأجساد المنقولة لشاحنة الرحلة الأخيرة حيث ستحملهم لآخر مرة إلى المقبرة.
كانت الضحكات قبل ثواني تملأ المكان، والضجيج يعبق بفرح الطفولة البريئة، ونسائم بداية اليوم تنبئ عن شيء غريب سيحدث على الرغم من برودة الهواء المنعشة.
في لحظة، بينما كان الضحك سيد الزمان، والابتسامات تتصدر الوجوه والمكان، انفجر الهواء من حول الأجساد الغادية هنا وهناك، فتطايرت أطراف، وتقاسمت الريح أشلاء، فوزعتها بعفوية على أرض لم تعد أرضاً، ولبس حطام الأشياء لون المرجان الأحمر القاني، وتفتت مراكب كانت تحمل عتاداً وأناساً، وأصبحت رماداً.
كان أحد المسعفين يبكي، لأول مرة يبكي منذ أن التحق بمهنة المسعف، وهو الذي قضى حياته بين رائحة الدم وإنقاذ المصابين، لا يبالي سوى بكيفية الركض السريع لمسابقة الوقت وحمل الجرحى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح محتاجة لمن ينقذها.
في ذلك اليوم بكى المسعف بشدة من منظر طفل لم يبقَ منه سوى جزء من القسم الأعلى لجسده مترهلاً، ربما من فعل الارتطام بالأرض كما ذكر أحد شهود العيان، حيث طار البريء عالياً كأنه سيخطف نجماً أو يطارد طيراً أو ربما شاهد حلماً وأراد أن يستبقيه واقعاً ولو لثوانٍ..! وبقية من قدَمَي الصغير لا زالت متماسكة يعتليها حذاء قديم اختفت معالمه تقريباً، ربما من فعل الانفجار، وربما من حالة الفقر التي يعيشها هو وأهل حارته في ذلك الزقاق الطويل. اقترب منه محاولاً جمع ما تمزق من الجسد الصغير ليضعه في لفافة حتى يكرمه في مثواه قبل الأخير.
بكى كثيراً وهو ينظر في وجهه المليء بندوب الشظايا التي استقرت إحداها بين عينيه كأنه خجل من استمرار اندفاعه داخل الجمجمة الصغيرة ففضَّل أن يبقى في هذا المكان منتظراً أن ينتشله أحد ليسمح للجسد الصغير بأن يرحل بسلام.
اهتزت يدا المسعف عندما لاحظ أن ابتسامة مغتصبة باغتت شفتي الصغير وهو مسجًّى، حرَّكه هنا وهناك، فحص قلبه فوجده هامداً، أرسل شحنات كهربائية عبر جهازه لقلب الصغير فتأتي النتيجة غير مبشِّرة، هُرع إلى أصحابه مستنجداً بهم: تعالوا.. شاهدوا ما أراه.. أغيثوني.. هل أحلم.. الطفل يبتسم وهو ميت.. ربما أنا أحلم، وربما هي تلك الرغبة القوية في تكذيب أن هذا البريء قد فارق الحياة... أسعفوني...... ثم راح في نوبة بكاء لم تنتهِ على خير.
بعد أيام، وبعد انتهاء مهمة جمع الشظايا وبقايا الأجساد الممزقة والملاءات التي تشهد على المذبحة التي راح ضحيتها أناس لا ذنب لهم خرج صاحبنا من نوبة اكتئاب أطاحت بما تبقَّى من الأمان خارج نفسه الفزعة.. في ذلك اليوم فتح باب منزله.. وخرج متجهاً بنظره نحو الشمس وابتسم بغصَّة تخنقها دموع هاربة، وتمنى لو أنه لا يتذكر ذلك الوجه الصغير، وتلك الابتسامة الضعيفة، ولم يكمل سرد أمنياته بينه وبين نفسه حتى لاحظ أن أمام باب منزله خطوات لأقدام واهنة صغيرة، ونقط دماء حديثة، وآثار حزينة.. استمر مذهولاً في النظر..
هل يعقل؟!.. هل من الممكن أن يكون ما أراه حقيقة؟! الآثار والدماء وقطع القماش المبلل بالدماء المترعة بالتربة تتجول أمام منزلي.. ومَن أحضرها إلى هنا؟.. هل يعقل أن يخرج الأموات من قبورهم ليعبروا عن شكرهم أو عتابهم.. أو حتى امتنانهم على المعاملة الحسنة لأجسادهم المسجاة؟! هل حقاً هذا؟!
تتلاعب الأفكار والتفسيرات برأس صاحبنا المسكين فيهرع إلى داخل منزله ليدفن رأسه بوسادته.. لا يريد أن يسمع شيئاً.. أو يعلم عن شيء.. أو حتى ينظر ناحية الشمس خشية أن تذكِّره بابتسامة ذلك الوجه الباهت وهو يعدُّه لرحلة الرحيل الأخيرة.


hkhma6@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved