الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 27th June,2005 العدد : 112

الأثنين 20 ,جمادى الاولى 1426

هل هو حي يرزق؟!!
أمل زاهد
هناك الكثير من المؤلفات التي تنتقد العقل العربي والتي تحاول تشخيص أمراضه ووضع يدها على مواطن الضعف في طرائق تفكيره ومناحي سيره والتي تلعب دون شك الدور الرئيس في تخلفنا عن باقي الأمم، وقد حاول مؤلفو هذه الكتب أن يلفتوا الأنظار إلى تلك الأمراض آملين في أن وضعها تحت دائرة الضوء سيقودنا إلى إدراك وجودها وبالتالي محاولة التخلص منها.
وقد انتقد المفكر المصري الراحل (زكي نجيب محمود) عبر كثير من مؤلفاته ميل العقل العربي إلى إحالة ما يواجهه من إشكالات لها جذور وأسباب في واقع الحياة المحسوس إلى الغيبيات.. فالظواهر الطبيعية انتقام من الله سبحانه وتعالى، والمرض عين فتاكة أصابت المريض، والمشاكل الزوجية سحر، والفشل في الامتحان ليس أيضاً إلا نتيجة لسحر أو (عين قوية) أصابت صاحبها، أما السرطان فقد احتار الأطباء في أسبابه ولم يجدوا له تفسيراً وهنا لابد أن تشهر (ورقة العين) المسؤولة دائماً وأبداً عن كل آفة أو بلاء يصيبنا.
والكارثة أن هذه التفسيرات لا تنطلق فقط من أفواه العامة أو غير المتعلمين بل يشدو بها كثير من المتعلمين الذين درسوا تخصصات علمية دقيقة ويستخدمون في أعمالهم تقنيات عالية تعتبر ثمرة من ثمار إبداعات العقل الإنساني ويتمتعون في منازلهم بأحدث ما أنتجته الحضارة الإنسانية من وسائل راحة ورفاهية، وهنا لابد أن نندهش من هذه الازدواجية التي يغرقون في غياهبها فهم يستخدمون العلم الحديث ووسائله العالية التقنية من جهة في تفاصيل حياتهم ثم يرفضون إحالة الإشكالات التي تواجههم إلى المنهج العلمي من جهة أخرى مؤثرين إحالة أسبابها إلى عالم المجهول.
ولا تستغرب لو أرجع أحد أطبائنا الحاذقين سبب مرض السرطان إلى العين الحاسدة أو شخّص حالة اكتئاب تفاعلي على أنه نتيجة لأعمال سحر وشعوذة، ولا تستغرب أيضاً لو وجدت مجموعة من المعلمات المتنورات يتناقشن في مشكلة زميلة لهن تعاني من إعراض زوجها عنها ونفوره منها وهن يتهامسن فيما بينهن أن سبب ذلك النفور هو عمل قامت به الخادمة الحاقدة أو إحدى الحاسدات من القريبات. ولا تستغرب أيضاً حين تلاحقك أنت نفسك أمراض الثقافة المحيطة بك فتنجرف معها وتتوجس خيفة من عين حاسدة أو قلب مريض، ناسياً محاولاتك الممضة لحقن وعيك بقناعاتك الجديدة التي ترفض التماهي مع الخرافات، فقد استبقت تلك الترهات طريقها إلى لا وعيك وغرست نفسها فيه وأضحى من الصعوبة بمكان إخراجها من مكان استقرت فيه طويلاً. ولا تستغرب أيضاً لو علمت أن سبب فوز الفريق (الفلاني) على الفريق (العلاني) هو سحر قام به أحد السحرة المهرة فأردى الفريق الآخر صريعاً وتسبب في القذائف التي هطلت على مرمى الفريق الآخر بينما وقف حارس المرمى مذهولاً غير قادر على صد الهجمات بسبب قوة العمل السحري الذي قام به الفريق الآخر. ولا تستغرب أيضاً لو كان سبب فتور العلاقة بينك وبين رئيسك ولومه الدائم لك هو عين حاسدة أصابتك بقوة تأثيرها، لذلك ليس هناك مبرر لأن تبحث عن الأسباب الحقيقية وراء فشلك أو عدم قدرتك على إنجاز عمل ما أو مرضك أو موت عدد خيالي من الضحايا في زلزال (توسنامي)، فالأسباب كلها معروفة ومن الممكن استخلاصها من ذلك العالم المجهول: عالم الغيبيات، وهذه هي الطريقة الأسهل التي من الممكن إحالة كل مشاكلنا عليها من غير أن نتكلف عناء البحث والتقصي، والتي تمنحنا الحلول والإجابات لكل الإشكالات المستعصية في حياتنا.
ولو توسمت في نفسك الشجاعة وجرؤت على التعبير عن رأيك محرضاً عقول من حولك على البحث عن المسببات الحقيقية وراء مشكلاتنا وبالتالي محاولة إيجاد الحلول الناجعة لها فلابد أن تتهم في إيمانك المتزعزع ويقينك المهتز، وكأن الإيمان يتصارع مع العلم ويتعارض مع البحث عن أسباب مشاكلنا في ثنايا عالم الشهادة، وجرب فقط أن تناقش وتقول إن سبب مشكلة قريبك مع أخيه يرجع جذورها إلى خلل في العلاقات الاجتماعية أو أن زميلك طلق زوجته لأن المشكلة لها أبعاد ضاربة في جذور علاقتهما، أو أن سبب كثرة ضحايا الزلازل في الدول النامية هي عدم وجود الاستعدادات اللازمة عند حدوث هذه الحالات أو الآليات المحذرة من إمكانية حدوث كارثة طبيعية، لتكال لك التهم وتتقاذف عليك ذات اليمين وذات اليسار، فتبتلع كلماتك في جوفك مؤثراً السلامة ومتجنباً الصدام والجدل العقيم في أمور لن تحصد من ورائها إلا العداء الشخصي أو الاتهامات في دينك وعقيدتك وذلك رغم أن الإسلام شدد على أهمية التفكر والتدبر والنظر في سنن الله في الآفاق ومحاولة الاستفادة من التراكم المعرفي من الحضارات السابقة ومن ثنايا تعاليمه العظيمة تشكلت أساسيات المنهج العلمي التجريبي الذي أسلمنا رايته لغيرنا ورحنا نغط في نوم عميق تظللنا تهويمات الخرافات والدجل والسحر والشعوذة.
دارت في ذهني هذه الأفكار وأنا أقرأ خبراً في الصفحة الأخيرة من الشرق الأوسط العدد 9672 يقول إن هناك دراسة جديدة أعدها الباحث محمد عبدالعظيم بمركز البحوث الاجتماعية تفيد بأن المصريين ينفقون 10 مليارات جنيه سنوياً على الدجالين، وأن هناك 300 ألف دجال في مصر مؤكداً زيادة أعداد هؤلاء الدجالين مع زيادة الإيمان بالخرافات، وتقول الدراسة: إن المتعلمين وأصحاب المستويات الثقافية الرفيعة في مقدمة المترددين على هؤلاء الدجالين حتى أصبح المعدل دجالاً لكل 240 مواطناً، وتقول الدراسة أيضاً: إن هناك 275 خرافة تتحكم في عقول المصريين على رأسها مشكلة تأخير سن الزواج وعدم القدرة على الإنجاب والمشكلات الجنسية المعقدة إضافة إلى الأمراض المستعصية، كما تقول الدراسة أيضاً: إن 38% في المائة من مشاهير الفن والسياسة والرياضة والمثقفين هم من رواد السحرة والدجالين.
رحمة الله عليك يا زكي نجيب محمود فقد كنت تنفخ في قربة مخرومة، ولا تزال مشكلات العقل العربي التي حاولت تشخيصها قبل أكثر من نصف قرن من الزمان تراوح مكانها بل نستطيع القول إنها زادت استفحالاً واستشراساً في وقتنا الحالي ولم ينج منها أي مجتمع عربي بل تمتد لتظلل مجتمعاتنا العربية عن بكرة أبيها فطرائق التفكير واحدة وبالتالي المشكلات واحدة. تشكك مرة الكاتب محي الدين اللاذقاني في إحدى مقالاته بالشرق الأوسط في وجود العقل العربي بادئ ذي بدء والذي يكتب المفكرون المؤلفات في نقده ومحاولة تشخيص أمراضه، وأنا هنا أضم صوتي إلى صوته متسائلة هل هناك وجود للعقل العربي؟! أم أننا شيعناه ودفناه وأهلنا عليه التراب منذ أن استسلمنا للدعة والخمول وآثرنا الغرق في لجة التخلف؟؟!


amal_zahid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved