الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 27th June,2005 العدد : 112

الأثنين 20 ,جمادى الاولى 1426

قصة قصيرة
للفرح.. أشكال أخرى!
سليمان بن عيسى الطويهر
بحنق.. ألقت حقيبتها على الأريكة، وعلى أريكة مجاورةٍ غرست جسدَها المكدود. التهمت نفساً عميقاً قبل أن تلفظه زفيراً حاراً يكاد الشرر يتطاير منه، ثم انخرطت في بكاءٍ حار لم تستطع مقاومته أكثر. وكلمات الطبيب لازالت ترنُّ في أذنها:
ستستمر غيبوبته حتى وقت لا يعلمه إلا الله.
لا تدري كم ذَبُل من الساعات وهي على هذه الحال. لم تتنبه خلالها للهاتف الذي أرهقته استغاثاتُه، ولا لبابِ الشقةِ الذي دُقَّ ظهره مراراً. وحدَها اليدُ التي هبطت برفقٍ على كتفها، أفرعتها، فأتتها الطمأنينة حين سمعت صوتا مألوفاً، يرن التهدج في نبراته:
اصبري يا ابنتي.. اصبري فالله أمرنا بالصبر.. والفرج من عنده سبحانه.
وبعد شهرين، تغيّرت فيهما ملامُحها. أخبرها الدكتور هاتفياً بأن زوجها تحرَّرَ من أسر الغيبوبة، وبدأ يشعر بما حوله. ولم يسمع منها سوى صرخةَ فرح. وكلمةً بُتِر نصفها. فعرف فيما بعد بأنها أُصِيت بالخرس!
أخذت ترافق زوجها في المستشفى بعد أن أشرقت عيناه بالنور، وتسهر على خدمته طول الليالي. كان يحكي لها كثيراً ويبتسم، فيما لم تستطع هي أن تَرُدَّ له بعضاً من حكاياه. كانت لا تحادثه سوى بنظراتٍ والهة، يطل منها حزنٌ عميق. هي تحبه كثيراً ولا تتمنى له وخزة دبوس، فكيف بحادث سير كاد أن بقضي عليه؟.
استعلمت من الدكتور عن مدة بقائه في السرير. وبعد أن ألقى عليها محاضرة عن مدى التطوّر الطبي، وأخرى عن أهمية الصبر، أخبرها بتردد أن زوجها ربما سيعاني من شلل نصفي طول حياته.. كانت صفعة الخبر أقوى من احتمالها.. فخرّت مغشياً عليها.
مكثت على السرير الأبيض عدة أيام، وعروقها تَجْرعُ من المغذيات. خرجت بعدها وقد تعافت، حتى من خرسِها.. بدأت من تناولِ أدويةِ خفضِ ضغط الدم باستمرار.. لونُ بَشرِتها مال للإصفرار.. وملابسُها بدأت في الاتساع. التقطت عين أمها هذه التفاصيل، فنصحتها بالجري في الحياة، والعودة إلى العمل، كي تستأنس وتسْلى قليلاً، ولكن الخرس المؤقت كان قد اضطرها للاستقالة من عملها كمعلمة.
أخذت حالةُ زوجها في التَحَسُنِ تدريجياً، أصبح يتكلم ويضحك، ومعنوياتُه في ارتفاع مطرّد. كلما زارته ورأته هكذا، ساءت حالتُها أكثر، فقد أوحى لها قَلقُها أنه يحاول إخفاءَ يأسه بقناعِ الضحك، كي لا يرهقها أكثر. وفي كل يومٍ يمر، كانت تزيد من جرعة دوائها قليلاً.
بعد أشهر قليلة، قرر زوجُها إجراءَ العمليةِ الثالثةِ لانتشاله من شلله، بعد فشل الأولين، كان متفائلاً جداً بينما هي توخزها مسامير اليأس الحادة، فهذه العملية ستتم داخل البلد. بينما السابقتان أجرِيَتَا تحت أيدي أطباء مهرة، هزَّت سمعتُهم أصقاعَ العالم. وقبل العملية، طلب منها زوجها أن تسافر إلى أي مكان تشاءُه، لترتاح وتهدأ، وبعد لأيٍ وفاقت.. وسافرت لأخيها في القرية.. ظلَّت هناك تتقلب على جمر الانتظار أياماً.. حتى هاتفها زوجها بعد انتهاء العملية، وسألها عن وقت عودتها:
بعد يومين.. المهم.. بشرني عن صحتك؟
الحمد لله.. انتهت العملية.. وأنا الآن في مرحلة النقاهة.
وهل..
اختنقت الكلمة في حلقها، فقاطعها.
أنا الآن بخيرٍ وعافية.. أهمُ شيء أن تنتبهي لنفسك..
بعدها عادت إلى شقتها. ووقفت أمام الباب مُسندة يدَها إلى الجدار، ظلت يدُها تدور طويلاً بالمفتاح، وهي تبحث عن ثقب الباب. وحين دخولها عانقتها رائحة عطر نفاذة، ذكرتها بأيام قد خلت. تجاهلت الأمرَ وهي تضيء الأنوار مطالبة أخيها بالإسراع بجلب الشنُط.. وفجأة.. وَجدتْهُ أمامها.. وجدت زوجها واقفاً، وقد تأبط عكازيه ومدَّ ذراعيه بترحابٍ وفرحٍ. اتسعت حدقتاها، وامتزج حاجباها بشعر رأسها. وبدل أن تتقدم إليه وتعانقه.. شعرت برأسها يدور في دوامة لا نهاية لها..
وسقطت في غيبوبة طويلة..


Sulaiman _ t@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved