Culture Magazine Monday  27/08/2007 G Issue 213
فضاءات
الأثنين 14 ,شعبان 1428   العدد  213
 

الاستيراد النقدي وافتقاد النمط الافتراضي
دراسة في بواكير النقد الأدبي السعودي «4»

 

 

يبطن العواد رده بإشارة واضحة إلى تأثر المؤثر ونقل الناقل، وهو يصارح الكاتب المصري بحقيقة أن النقد في مصر ليس مبتكِراً للمذاهب الحديثة، إنما هو متابع يشتق آلياته المفهومية والاصطلاحية من المناهج الغربية، وعليه فلا يستقيم معنى التأثر بالمصريين عند السعوديين ما داموا جميعاً يسترفدون من منابع مشتركة إما عربية تقليدية أو غربية تجديدية.

تنبئ هذه الأقاويل عن انتهاء مرحلة الانبهار والتقليد في علاقة الأدب السعودي والأدب المصري، فنبرة الخطاب فيهما تسوده الندّية والتكافؤ لا السيادة والتبعية. لكن أدباء الحجاز لم يكونوا قد أتقنوا لغة أوروبية تمكنهم من الاتصال المباشر بالثقافات الحديثة، فلم يكن لهم متنفس إلا عن طريق الأدب المصري على الأخص والعربي عامة، فتمثلوا وتصورا معطيات الثقافات الأجنبية عن (طريق مصادر وسيطة فاتصلوا بالعقاد وطه حسين والمازني وهيكل وميخائيل نعيمة وجبران وأبي ماضي، فضلاً عن مطالعات نهمة واعية لمترجمات نقلت إلى العربية عن الإغريقية واللاتينية ولغات أوروبية حديثة). لكن انبهارهم بالمصادر الوسيطة انتقل في هذه المرحلة إلى الغرب مباشرة حتى شاع تطعيم الإنتاج الفكري المحلي بالأجنبي في شكل مجاراة ومحاكاة ومعارضة واقتباس وتضمين؛ الأمر الذي جعل محمد حسين زيدان يلوم بعض الكُتاب على (استعمال بعض ألفاظ فرنسية أو إنجليزية لا تدعو إليها الحاجة وإنما يستعملها بعض المتحذلقين يوهمون الناس أنهم يعرفون هذه اللغات). ثم نرى العواد يتغنى بالغرب في خواطره بشكل أثار حفيظة عبدالوهاب آشي الذي لامه في المقدمة على (ولوعه بالغرب بذكر عجائبه وتمجيده ودعائنا إلى مضاهاته). وبدلاً من أن يستهل العواد كتابه باستشهاد من المصريين، يبدأ بقول نيتشه: (لنعش للقوة والجمال.. ولنرتفع فوق أنفسنا على أجنحة الشعر..)، ثم يصرح بحاجتنا إلى اللغة الأجنبية (التي أصبحت اليوم لغة الإنسان المتحضر، تلك اللغة الغنية بموادها الفياضة بمعانيها وألفاظها.. اللغة الحية النامية التي هي الوسيلة الأولى إلى راحة الإنسان ورفاهيته وتمدنه). وقد حملت أقوال عبدالله عبدالجبار في هذا الصدد دعوة مماثلة لكهول الأدب وشبانهم بأن يتعلموا بعض اللغات الأجنبية حتى يتاح لهم الاتصال المباشر بالثقافة الغربية والأدب الغربي: (وما دام أدباؤنا قد أعجبوا بفحول الكُتاب والشعراء في المهجر والشرق العربي وجروا على سُنتهم في إنتاجهم الأدبي، فعليهم إذا ما راموا النهوض، والذيوع، والتفوق، والخلود أن يلتمسوا تلك العناصر. ولا يتأتى لهم ذلك إلا إذا اتصلوا اتصالاً وثيقاً بتلك المنابع الأصلية التي استقى منها أولئك الأدباء أدبهم...).

يختار الرواد إنهاء الوصاية المصرية على أدبهم وينزعون إلى إلغاء الوسيط والتخلص من سلطوية الخطاب المجاور والاتصال المباشر بمعين الثقافة الغربية والأدب الأجنبي علّهم يجدون التجاوب المرام من الأقطار العربية، تجاوباً يجعلها تقدر أدبهم حق قدره، ولا يقلل من أهمية الإنجاز. وفي هذا الإطار قام العطار بترجمة مسرحية (المفتش) لجوجول، ومترجمات من لغات أوروبية دون علم له باللغة الإنجليزية، لكنه (كان يعهد بهذه الأعمال إلى بعض أصدقائه من العارفين بالإنجليزية فيقدمون له النص منقولاً نقلاً حرفياً، ثم يقوم هو بإعادة صياغته بأسلوب عربي رصين)، كما أظهر عزيز ضياء عشقه للثقافة العالمية والرغبة الشديدة في التواصل معها عن طريق ترجمة النصوص بعد دراستها وتمحيصها.

ورغم تمسك شباب البلاد بفكرة استقلالهم إقليمياً إلا أنهم لم يغلقوا باب الاستيراد، وظل الاعتماد على الترجمات المصرية قائماً وتسربت من خلالها مفاهيم الرومانسية الغربية إلى أجواء الشعر والنقد السعودي إلى جانب أدباء المهجر وجماعة أبولو، وقد اعترف بعض من أسهموا بالكتابة في أدب الحجاز صراحة بتأثرهم بها، كما قال محمد عمر عرب عن قصيدته (يا شرق) بأنه نظمها مجاراة لميخائيل نعيمة في قصيدته (يا نهر)، وكما اعترف أحمد السباعي، الذي كان من أوائل (المتمهجرين) صراحة بتأثره الكبير بكتابات جبران خليل جبران، (وقد كفانا الفلالي مهمة البحث وتعب الفرض والتخمين، فقد أشار هو بقلمه إلى إعجابه بالموسيقى الرقيقة في شعر علي محمود طه)، وكان محمد حسن فقي شديد التأثر بشعراء المهجر وعلى وجه الخصوص إيليا أبو ماضي في تساؤلاته عن سر الوجود.

ماذا بعد استيراد الرومانسية الغربية التي كانت قد اصطدمت بأرض الواقع الأوروبي وتحطمت أحلامها المثالية في ظل الديكتاتورية النابليونية منذ منتصف القرن التاسع عشر؟ ولماذا راقت للكُتاب العرب هذه الموجة الأدبية دون غيرها من موجات الأدب الأوروبي السابقة لها مثل الكلاسيكية والنيوكلاسيكية والمياتفيزيقية والواقعية، أو اللاحقة لها من مدارس النقد في مطلع القرن العشرين من شكلانية وبنيوية؟ هل نمت وترعرعت في تربة غريبة وأثمرت نقداً عربياً حديثاً أشاع الرضا في نفوس النقاد العرب والسعوديين؟

في سياق ثقافي غريب أخذت الأجواء الرومانسية تشكل طابعاً مميزاً للكتابات السعودية، ولم يكن النقد الأدبي بمنأى عن حركة التحديث هذه، فقد ظهرت على العواد مثلاً نفس الأعراض العقّادية والمهجرية في الدعوة إلى التمرد على الخطاب التقليدي السائد وعلى المسلمات الاجتماعية والفكرية: (كل هذه الأفكار الميتة التي دفنت مع عصور أبي نواس والبحتري وعنترة.. لا تصلح لنا. أما إذا لم نستطع أن نأتي بفكر جديد.. فأحرى بنا أن نحطم أقلامنا ونسكت.. كفى يا أدباء الحجاز! ألا نزال مقلدين حجريين إلى الممات؟). هذه الاندفاعة العاصفة تحمل أصداء جسارة التجديد النقدي كما نادى به العقاد في كتاب الديوان الذي كان بمثابة (معول الهدم الذي يسبق البناء)، وكما عبرت عنه حملة جبران على قوانين الشعر التي رأى أنها: (سجن للقريحة.. حتى لو كان في ذلك بعض اللذة الموسيقية، فمن الحيف والجهل أن نضحي من أجلها بحرية الإبداع في الشاعر وأن نطلب منه أن يشوه الفكر الذي يود نقله والصورة التي يرغب في نقشها لأجل تلك اللذة التي لا أقدر أن أدعوها مع كل اعتباري للموسيقى سوى بلاهة موسيقية). وصاحب هذا الهجوم النقدي على كل قديم تحطيم قاسٍ للرموز الساطعة في سماء الأدب العربي، فعاب نقاد حركة التجديد على شوقي وحافظ إبراهيم والمنفلوطي وغيرهم من أصحاب الاتجاه الإحيائي اقتفاءهم أثر الشعراء القدامى وسطوهم على قوالب لا تناسب عصرهم. كذلك فقد حث العواد مجايليه من (المتشاعرين) على ترك الصديد الفكري وتوظيف الأدب في شؤون الحياة بأساليب عصرية مشرقة قائلاً: (ما الشعر إلا روح متمردة شيطانية عاتية تأبى أن تسكن هذه الخرائب البالية المتحطمة.. ليس الشعر ألفاظاً ومعني فقط، وإنما الشعر أمر آخر وراء الألفاظ والمعاني، فوق الأفكار والتعابير..).

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة