Culture Magazine Monday  27/08/2007 G Issue 213
فضاءات
الأثنين 14 ,شعبان 1428   العدد  213
 

سبعون عاماً من الإبداع الشعري!

 

 

في (السبعين) يبلغ فكر الأديب قمة عطائه، وتتصاعد مؤلفاته حوله كهرم عال يطالعه في رضا واطمئنان، وقد رأينا كثيراً من الأدباء يرصدون حياتهم في السبعين، على أنها الحد الأقصى للإنتاج الدسم الجاد، وقد كتب الأديب الكبير ميخائيل نعيمة سيرته تحت عنوان: (في السبعين)، كما صدرت كتب خاصة بهذه المناسبة، فقد جمع الأستاذ محمد خليقة التونسي كتاباً عن العقاد بمناسبة السبعين، حيث كتب تلاميذ العقاد فصولاً جيدة عن الكاتب الكبير، كما جمع الدكتور عبد الرحمن بدوي كتاباً عن طه حسين بمناسبة السبعين، كان مثالاً طيباً لتعدد الآراء وتشريح المعاني الخاصة بعطاء الدكتور المجيد طه.. لذلك سعدت سعادة تامة حين وصلني كتاب: (سبعون عاماً من الإبداع الشعري)، خاصاً بالأديب الكبير فاروق شوشة، وكم كنت أفضل أن يكون العنوان: (سبعون عاماً من الإبداع الأدبي)، لأن فاروق الشاعر الكبير، كاتب كبير، وراوية كبير ومناقش في الندوات الأدبية على مدى خمسين عاماً من عمره الثمين.. ولا أنكر أن بعض المقالات تحدثت عن إبداعه النثري ومكانه الفكري، ولكن الحديث عن الشاعر قد التهم الحديث المستوعب عن الناقد والكاتب، إذ تضاءل ما قيل عن هذين الاتجاهين في نتاج فاروق شوشة.. ولعل الأستاذ الفاضل الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف، حين احتفل بجمع هذه الآثار الطيبة ينوي أن يقدم عملاً آخر، وهو مشكور جداً على ما قام به من احتفاء كريم بفاروق شوشة، وهو احتفال لم توح به الصداقة وحدها، بل يوحي به التقدير لنابغة من نوابغ العصر، وهذه الفصول الممتازة التي زخر بها هذا الكتاب، تقدم وجهات مختلفة من الإنتاج الشعري لفاروق، وهي بذلك أقرب إلى نفوس القراء من كتاب يؤلفه كاتب واحد، لأن الكاتب الواحد يقدم رأيه في فصول متتابعة.. وقد حدد هذا الرأي تحديداً قبل أن يسطر حرفاً واحداً من الكتاب.. أما اختلاف المشارب عند باقة نظرة من أفاضل الكتاب، فهو مما يدفع القارئ إلى الارتياض في حديقة مختلفة الثمار والأفانين.. وقد لاحظ الدكتور حماسة أن شعر فاروق يجمع الاتجاهات المختلفة في الشعر المعاصر، ففيه كما يقول الأستاذ في (ص 10) القصيدة الحرة أو قصيدة التفعيلة ذات الأبيات القصيرة، وفيه القصيدة التي تجمع بين شكل قصيدة التفعيلة وقصيدة البيت، وفيه القصيدة الحرة التي تراوح بين بحرين، وفيه القصيدة الحرة ذات البيت الطويل، وفيه القصيدة التي يخفت فيها صوت القافية، وفيه وفيه مما ذكر الباحث.. وقد قال بعد ذلك في (ص 12) وكنت أتمنى أن يعكف ناقد بصير لديه قدرة على التأويل وفهم التشكيل وتمكن من ربط المعطى الشعري بالمعطى التعبيري، لتتبع هذه الخاصة الشعرية عند فاروق شوشة.. وهذه مسألة دقيقة تحتاج لباحث يتذوق كل الاتجاهات دون أن يتعصب لاتجاه يسيطر عليه لا شعورياً فيجعله موضع ترجيحه وتفضيله.

وقد قال الأستاذ الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، في (ص 22) إن فاروق شوشة أكثر تحفظاً، فالرجل الذي نعرفه بهذا الاسم يختلف إلى حد ما عن الشاعر الذي نقرأ، فالرجل محتاط متوازن عاقل منضبط، والشاعر صريح منفعل طروب مندفع.. وربما كانت هذه المسافة التي نجدها عند كل شاعر بين نشاطه كفنان ونشاطه كإنسان، هي التي أطلقت خطى فاروق رجل الإعلام، وأمسكت خطى رجل الشعر بعض الوقت، فلم يبدأ مسيرته إلا في الستينيات، وكان مؤهلاً، لأنه بدأها قبل ذلك.

والحق أن فاروق الشاعر يمثل الشاعر المجدد والمتزن، وخُلُقُه العام لا يختلف برهة واحدة عن انطباعه السلوكي في الحياة.. لذلك كان الأستاذ أحمد عبد المعطي حجازي صادقاً حين قال في (ص 23) فاروق قد لا يدهشنا في كل قصيدة، لأنه لا يمعن في البعد، ويحرص على أن يظل قريباً مأنوساً.. والذي يحرص في كل قصيدة على أن يظل قريباً مأنوساً، هو نفسه الرجل العاقل المتزن في الحياة، فلا فارق نجده بين شعره وشخصيته على الإطلاق.. وبهذا الاتزان العاقل، كان فاروق شوشة أثيرا لدى المجددين والمحافظين معاً.. وفي المختارات الليلية التي يذيعها تحت عنوان: (لغتنا الجميلة) نجد هذا الاتزان، فهو لا يختار من الشعر الجديد غير الشعر المأنوس، الذي لا يوغل في الإيهام والغموض، ولا يختار من شعر التراث إلا ما كان صادق العاطفة، قوي النبض، بحيث أصبحت مختاراته الشعرية أثيرة لدى السامعين حين تذاع، وأثيرة لدى القراء حين جمعت في أجزاء.

إن هذا الاتزان في الاختيار والإبداع، هو الذي جعل فاروق يفتح قلوب السامعين لما يقول، بل إن اهتمامه بالتراث كان العامل الأول في انجذاب الناس لما يقول، وقد عبر عن ذلك الأستاذ أحمد كشك، حين قال في (ص 33) إن الرائي المتعمق للأستاذ فاروق شوشة، يدرك أنه أمام دور واضح في تاريخ ثقافتنا المعاصرة، وأمام بنية متماسكة محكمة، امتزج فيها حق الصواب بحق الجمال والإبداع، فالعربية لديه نقاء وجمال وجلال، فقد أمتع سمعنا وأفئدتنا بموسيقاه العربية صوتا وإنشاداً، فتسربت لغتنا في الآذان والأعماق، جليلة جذابة قوية، وما زال الإمتاع مستمراً، لم ينفك لحظة من لحظاته في برامجه وأحاديثه وحواره العادي ومناقشاته، تدرك من خلال ذلك كله، أن جهازاً نطقياً عربياً منحه الله إياه، كي يحمي به هذه اللغة العبقرية الضاربة في الزمان والمكان.

وقد أصاب الدكتور كشك فيما قال، لأن التواصل الحميم بين القديم والحديث لدى فاروق شوشة هو الذي جذب القراء إليه.. ولو فرضنا أن برنامجاً في بعض الإذاعات قد ناقش برنامج (لغتنا الجميلة) ولم يخص التراث بما خصه به فاروق شوشة، لانصرف عنه السامعون، بل إن السامع المطلع قد يسمع قصيدة من التراث يقدمها فاروق، فيجد في إلقائه هزة وشوقاً كمن يسمعها لأول مرة، مع أنه قرأ أبياتها من قبل، وحفظ أكثر من أبياتها، ذلك أن لصوت فاروق هزة عاطفية، تجعل القديم جديداً، والبعيد قريباً..

ويطول بي القول، لو تتبعت كل ما قاله الأدباء في كتاب (السبعين) فهو جهد مشكور ممتاز، ولكني لاحظت أن بعض الأفاضل من الكتاب، يفترض افتراضاً خاصاً بشعر التفعيلة، ويحاول أن يطبقه على شعر فاروق، فهو يُعنى بتدعيم هذا الافتراض أكثر مما يعنى بسلامة التطبيق، وكان الأجدر أن يكون شعر فاروق هو الهدف الأول، إلا أن قضايا الشعر الحر هي المراد والمنشود من البحث الخاص بشاعر كبير مثل فاروق شوشة.

ومن أحسن ما قيل في (السبعين)، بحث الأستاذ أبي همام عبد اللطيف عبد الحليم، وهو معروف بعزوفه عن شعر التفعيلة، وله حملات هادفة على الشعر الحر، وقد اهتدى إلى حقائق كثيرة، أولها أن فاروق شوشة ورفاقه، مثل أبو سنة وأنس داود يمثلون المرحلة الأولى من الجيل، وأن اقتصار هذه المرحلة على صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، يحمل ظلماً كثيراً لهؤلاء، لأنهم نشأوا شعرياً في وقت متقارب، وقد يكونون قد تأخروا قليلاً في نشر دواوينهم، ولكنهم أذاعوا في الصحف إذ ذاك ما يجعلهم زملاء لصلاح عبد الصبور وحجازي! ثم العجب كل العجب ممن يُقسّمون الشعراء بحسب سنوات القرن الماضي، فيقولون - جيل الخمسينيات - وجيل - الستينيات -، ويجعلون الرواد من الجيل السابق، مع أن تاريخ الأدب العربي ينكر ذلك الاتجاه، فالعصر الجاهلي قد امتد إلى أكثر من مائة وخمسين عاماً، ولم يقل أحد إن جيل المهلهل قد سبق جيل عنترة وطرفة، بل الكل سواء.. وكذلك يقال في العصر الإسلامي الذي أعقب العصر الجاهلي وامتد إلى سقوط الدولة الأموية، فجاوز مائة وثلاثين عاماً كلهم أبناء هذا العصر، ولم يقل أحد إن كعب بن زهير والحطيئة وقطري يسبقون الكميت وعمر بن أبي ربيعة، وقد يكون لكل شعر لونه الخاص لدى الشاعر، ولكن تحديد الزمن عندنا بعشر سنوات فقط، حين نقول عن بعضهم - شاعر الستين - فهو سابق وشاعر السبعين لاحق، فيه هضم صريح لزملاء تواكبوا في زمن واحد، وقد لا تجد حائلاً فنياً يفصل بين شعراء عقدين متوالين، وهذا ما فهمته وأضفت إليه من كلام أبي همام، وهو جدير بالمراجعة والنظر الطويل لدى من يحددون الشعر والشعراء سبقاً بمرور عشرة أعوام، وتخلفاً بمرور عشرة أعوام.. ومما انفرد به أبو همام قوله: إن ملامح الأسرة الفكرية الواحدة بين محمود إسماعيل وأحمد مخيمر وفاروق شوشة تبدو واضحة أكثر من وضوحها بين ملامح أصحاب الشعر الحر، حتى رغم خروجه إلى الشعر الجديد، ثم يقول الأستاذ عبد اللطيف: لو أن الأستاذ فاروق شوشة أخلص الإخلاص كله للشكل الموزون المقفى لكان حجة على أصحاب الشعر الحر في تطويعه الشكل الخليلي للأغراض المعاصرة.. ولعلي أقول إني قرأت ما كتبه فاروق من النمط الحر، وما كتبه فاروق من النمط الكلاسيكي، فكانت روح فاروق أكثر إشراقاً وأعمق تأثيراً في الشعر العمودي.. وقد استشهد أبو همام بقصيدة ممتازة قالها فاروق في هذا الاتجاه، من بين أبياتها:

سكن العبير وأطرق الصمت

والروض لا ظل ولا صوت

وعلى الثرى آثار أغنية

عبرت، وغال صداحها الموت

وهي قصيدة ممتازة تفوق كل ما قاله في شعر التفعيلة..

وقد تساءلت: أين مقالات فاروق النثرية، وإبداعه النثري الذي ملأ ساحات كبيرة من إنتاجه؟ لقد أغفل الكاتبون حديث النثر الذي ملأ ساحات كبيرة من إنتاجه؟ لقد أغفل الكاتبون حديث النثر وكأنه لا شيء. فلم أجد غير باحث واحد خص الناثر هو الأستاذ بهاء جاهين، مع أن عنوان بحثه قد جاء متجهاً للشعر كقوله: (رحلة سندبادية في بحور الشعر.. مع فاروق شوشة).. ولكنه تحدث عن مقالاته الأدبية التي نشرت أسبوعياً في الأهرام، فقال في (ص 49): (ويظهر فاروق شوشة من خلال هذه المقالات عالماً بالشعر العربي قديمه وحديثه، بل في المغرب أيضاً بدوله الثلاث، وعلى دراية بأهم رموزه، ومدركاً لإمكانياته التعبيرية، خصوصاً لدى كبار شعرائه، ممن يتميزون بثقافة غنية من تراث الفصحى، دون أن يجعله التحزب أو التعصب يتحيز للنوع الأدبي الذي يمارسه، وهو الشعر الفصيح، فإذا تأملت هذه المقالات التي تغطي مناطق تعبيرية، وتيارات مذهبية متنوعة للشعر العربي الحديث، وجدت فاروق شوشة ناقداً معتدلاً ومقارناً، لا يتسرع لرفض شاعر لأنه يكتب الشعر العمودي بدعوى أنه مقلّد، أو آخر لأنه يكتب قصيدة النثر، رغم إيمانه الشخصي بجوهرية الإيقاع في فن الشعر، بل يزن الأمور بميزان العقل والذوق السليم.. (وهذا الكلام الجيد كان يجب أن يمتد إلى مدى التمثيل الوافي، الذي يقدم للقارئ ما يقنعه، دون الاكتفاء بسطور عابرة عن الشاعر البردوني، كما عليه أن يمتد بالقول عن فاروق الذي هو في مزاجه كقارئ ميال للشعراء الكلاسيكيين والعموديين)... لقد كان الموقف يحتاج إلى تفصيل لا إلى تعميم.. وقد استوقفني ما نقله الكاتب من قول فاروق: (وإن كنت أرى أن مجرد المقارنة بين الشاعرين شوقي وحافظ تجيء ظالمة لشوقي)، وهذا حق لا شك فيه وقد اتضح بعد فراق الذين كانوا يتعصبون لحافظ، مثل العقاد وطه حسين.. لقد حسن الأستاذ بهاء بحديثه المنفرد عن مقالات فاروق، ولكنه اكتفى بإشارات عابرة، كان عليه أن يمتد بها إلى بحث منهجي! ولعلي بذلك أدعو بعض النقاد إلى الاهتمام بفاروق الباحث والناثر، ليظهر في وضعه الممتد، وهو جدير بهذا الاهتمام.. ولا أذهب بعيداً إذا قلت إن أكثر ما في هذا الكتاب ليس دراسات لشعر فاروق شوشة وأدبه، ولكنه ضرب من التحايا والتهنئات، جدير بها الأستاذ فاروق لأنه من الأكفاء، ولو صحب الثناء العاطر الحقيق به الأخ الأعز، لو صحبته دراسات لذلك الثراء من شعر ونثر متميزين، لوجد الدارس والقارئ قيمة كبيرة لما كتب.. وإني أهنئ القراء بهذا الكتاب الجيد، وكان يمكن أن يكون فريداً، لو أنه جنح واهتم بشعر ونثر أديبنا الكبير دراسة ونقداً، لتكون القيمة أكبر وأدعى بمن دعوا إلى الحديث عن أديب متميز خلقاً وأدباً وعفة لسان، وهو جدير أن ينال نتاجه الدرس المتقن من رموز النقد والبحث في مصر وفي الوطن العربي.. وأهنئ الأستاذ فاروق شوشة.. وأرجو أن تتاح لي الفرصة، فأدلي في بحث آخر بما أكن للأخ العزيز فاروق شوشة من حب وتقدير.

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة