Culture Magazine Monday  27/08/2007 G Issue 213
حوار
الأثنين 14 ,شعبان 1428   العدد  213
 

ماذا سيقدم للقارئ الغربي عن السعوديين؟
المزيني: (عرق بلدي) لم تفْتَعل قضية
حوار - محمد عبدالله الهويمل

 

 

صدر عن (الانتشار العربي) الرواية الثانية للكاتب محمد المزيني تحت اسم (عرق بلدي) وطّأت لها كلاديش مطر بمقدمة تناولت الأبعاد الثقافية للرواية.

(الثقافية) فتحت حواراً مع الكاتب وناقشته بشأن هذه التوطئة والبعد غير الفني، كما اختلفنا معه في تقسيمه للشخوص إلى بوهيمية ومتطرفة وموقع الرواية في طابور الكتابات الإصلاحية، كما عرضنا للبانورامية الوصفية المذهلة التي أبدعها الكاتب دون أن نغفل القلق السعودي من ترجمة رواية (عرق بلدي)، وما قد ينطوي عليه من تلقٍ سلبي يعزز من النظرة المسبقة التي ابدعتها الآلة الإعلامية الغربية.

* كلاديس مطر قدمتْ للرواية وتماستْ مع الجانب الإصلاحي النضالي للرواية والروائي دون أن تعرض للفني.. لماذا كلاديس مطر بالذات؟ وما سبب إعراضها عن الفني إلى الثوري؟

- لم أكن أزمع وضع مقدمة للنص، أحب دائماً أن يخرج النص طبيعياً ويتلقاه القارئ كذلك، وما كتبت كلاديس يبقى رأيها، لذلك فالسؤال يوجه إليها وليس لي. ولم تكن كلاديس مقصودة بعينها لكتابة مقدمة الرواية، فالمبادرة منها بعثتها مكتوبة على ورق. ربما كنت مسؤولاً عن مجاملة صغيرة حملت النص ثلاث صفحات مقالية لا تدخل في حيز الرواية. وقد يراها البعض أنها لا تجسد روح النص الذي لا يمكن أن يحمل ما عداه، لذلك أنصح دائماً بعض الأصدقاء ممن أهديهم الكتاب تجاوز مقدمة كلاديس في البداية، والعودة إليها إن شاؤوا في النهاية.

* نقدك لظاهرة التطرف الديني يدفع بك إلى آخر طابور الكتَّاب الإصلاحيين لا سيما أنها صدرت بعد بورصة التطرف وبورصة مكافحته، هل ترى ل(عرق بلدي) موقعاً طليعياً أم أنها رقم صغير ينضم للرقم الكبير؟

- يا سيدي، أنا لست كاتباً إصلاحياً ولا أبحث عن هذا الدور. فالإصلاحيون في مجتمعنا -ولله الحمد- كثر، وهم معنيون مباشرة بوعظ وإرشاد المجتمع، ولديهم قنواتهم الكثيرة، ولو كنت واحداً منهم لأصبحت نجماً منذ وقت مبكر. وأربأ بنفسي عن الطوابير التي تتحدث عنها لأنها مهنة المتكسبين الباحثين عن لقمة العيش بكل الطرق. كما أني لا أبحث عن موقع طليعي أو غير طليعي. (عرق بلدي) ببساطة شديدة ومتناهية جدلت من هموم الناس البسطاء أو المهمشين حكاياتها؛ أولئك الذين تسوقهم الحاجة إلى مراتع لم يبحثوا عنها؛ بل انساقوا إليها عنوة بدافع حجر عليهم الأفق، وضيق خناقهم ليسقطوا فرائس للضياع والمعاناة. كما لا يجب أن ننظر إلى الرواية من ثقب المسؤولية الإصلاحية، فهي لا تحمل همة هذه الرسالة المقررة سلفاً، بل بالمعنى المدرك لاحقاً، وإلا لأصبح الكاتب الروائي مطارداً بحزمة من التبعات التي لا تنتهي، بيد أنه -أقصد الروائي- معني بالمشهد والصورة المشغولة بالحركة والشخوص، يقولبها في أداة خاصة هي اللغة. إذاً الروائي يصطاد المغيب من حياة الناس أو المهمل، أو يربط أواصر علائق المجتمع ويزاوج بينها على خلفية صراع يدخل في حيز الحبكة، لتكتمل الصورة في بناء كامل هو الرواية. ربما يرى فيها المصلحون، أو علماء الاجتماع، أو النقاد لفتة ما تستحق التوقف عندها ودراستها. ثم إن الروائي ليس لاقطاً خبرياً يعيد صياغة الأحداث اليومية، بل هو مستلهم لها كونها متلبثة في حياتهم لا تبرحها، تعلم بخطوطها مهما تقادم الزمن بهم، نحاول نحن سبر غور هذه الخطوط الضاربة في عمق حياتهم بما لا يصل إلى النقد المباشر. فأن أقدم لك صورة دقيقة عن حياتك فهذا لا يعني أني أنتقدك. أما الحيز الذي تريد أن تضعني داخله والأرقام التي تحاصرني بها فلا أفكر بها ولا تعنيني، ربما تعني آخرين يتمزقون للوصول إلى الأرقام الكبيرة.

* تطرح مجتمعاً منقسماً للبوهيمية والتطرف الديني.. ولم تعرض أو تشخص لنموذج معتدل تبشر به إلا على نحو ضيق غير مجز... كيف تتعاطى مع هذا الافتراض؟

- أنا أبحث معك في خضم الأحداث والتحولات التي تعصف بمجتمعنا السعودي عن نموذج معتدل، ربما لأننا لم نتفق بعد على حدود وأبعاد هذا الاعتدال. هل نستطيع توصيفه جيداً؟ ثم حتى إن وجد أنموذج نظري للاعتدال هل هو مطبق فعلاً، لذلك أنا لا أستطيع تزوير الحقائق لأني أتعامل مع أحداث وشخصيات حية تحمل همومها ومعاناتها ممن لم تمسهم يد الاعتدال التي تزعمها بلمسة قيمية تنتشلهم من براثن الفقر والفاقة. صدقني يا صاح، هؤلاء الناس لا أحد يصفق لهم أو يبثهم عبارات العزاء، في قت تعلو الحناجر بالتصفير والأيدي بالتصفيق في ساحات أخر لا تمت إليهم بصلة. (عرق بلدي) أحد ملفات المجتمع المغيبة والمهملة، لذلك توضع الرواية في الحيز نفسه عند التعاطي معها. لأنها تتعامل مع واقع موجود لا واقع افتراضي. فالمبادئ والقيم والأخلاق افتراضية والاعتدال بينها يكاد يكون مستحيلاً وتشييؤها على ظهر واقع محدودب أكثر استحالة لأننا نتحدث عن الاعتدال فيما نملك وفق تصورات خاصة لا تنطبق على الآخرين. وإلا كيف سيكون الاعتدال عند من لا يملك، ماذا نسميه، اعتدال في الصبر أم اعتدال في الاحتساب أو اعتدال....؟!

* فعلت الفن وافتعلت القضية وعمدت إلى لغة مجازية وبارعة وهائلة وبانورامية... وفق ما سبق هل لعبت لغتك أكثر من دورها؟

- سؤالك السابق يتناقض مع هذا السؤال، الرواية لم تفتعل قضية بل قدمت لمجتمع ينزوي بعيداً عن الأنظار تحت حجب كثيرة، أهمها صوته المفقود ولسان حاله الذي لا يحسن سوى الصمت، وإن تحدث جاء البارود والنار متلبسين بلغته، تدري لماذا؟ لأنه نسي لغته، تحجر لسانه، بات عاجزاً عن التعبير إلا بلغة عنيفة، كما أن قاع معاناته بلا حدود، لذلك اللغة لا تجزي وهنا مكمن الخطر، فمن قاد (أم صنات) في الرواية إلى اختراق حياة الناس؟ ولماذا أحبوها؟ ثم لماذا صفيت جسدياً؟ من المسؤول عن هذه التشظية؟ الصديق الأستاذ الناقد عبدالله الملحم يسألني باستغراب (هل أنموذج أم صنات موجود فعلاً؟) وأقول: نعم أم صنات شخصية متكررة بأسماء مختلفة وأماكن متعددة من بلدنا، لذلك لا يمكن إسباغ النظر الطهرية على المجتمع، لأننا بذلك ننزع عنه غطاء الحقيقة ونلبسه حلة تبسيطية وتهميشية، تبخر قضاياه بما لا يستعد على رصد إحداثياته، والتفاعل معها بغية التخفيف من حدتها. أما بخصوص اللغة فلا أحد يدعي تمكنه من تقديم نصه بلغة المجتمع الطبيعية وإلا تحدثت الرواية بلهجات متنوعة، وعبارات غير مفهومة. ثم أني من خلال هذا النص وضعت هذا المجتمع في مرتبة شرفية عالية من اللغة ليأتي تعبيرها عن واقعها متسامقاً مع معاناتها، فمثلاً عندما تتحدث أم عزوز بكلمات موجزة عن أشياء كثيرة تنهض بها اللغة، لتكون مجلية لما كانت تتوخى البوح به، لذلك جاءت اللغة لتمارس دورها الطبيعي في التغلغل في وجدانيات الشخوص، والحفر في أغوارها، مفشية ما يلوغ في أرواحهم ويدنفهم. وهذا دور الكاتب الذي يحترم شخصوه ويقدرهم والمعاناة التي كتب من أجلها. ثم كتاب حاولوا تقريب لغة شخوصهم من لغتهم فجاءت مبتذلة ركيكة، فهو لم يكتب بلغة عامية يلتمس له العذر في ذلك، كما لا يرفع لغة شخوصه إلى مستوى النص؛ بل نزل بلغته إلى ما دون الحاجة للتعبير عنهم، فنتج عنها حوار لا يصل إلى قناعة القارئ.

* لم تلجأ إلى الحوارات ذات الطابع العامي والتي قد تحقق نجاحاً يكسر وقار السياق.. لماذا كسر المزيني كل شيء إلا اللغة؟

- لأني احترم هذه اللغة التي جاءت ابتداء محمولة على بساط البلاغة.. ولو أطلقنا للغة العامية عقالها فلن تتوقف عند حدود، وستطول الأحاديث بما يشبه الهذيان، وهي معبرة متى ضبطت في أوزان وبحور كالشعر الشعبي مثلاً، لذلك استخدمته في النص بهدف تأكيد رسم الصورة في الذهن. انظر لأم عزوز كيف تكاد تفقد عقلها وهي ترقص على أغنيات خالد عبدالرحمن لما تتضمنه كلماتها من لوعة وحسرة. واختلف معك في أن الحوارات ذات الطابع العامي قد تحقق نجاحاً يكسر وقار السياق، فكثير من الحوارات العامية أذهبت المتعة المتوخاة من النص، وفوتت على القارئ الاستمرار في قراءته، وأذهب قيمة النص. ولا أعتقد أن الروائي متى ما استخدم اللغة العامية سيحمل القارئ عبء الشروحات عن كل كلمة أو عبارة عامية واردة في النص، لأن الرواية تحمل في ذاتها قيمة فنية يجب أن تحقق المتعة للناس قارئي العربية في كل أصقاع العالم.

* تقول الرواية: (وقتما نفهم الحب سنتعلم فن الحياة)، وتقول أيضاً (الحب هو عفوية حركة الكون) كيف نفض التناقض بين عفوي ويتعّلم في ذات الوقت؟

- لا تناقض بين العبارتين لأن فهم الإنساني الوجداني يبدأ من الفطرة منها الحب ما لم تتخطفها أيدٍ ووسائل خارجية، فلو ترك الإنسان ينعم بسلام الحرية النابتة على أرض الفطرة الخصبة حتماً سيعبر إلى الحياة من بوابة الحب ليس لأنه يبحث عنه بل لأنه موجود وعفوي يساير حركة الكون الطبيعية وتجاذباته، لذلك سيلتحم به مباشرة، مثل مركبة سيوز. أما فن الحياة فهو المحصلة النهائية لهذا الحب، وهو الذي نتعلمه بشرط أن تترك للإنسان عفويته. لنتوقف قليلاً ونبحث عن السر الكامن وراء فشل حياة الناس؛ ببساطة لأنه لم يترك للفطرة ممارسة دورها الرباني لذلك يرغمون على بناء أحلامهم داخل لعبة العماء الذي لا يقود إلا إلى عماء من نوع آخر: عماء في العيش، وعماء في اتخاذ القرار أي قرار، وعماء في ممارسة اللذة والمتعة، وحتى العماء في العبادة والاتجاه نحو الله العظيم الذي وهبنا هذه الفطرة، وهدانا النجدين وقال سبحانه: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً، اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}. كل هذه وأخرى لا يمكن أن يبني سوى بيوتات واهنة، سيحتلها حتماً الصمت، أو البوار، أو الموت داخل علب صدئة.

* هناك مشروع للترجمة.. ماذا سيقدم محمد المزيني للقارئ الغربي غير مجون السعوديين وإرهابهم؟

- هل لا نزال نعيش داخل وعاء من الشكوك والمخاوف من الغير؟ تركناها تحيط بنا حتى كادت تخنقنا، وهم صنعناه لأنفسنا وصدقناه وكأننا أتينا من كوكب آخر.

فالغربيون يا سيدي يعرفون أكثر مما نعرف عن أنفسنا، فلديهم مراكز دراسات كفيلة بنخل المجتمع إلى آخر حبة فيه، وقد فعلت منذ وقت مبكر، فلا يحتاجون إلى رواية المزيني أو غيرها ليكتشفونا، ربما وجدوا عالماً من الفنتازيا الروائية داخل (عرق بلدي) بعيداً عن فنتازيا الذعر. وحري بنا أن نكاشف أنفسنا ونراجع أجندتنا ونواجه واقعنا بمصداقية دون مواربة عوضاً عن الغير، الذين سيتشفون بجلدنا وتعريتنا. فهل سنقول لهم لا أنتم كذابون؟ كان السعودي قبل أعوام يُنظر إليه كملاك، ونرفض ما كل ما يوصم به، وننظر إلى كل ما يقال عنه بعدائية، حتى فجعنا بدوي المتفجرات، وحتى نقلت لنا أخيراً تقنية البلوتوث ما يشيب له الرأس.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة