Culture Magazine Monday  27/08/2007 G Issue 213
نصوص
الأثنين 14 ,شعبان 1428   العدد  213
 
قصة قصيرة
همس الطفولة
سلوى أبو مدين

 

 

الصور الرائعة، تعيدني إلى تلك المرحلة التي فرحت فيها وبكيت معاً، يوم كنت طفلة وديعة، أعبث بشرائط شعري.. وكم هي قسوة عندما تنهرني جدتي وتعنفني بشدة..! أذكر حينها أني بللت ثوبي بدموعي.. التي انهمرت، ولم تتوقف خوفاً ورعباً..!

ذاك هو اليوم الذي يعيدني للوراء عشرات المرات، والتقطتني يد جدي الحانية يوم ربتت على كتفي واصطحبني لشراء الحلوى.. ومهما كان حجم الخطأ، فإن قلبنا قادر على احتواء الظروف الجسام.. فحنانه يلفك من كل الجوانب، وعطفه يعطي للحياة دفئاً رائعاً!

ذلك هو جدي.. فحياته يغلفها إيقاع من الهدوء في حركاته وسكناته ودموعه التي تنسفح في المواقف المؤثرة..! آه يا جدي.. ما زلت تعيد لي همس الطفولة الحاني.. وما زالت يداك المتعبتان تحملني من قبضة الوجع الذي يغتالني..! تلك هي حمى الخوف التي أصابتني.. يوم اتسخ ثوبي بتراب الدار، الذي نثرته ابنة الجيران.. فهرعت إليك شاكية.. ذاك اليوم هزمتك معاني جدتي يوم قالت لك دعني أربيها..! فلم ترض أن أتوجع على مرأى من عينيك، من أجل جرم لم أرتكبه، فحملتني إلى حجرتك المتواضعة..!

يومها شرعت ترسم لي حلماً عن القمر والنجوم.. عن هبوب الرياح العاتية.. ربما لم أستوعب تلك الحكايا.. لكني أشفقت عليك حينها.. من التعب وأنت توسد رأسي، فإذا ما غفوت على ساعدك، ابتعدت بهدوئك المعتاد، وأشعلت حطب الموقد ليضفي الدفء على مرقدي في ليالي الشتاء المزمجرة، التي أضفيت عليها حنانك الفياض! لك يا جدي عطاءات لا تنسى.. بقلبك الحاني وروحك المعطاءة..!

أذكر جيداً يوم قالوا لي عن رحيلك.. تجمدت في صقيع نفسي وصهلت أنفاسي في صدري.. أصابتني غصة في حلقي.. انسابت دموعي.. توقفت كل اللحظات حينها.. إلا عن ذكراك.. عن صورتك.. التي لم تفارقني.. حتى اللحظة التي احتضنت فيها ضعفي وخوفي.. ونثرت في ذاكرتي حنيناً أبدياً.. بهمس ذكريات طفولة لا ينسى! رحلت بتعبك وشجونك.. بعلقم الأيام وقسوتها بعد معركة الشوق مع الحنين بدموع مقلتيك بآلام السنين، التي غدت على وجهك الحاني.. بعبير أحلامك التي دفنت بين أمواج الحياة المتلاطمة.. لقد تركت ربيعاً وذكريات، تستلقي لتسقينا حباً مخملياً نثرته بنبض قلبك.. بندى الحنين الذي ارتسم على أمواج العمر.. فشذا ذكراك يفوح من حولي ويعطر زماني ومكاني..!

لقد غابت باقة الفضائل.. ولم تبق الآن سوى ضمائر متهالكة..! فلم تعد ذاكرتي تحمل سوى لحظات الحنين إليك.. بعفويتها.. ووداعتها.. ولا أستطيع استيعاب الحاضر بتناقضاته.. ومخزوني لا يتسع إلا لصور البراءة التي حملتني إياها.. سقى الله زمانها..!

غمرك المولى برحمة واسعة ورطب ثراك.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة