Culture Magazine Monday  27/08/2007 G Issue 213
ذاكرة
الأثنين 14 ,شعبان 1428   العدد  213
 
حكايات من حارات مدينة جدة
حي الهنداوية وحارة الكويت وسوبية أبي دلش
جميل حاجب

 

 

حي الهنداوية من الأحياء - القديمة الحديثة- لمدينة جدة، وسمي بهذا الاسم لكثرة ساكنيه من الهنود الوافدين، أو ربما سميت ب(الهنداوية) من لفظة (الهندوان) الأردية التي تعني بلغة الهنود (المغناطيس)، وفعلاً أن (الهنداوية) هي مغناطيس الحارات بشهرتها واستقطابها للوافدين للسكن بها!.

يقبع حي الهنداوية الشهير عند الطرف الآخر للداخل إلى مدينة جدة من جهة -شارع الميناء أو شارع الذهب- (عبدالله هاشم)، وهذا الحي معروف لدى الجميع، والكل يعرفه قاصيه ودانيه، اكتسب شهرة عظيمة، يمتلك من مقومات المدينة العصرية الكثير إذا جاز التعبير، مديداً بمساحته الشاسعة وبدخلاته من جميع نواحيه، فيه الخدمات الاجتماعية، والصحية، والتعليمية، والطرقات المعبدة، ومساجده الكثيرة العدد.

حي الهنداوية للأسف الشديد، حي مظلوم ومتهم بالشقاوات، وأنه مخدوش السمعة، وخارجاً عن القانون، عند بعض الناس، سمعته تسبق اسمه، إذا ذكرته لسامعه، اشمأز، وقلب شفتيه مضضاً!!!!، ولاأدري ما السبب؟.

هذا الحي ينعم بالهدوء والنظام، ويستمد ميزته بالأمن من ميزة هذه البلاد المعطاءة التي يتوفر فيها (الأمن والأمان) دون غيرها من الربوع والديار، وهذه منة وفضل من الله تعالى، وبجهود حكامها الذين حكموها من بداية مؤسسها الملك عبدالعزيز رحمه الله ومن ذريته إلى يومنا هذا وكل يوم يمر وهذه البلاد تزداد أمناً وطمأنينة لأهلها وقاطنيها، واستتباب الأمن والمحافظة على النظام من المهام الأولية الملقاة على عاتق حكامها الذين توالوا على حكمها، أولوها جل اهتمامهم قبل كل شيء، سيف مسلط على رقاب المارقين والخارجين على القانون.

ونادراً ما يجد المرء أو يشعر بما يخل بالنظام العام، من مخالفات ومشاكسات، مجتمع لا يعرف الجريمة، ولا تقييد ضد مجهول، وإذا حدث شيء من هذا القبيل سرعان ما يحسم وتعاد الأمور إلى نصابها، وهذه ميزة أخرى حباها الله لأهل هذه البلاد، الكل سواسية أمام القانون مواطناً أو وافداً.

ينقسم حي الهنداوية إلى قسمين (حي يقابل البحر وميناء جدة الإسلامي، والحي الشعبي) ويفصلهما الشارع العام- شارع الذهب- الممتد طولاً بحوالي اثنين كيلو متر أو أكثر بقليل، يبدأ، من شركة عبدالله هاشم مخترقاً تحت الجسر (الكوبري) مروراً بباب شريف وينتهي إلى نهاية باب البنط (باب جديد) الكائن عند المنطقة التاريخية لمدينة جدة، وإذا دخل المرء شارع الذهب لوجد في هذا الشارع العام الفاصل بين شطري حي الهنداوية الكثير من المحلات الحديثة المتراصة بجوار بعضها البعض من الجانبين، صوالين الحلاقة العديدة، مركز الحصيني للساعات، محلات تنجيد الأقمشة والستائر الكثيرة، محلات تأجير مستلزمات الأفراح والزواج محلات بيع القرطاسية المدرسية ومستلزمات المدارس، الصيدليات، طواحين الحبوب، البقالات، المخابز، الاستديوهات، مدرسة الخليج الأهلية، المستوصات الأهلية، وتقع الهنداوية الحديثة على جهة الداخل يساراً من عند إشارة شركة عبدالله هاشم، والهنداوية الشعبية على الجهة اليمنى والجزء منه يقع خلف الشركة أيضاً.

حي الهنداوية المقابل للبحر وميناء جدة الإسلامي: هذا القسم من الحي يقابل بواجهته البحر وميناء جدة الإسلامي، ويضم بين طياته مدينة حجاج البحر، وفيه الأبنية الشاهقة، والعمائر السكنية الحديثة، والمراكز التجارية الكثيرة العدد لبيع الأواني والتحف المنزلية، وأسواق الخيوط وجميع مستلزمات الخياطة، وثلاجات الفواكه والخضار، وفندقاً ضخماً (ترايدنت هوتيل)، ومراكز للشقق المفروشة، ومؤسسات للقطاع الخاص، ووكلاء تذاكر السفر بحراً وشركات البواخر والشحن البحري، وفرع بنك الرياض، ومتوسطة البنات، ومدرسة المغيرة بن شعبة المشهورة الابتدائية للبنين، ومدرسة ابتدائية للبنات.

يتسم هذا الحي بالنشاط التجاري الدؤوب نهاراً، بالهدوء ليلاً، يبدأ نشاطه التجاري الساعة السابعة صباحاً وينتهي الساعة التاسعة أو العاشرة ليلاً، وتقفل المحلات والمراكز التجارية، إذا أُسدل عليه الليل بخيوطه تخف وتتضاءل فيه الحركة وتسكن، وعند الصباح الباكر تعج حركة ثانية بالمرتادين والمتسوقين.

2) حي الهنداوية الشعبي الشهير: هذا الحي هو بيت القصيد لموضوعنا، فهو النصف الثاني المكمل لأخيه من الحي المقسوم، فهو أكثر امتداداً وحركةً، وهو مكتظ بالسكان والعمران، فيه الحارات الشعبية الكثيرة المتداخلة، والكثير من الدخلات والأزقة المتفرعة عنه التي تمتد إلى حي البخارية وحي السبيل من جهة سوق الخيمة.

يسكن هذا الحي الكثير من العائلات السعودية المعروفة بالبلد، عساكر ومدنيين، بعضهم يعملون بمراكز اجتماعية مرموقة، ولا يُعاب عليهم بأنهم من سكان هذا الحي الشعبي -العتيق الجديد- المليء بقصصه وحكاياته الشعبية، وأنس أيامه ولياليه، ويشاطر أهالي البلد في سكنهم بهذا الحي الكثير من الوافدين اليمنيين، والمصريين، والسودانيين، والهنود، والباكستانيين، والأفغانيين، والتشاديين، والسنغاليين، والنيجريين وغيرهم، السكنى في هذا الحي لا يشعرك بغربة الديار والوطن، فترى أبناء الجلدة الواحدة يتجمعون في محل واحدٍ وحارة واحدة، ويسكنون بناية واحدة، لا يعكر صفوهم وبالهم شيئ طالماً هم ملتزمون بنظام وأمن هذا البلد.

هذا الحي مكتظ ومشهور بالكثير جداً من المطاعم الحديثة التي تبيع الأكلات الشعبية المختلفة كل حسب جنسه، والبوفيهات التي تقدم الوجبات السريعة والعصائر، وصوالين الحلاقة، والمقليات، ومقلات التسالي كالفص فص والفستق والمكسرات وغيرها، وفيها مدرسة بدر الابتدائية العتيدة المشيدة أكثر من ربع قرن ونيف، ومدرسة المعتصم بالله المتوسطة للبنين، وثانوية الخليج الأهلية، ودور لتحفيظ القرآن الكريم، ومساجد كثيرة متعددة المساحات والسعة- قديمة وحديثة- وفيها مسجد شهير يعرف باسم (زاوية الهنود) المشهور (بوقف المندشية) عمره (52 عاماً) شيد عام 1375هـ الموافق 1956م، والعديد من المستوصفات الحكومية والأهلية، ومشاغل الخياطة النسائية والرجالية على حدٍ سواء والمخابز، والأفران، وكثرة بائعي الفواكه والخضار على عرباتهم، وبائعي البسبوسة، والمنتو الأفغاني، والمنفوش، وبائعي غزل البنات، ولكل حسبما يشتهيه، ولا ننسى عم صنوجة بائع الخردوات وألعاب الأطفال المختلفة، متجولاً الأزقة والحارات الفرعية للحي بعربته اليدوية الكبيرة المزدحمة بشتى أصناف المنتجات، وأطفال الحارة من صبيان وبنات يركضون وراءه وينادونه عمو صنوجة.... عمو صنوجة..... وقف قليل.....، والحجة بائعة اللحوح الحامض الرقيق (الكسرة) المعمول من الذرة والقمح، المشهورة بصناعته وبيعه، وأناملها الرفيعة ومقدرتها الفائقة لطريقة فك ارتباط قطعه المتلاصقة عن بعضه البعض، مداومة يومياً بجوار ناصية مسجد الحي، متربعة بجلستها على صفيح من التنك تارة ومقرفصة أرضاً تارة أخرى، بنظراتها الخارقة الحادة كالباشق، وكأن الشرر يتطاير من وراء نظارتها البيضاء السميكة باسطة بضاعتها بصحن كبير مغطى بقطعة قماش مهترية تشكو عوامل التعرية التي اعترتها وأحمد المتقمص شخصية (بوارو) مخبر الكاتبة الإنجليزية الراحلة أجاثا كريستي (في قصصها البوليسية الذي يعرف عن أخبار الحي وحاراته وساكنيه) كل شاردة وواردة، ولا يغيب عن باله أي خبر أو حادثة صغيرة أو كبيرة كانت أو مهما كان نوعها، ويعرف كما يقول المثل الشعبي (علوم الشام وأخبار اليمن).

يتسم هذا الحي بالحركة النشطة، التي لا تهدأ ولا تكل، وإن هدأت إلا سويعات قليلة فقط، وسرعان ما تعاود الكرة بالنشاط والحركة والسهر، فكان هناك اتفاق مبرم ومعقود بين ساكنيه لتناوبهم بالحركة.

حي يسهر إلى بزوغ الفجر وخصوصاً إذا حلت عطلة نهاية الأسبوع، أو العطلات الرسمية، وعطلات المدارس الصيفية، أو إذا فاز فريق للكرة ترى الحي مكتظاً بالمؤيدين والحركة من ساكنيه ومرتاديه.

في هذا الحي يوجد محل (فوال البيزان) الشهير لعبدالقادر، أشهر محل لبيع الفول والتميس يتزاحم على فوله وتميسه الكثير من الناس، وخصوصاً في شهر رمضان، والمناسبات الدينية، والعطلات، وإذا أردت أن تبتاع فولاً وتميساً، ما عليك إلا الوقوف طابوراً طويلاً لساعاتٍ طوالٍ لتنال مبتغاك هذا إذا حضرت مبكراً!!!. ما لم لن تنال شيئاً ويكون كل شيء قد انتهى (هذا الموقف بطوابيره الطويلة وزحمته يذكرك بنظام دول الاتحاد السوفيتي سابقاً التي كانت تدعي الديمقراطية والاشتراكية ومن تبعها من الدول التي انهارت بعدئذٍ نتيجة الاقتصاد الاشتراكي وتقنين المعيشة!!!!).

وأشهر حارة في حينا حارة الكويت.

حارة الكويت: حارة متفرعة من داخل حي الهنداوية، مشهورة (بالفتوة) و(الشقاوة) بين شبابها، يتجمعون زرافات وشللاً في أركانها، يتسامرون بحكاياتهم، كل واد يدلي بدلوه من حكاية وقصص مرت به وصادفته أثناء النهار، حارة لا تنام اسوة بأمها حي الهنداوية، تسهر ليلاً وتهجع نهاراً، جمعت أشتاتاً من التناقضات الاجتماعية للعديد من قاطنيها الوافدين والساكنين فيها، وتقام فيها الحفلات والرقصات الشعبية، وتصدح فيها نغمات آلة (السمسمية) بأوتارها الشجية العذبة، ودقات الطبول، والمراوس (الطبول اليدوية)، ورقصات (الليوة) وغنائه مرددين:

غنوا معي ليوه،

هذا الوليد أسمر وبسري

أنا بسري معاه

دورت له ما لقيته في مصوع وممباسا

غنوا معي ليوه

وبتغنوا:

بالله يا ناس قولوا لي ودلوني

جبتوا ذا الهندي من فين؟

هو من السند وإلا من الهند؟

يغني ويفهم رطين أهل البلد زين!!!

وأغاني البحارة:

يأهل الهوى كل يتفقد على ماله

ومركبكم تكسر في سواحل ضاقت أثقاله

والناخوذة: قال للمستري (مالي ومال العشق وأهواله).

أما حفلة (المزمار) إذا قامت في هذه الحارة، وأشعلت النار وسط الحفل ليرقصوا حولها، فعلى الحارة السلام كما يقولون، تبدأ برقص، وفرح، ونشوى، وانسجام، وتنتهي بمعركة بالأيادي، والعصي، والسكاكين، لا يفضها إلا سيارات الشرطة ودورياتها، التي تجوب المنطقة ليلاً ونهاراً حفاظاً على أمن هذا البلد من العابثين والخارجين على النظام.

سوبية أبي دلش:

سوبية ما أروعها من سوبية، اكتسب محل (أبودلش) الكائن في حارة الكويت والمتفرع عن حي الهنداوية، بصناعة سوبيته شهرة واسعة، ولا تخلو موائد الإفطار في شهر رمضان أو الأيام العادية من سوبيته التي تخطت وفاقت نظيراتها ومثيلاتها من السوبيات في محلات أخرى، فمحله المشهور المداوم على بيعها مدار الأيام معروف للقاصي والداني من أبناء مدينة جدة وقاطنيها، فحي الهنداوية مشهور بثلاث (فوال وتميس البيزان) و(حارة الكويت) و(سوبية أبي دلش) المختلفة الألوان، والطعم، المعصورة والمستخرجة من أنواع الثمار، كالعنب، والشعير، والتمر العربي السعودي الفاخر بطعمه وأنواعه وأشكاله، والتمر هندي، وثمار البخاري الطازجة والمجففة، والزبيب، والفراولة، وغيرها من الثمار. إذا عرج المرء لدكانه لرأى بأم عينيه تزاحم الكثير من الناس لشرائها، بين واقف وترجل وراكب سيارة.

وسوبية أبي دلش هذه لها من نكهة الطعم، واللون، والرائحة العطرة، نصيباً، وكما يقول المثل الصيني إن الشراب لا يسمى شراباً إلا إذا توافر فيه (الطعم اللذيذ، والرائحة، واللون) كل تلك الصفات تتوافر مع سوبية أبي دلش التي لا ينافسها في الحي منافس!!! من ذاقها مرة واحدة وابتاعها يعود لشرائها مرات ومرات، لأن بائعها يمتاز بسر صناعتها وتركيبها وإتقانها، وإلا ما اكتسب زبائننا شهرة ذائعة الصيت ملأت أحياء مدينة جدة.

جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة