الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 27th September,2004 العدد : 78

الأثنين 13 ,شعبان 1425

عطاء الأمير وبكاؤه
عبدالسلام العجيلي

دأبت في السنين الأخيرة أن أتوجه، في أعقاب الندوات التي أتحدث فيها، إلى من يريد أن يسأل أو يعلّق على حديثي، بالرجاء أن يرفع من صوته في سؤاله أو تعليقه مرددا البيت القديم:
إن الثمانين، وبُلِّغْتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وهذا البيت، كما يعرف المطلعون على التراث، أحد أبيات قالها الشاعر عوف بن محلّم الخزاعي لأميره عبدالله بن طاهر بن الحسين، وهما في بلاد خراسان، يستأذنه في الرجوع إلى موطنه في الجزيرة الفراتية. وكثيرا ما أتبعت لمستمعيّ في الندوات التي ذكرتها هذا البيت بالأبيات الأخرى، وهي هذه:
يا ابن الذي دان له المشرقان
وأحرز الأمن به المغربان
إن الثمانين، وبُلِّغْتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وبدّلتني بالشطاط انحنا
وكنت كالصعدة تحت السنان
فقرّباني بأبي أنتما
من موطني قبل اصفرار البنان
وقبل منعاي إلى نسوة
مسكنها حرّان والرقتان
وواضح أن أحد دوافعي لتلاوة هذه الأبيات رغبتي في أن يعرف
المستمعون أن عوف بن محلّم الخزاعي مواطن لي، وإن فصل بيننا اثنا عشر قرنا من الزمن. أليس مسكن نسوته اللواتي سيندبنه ويبكين عليه حران والرقتان؟
وليست هذه أول مرة يتوجه بها عوف بن محلّم بشعره إلى عبدالله بن طاهر مذكرا إياه برغبته بالعودة إلى أهله من خراسان البعيدة. فها هو ياقوت ينقل في معجم البلدان أقوال عوف بن محلم نفسه عمّا دار بينه وبين الأمير في إحدى المرات. يقول عوف: كانت لي وفادة على عبدالله ابن طاره إلى خراسان. فصادفته يريد الحج فعادلته العمّارية من مرو إلى الري. فلما قاربنا الري سمع عبدالله بن طاهر حمامة في بعض الأغصان تصيح. فأنشد عبدالله متمثلا بقول أبي كبير الهذلي:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر
وغصنك مياد ففيم تنوح؟
ثم قال:
ياعوف أَجِزْ هذا، فقلت في الحال:
أفي كل عام غربة ونزوح
أما للنوى من ونية فتريح
لقد طلَح البين المشتّ ركائبي
فهل أرينّ البين وهو طليح
وأرّقني بالري نوح حمامة
فنحن وذو الشجو القديم ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعة
ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما
ومن دون أفراخي مهامه فيح
عسى جود عبدالله أن يعكس النوى
فتضحي عصى الأسفار وهي طريح
فإن الغنى يدني الفتى من صديقه
وفقد الغنى بالمقترين نزوح
فأخرج رأسه من العمّارية وقال: يا سائق، ألق زمام البعير. فألقاه، فوقف ووقف الحاج معه، ثم دعا بصاحب بيت ماله وقال: كم يضمّ ملكنا في هذا الوقت؟ فقال: ستين ألف دينار.
فقال: ادفعها إلى عوف، ثم قال: ياعوف، فقد ألقيت عصا تطوافك فارجع من حيث شئت. قال: فأقبل خاصة عبدالله عليه يلومونه ويقولون أتجيز أيها الأمير شاعراً في هذا الموضع المنقطع بستين ألف دينار ولم تملك سواها؟ قال: إليكم عني، فإني قد استحيت من الكرم أن يسير بي جملي وعوف يقول: عسى جود عبدالله، وفي ملكي شيء لا ينفرد به...
جود عبدالله بن طاهر بن الحسين لم يكن الصفة الجميلة الوحيدة من صفاته. فعدا كونه يستثار بالشعر الجيّد فيجزل العطاء كان على ما يبدو رقيق القلب، تؤثر به الكلمة الواعظة إذا
كانت صادقة فتصل به إلى حد البكاء. وثمة صفة من صفاته الجسدية لم يذكرها المؤرخون عنه ولكننا نستشفها من خبر يورده عنه ابن عساكر في تاريخه الكبير، تاريخ مدينة دمشق، فنعلم أنه كان جميل الهيئة والوجه.
في هذا الخبر يقول ابن عساكر إن أبا زكريا يحيى بن يحيى قام ليلة لورده بعد صلاته. فبعد أن فرغ منه قعد يقرأ في المصحف. فدخل عبدالله بن طاهر عليه، فلما قرب منه قام إليه والمصحف في يده ثم رجع إلى قراءته التي كانت افتتحها. ثم وضع المصحف، واعتذر إلى الأمير قائلا: لم أشتغل عن الأمير تهاونا بحقه، وإنما كنت افتتحت سورة فختمتها. فقعد عبدالله ساعة يحدثه، ثم قال له: ارفع إلينا حوائجك. فقال أبو زكريا: وهل يستغنى عن السلطان أيده الله؟ وقد عرضت لي حاجة الآن، فإن قضاها رفعتها. فقال عبدالله: مقضيّة ما كانت. فقال أبو زكريا: قد كنت أسمع بمحاسن وجه الأمير، فلم أعاينها إلى في ساعتي هذه... وحاجتي إليك أن لا ترتكب ما يحرق هذه المحاسن بالنار!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved