الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 27th September,2004 العدد : 78

الأثنين 13 ,شعبان 1425

استراحة داخل صومعة الفكر
نشيد ونشيج_ناجي بن داود الحرز
سعد البواردي

بين النشيد والنشيج خيط رفيع يفصل بينهما، كذلك الخيط الفاصل بين البقاء والفناء، بين الأمل، والألم.. بين الود والصد.. النشيد صوت فرح.. والنشيج لغة حزن.. جميعها أوجه لحياة واحدة.. لا أحد منها يملك سعادة دائمة.. ولا أحزانا دائمة.. الطعام نطعمه حياة، والجوع يطعمنا أحيانا.. الصحة تملأنا حيوية وراحة.. والمرض يهد حيلنا أحيانا فنجهل راحة الصحة..
فيوم علينا، ويوم لنا
ويوم نُساء ويوم نسر
شاعرنا الحرز أوحى لنا هذا المعنى بعنوان ديوانه الذي يتقاطع فيه نشيد الفرح بنشيج الترح.. ماذا قدم؟!
كانت البداية مفاجأة غير منتظرة.. لقد أعطى لجرحه نشيداً.. فماذا أبقى لفرحه؟ لنستمع إليه:
نقشت على هدأة الأمسية
جراحي التي لم تزل دامية..
فضح الغروب، وطاف على
الأصائل أغنية بالية..!
لقد استوحى من صبر النخلة وجدلها ومقاومتها لقسوة الرياح ووهج الشمس، ولسعة الخريف مثلا يتأسى به في جلده ومصابرته:
وضمخت صبر النخيل العتيد
وأشجانهن بأشجانية
هذا المشهد من اللوعة أسال دمعتين على خده ما لبثتا أن ذابتا وسط زفرة حانية.. وهنا بدأ يكشف لنا أسراره المثقلات:
وأطلقت أسراري المثقلات
بقيد المكابرة الواهيه
فجاشت بأحزانها وهدة
ومادت بآلامها رابيه
ورجع سرب الحمام الشجي
نشيد الجراح بألحانيه..
هكذا امتزجت ألوان الصور وتزاوجت.. فلا هو بالحزين.. ولا هو بالفرح بعد أن أفرغ في البحر فيض همومه تشاغبه أجفانه بالدمع لينتفض الشاطئ المستكين.. وتنتحر أمواجه.. ويبقى حبيبه الذي أشعل النار بأحشائه.. أما هو فأسكن الشقاء في مقلتيه.. وأرسى العذاب بأحشائه كمن يتلذذ بعذابات حبه.. وجه غريب آخر من أوجه الحب.. أي عذابات الحب المغرقة في تصورها.. شاعرنا الحرز رصد لنا يومين اثنين لهما بصمة في حياته، وربما في تحولاته:
يومان وانتفضت حروف الشوق في وجه المكيده
وانبثت الكلمات تبحث عنك ياوهج القصيده
وأنا على الدمع اتكأت أراقب الحُرق البديدة.
أي حُرق بديدة يعني؟ أعترف بجهلي لها ربما لقصور في الفهم..
يومان يا هبة الوفاء وأنت في عيني بعيده
يومان واحترقت على كف الاسى روح شريده
يومان فيهما بهما تناثرت أشلاء حلمه بعد أن دكت الشكوى قلاع حدوده، انتحر فيهما النهار قبالة الشمس فلم يعد هناك نهار ولا شمس.. إغراق في الوصف وفي الوصل يتجاوز حدود الممكن والمستطاع لعلها تنال من حبيبته، وعودتها إليه.. الحب لا يرجع بالوعود السرابية..
فتسللي لعيد يا ليلاي في عيني وليده
فأضم في صدري الحياة غداة عودتك الحميده
هل عادت إليه كما يتمنى؟ وهل لملم الأطياب من أنفاس ملهمته الوحيدة؟ لا أعرف.. لعله أدرى..
الدموع تلاحق شاعرنا وتجتذ به إليها، وتأخذه هذه المرة في شركها:
أيقظت من جرح الشراع حبالي
وبدأت في بحر الأسى تجوالي
ورسمت في عينيك ألف جزيرة
يهفو إلى شفاتهن خيالي
لعل في عينيها متسع ولو لجزيرة واحدة.. ولكن خيال الحب يختصر الأبعاد والمسافات.
وصنعتُ من شوقي إليك ولهفتي
عزما يعين على السرى آمالي
حتى اسمها نقشه شاعرنا فوق صدر سفينته كلغز تشد حروفه أغلاله.. لا أن تفكها.. حتى أمواج البحر تؤم ذلك الاسم، أو ذلك اللغز بخطى لاهثة راسمة ألف سؤال وسؤال على ساح الشطئان.. كثير هذا الإغراق في الخيال، يا شاعرنا..
دمعته الثانية.. بل دمعته التالية فقد ذرف أكثر من دمعة واحدة حرى رويت منها خداه.. وأجهدت من مسحها يداه:
ودعت إذ ودعتكم بسماتي
ورجعت منطويا على مأساتي
أتجرع الحسرات قبل رحيلكم
أواه.. بعد البين من حسراتي
لم تبق أشواقي إليك بما مضى
بحشاشتي شيئا كما هو آتي
ملاحظة لعلها الأقرب إلى الصواب.. مفردة ودعتكم مفردة جمع، ومثلها رحيلكم وجاءت في الشطر الخامس بلغة مفرد (إليك) حسنا لو جاءت جميعا بلغة الفرد... (إذ ودعتها بسماتي).. (قبل رحيلها) كي تتوافق مع (إليك في إيقاع موحد..
أوهل أبثك ما لقيت وأنت في
قلبي تهيج في الحشا زفراتي
لكنني أشكو إليك كعادتي
الأولى فغيرك لا يسيغ شكاتي
شكواك المتواصلة مهما كانت درجة الحب مظهر ضعف تستهين به تلك الجافية والمجافية لنداء القلب.. دع الشكوى.. وأغلق بوابة الاستجداء، الحب لا يجدي فيه التوسل ولا التوسل..
ومن ثقافة الدموع إلى آية العشاق، يأخذنا الشاعر معه نقتفي أثره.. ونواكب شعره:
يا من تدقق في المسائل
عن جواي.. وعن ضنايه
وعن الدموع إذا أتى
ذكر العيون، وعن بكايه
هي نظرة ممن أجاد
بأسهم النظر الرماية..
يا عزيزي ماذا تجدي أسهم رماية النظر وأسلحته إذا كان حصن الجفوة مغلق الأبواب موصد النوافذ.. هكذا وبعض لسانك، وبنانك أشهرت راية الاستسلام ألست القائل
فبقيت فوق مسارح الآلام
للعشاق آية..
ماذا تجديك الآية في مرحلة فشل لا بداية لها ولا نهاية.. انفض عن نفسك غبار الدعة وأوصد بوابة قلبك لمن لا يستجيب لحبك..
ذلك أن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء.. وهو عنوان قصيدتك التالية:
سحابة، سحابة، يحملها الشك
إلى سمائنا.. وتختفي.!
شيئا فشيئا عن عيون الحب
ألا يكفيك أن تهرب الدمعة من محاجرك، ويفلت الموعد من دفاترك، وترتمي أدعية القنوت بل أدعية القنوط في شبح العذر، وتحت وطأة السكوت.. هذا هو اعترافك فماذا تنتظر، وقد طال بك الانتظار ولم يصل القطار.. عقارب الساعة لا تقود..
(الخطوة العاثرة) عنوان يحتاج إلى إعادة نظر.. بل إلى ترميم.. لابد وأن يكون هكذا (الخطوة العاثرة) أو (الخطو العاثر)..
يا حبيبي كم أعاني من هواك
منذ أن ضمك قلبي واحتواك
منذ أن عاف لذاذات الهوى
ويح قلبي وأباها من سواك
كعادته، وكما عودتنا تأتي النهاية انهزامية بائسة يائسة، هذا ما أكدته أنت
لا أنا فزت بأحلامي ولا
أنت يا مسكين حققت مناك
هذه المرة قال لها (كفي) بصوت رجولي رعشة فيه بعد أن ضاق بعدها وعِندها..
كفاكِ، كفاكِ من عمري اختطافا
من الأعوام أربعة جزافا..
لقد آن الأوان فهاك قيدا
ينقب عن معاصمك انتصافا
هي الأيام إذ أعطيتك يوما
قيادي تعبثين به طوافا
وتستبد به غضبة الكبرياء والتحدي:
فليس لدي إذ أجهشت كف
يدافع فيض أدمعك ارتجافا
ولا الغيم المحمل بالأماني
كعادته إذا استسقيت دافي
فما أبقيت من ولعي شراعا
يعانق روع مجدفك الضفافا
ما أعرفه لغة أنه المجداف لا المجدف.. ألا ترى يا صديقي أن (مركبك) انسب؟!
ومع (خمرة العينين) لا حمرتها يتغنى شاعرنا ناجي الحرز بنجواه:
وساق مد لي كأسا وكأسا
من العينين أسقانيه صرفا..
فهل ذنبا جنيت عليه حتى
سقاني الكأس من عينيه أوفى؟
وراح يعدد محاسن النظرات وكأسها الشهي الذي يطوف في عروق قلبه ويشعلها نارا يزداد لهيبها دون أن تنطفئ.. وليتها انطفأت قبل أن تورث قلبه الحسرة:_
وجرح المستهام وقد جفاه
الحبيب وصد عنه فكيف يشفى؟
الشطر الأخير يحتاج إلى جبر يستقيم من الوزن.. حسنا لو جاء على النحو التالي:
حبيب صدَّ عنه فكيف يشفى؟
لقد أغرقنا.. إن لم أقل أغدقنا شاعرنا بسيل دموعه سنكفكف دمعته الثالثة دون أن نغوص في أعماقها، فحصاد الدموع واحد حسرة.. وحيرة.. وخيبة أمل.. ونتوقف أمام لافتة جديدة كتب عليها: (وقالت أحبك) بماذا يستقبل حبها؟ وبماذا يقابله..
وقالت أحبك يا شاعري
أحبك حب المربي للسحاب
وأهوى انتظارك يا موعدا
يجيد الظهور بلون السراب
وأبقى أداعب جرحي كما
تداعب أنت حروف العتاب
وألتذ بالدمع شوقا إليك
كأني خلقت لهذا العذاب
للمرة الأولى تجثو امرأة على قدمها تعترف لها بحبه على عكس ما مضى.. الغريب، وهو اللاهث وراء الحب، لم يقل لنا مدى استجابته أو رفضه.. الطبيعة البشرية علمتنا أحيانا أننا نلهث خلف سراب الحب الذي لا يتحقق.. ونهرب من الحب حين يأتي إلينا طولا دون عناء.. إننا نسترخصه..
(نعم) مفردة طيعة جميلة متى جاءت جوابا لشيء تسعد به النفس.. قالها شاعرنا لمن يهوى:
سألت نجوم السما: تعرفين
هوى كهواي أجابت: نعم
وقالت: رأيت الورود الظماء
تعانق قطر الندى في نهم
(الظمأ) غير مناسبة.. (العطاش) أوفق.. ويمضي ناجي في نجواه الحلوة معها:
وقالت : شهدت لقاء الشواطئ
بالموج حين يثور الألم..
ولكنني ما رأيت الفؤاد
الذي مزقته المُدى فابتسم
الفؤاد الميت لا يبتسم لأنه روح له: ولأن المعاناة قاسم مشترك أعظم في قصائد الديوان عاد بنا إلى دروبها نتجرع منها ما يسهل تناو له وإن بالسماع:
عيناك تنضح بالشكوى وبالألم
وقلبي المجتلى قد لاذ بالقلم
يُسطران بعيني اللتين ترى
ملاحم الهم، والإمعان في الندم
معزوفة شجية بنغم أوتارها تسلمك إلى وقفة لا ترغب تجاوزها..
كأنني أيها المأسور في صفه
من المعاناة لم أقعد ولم أنم
ونحن مثله لا نطيق حراكا بعد أن شبعنا معاناة.. ولكن هل نقدر معه جميعا على التوقف، وأمامنا بضع محطات لابد من تجاوز البعض والوقوف أمام البعض الآخر.. (إيمان).. و(هيهات).. وتحقق الحلم الكبير محطات ثلاث استودعناها الله.
وفي خطانا شوق لواحة خضراء تعمرها النخيل اسمها (الأحساء).. كانت بالنسبة إليه نقطة استراحة والتقاط أنفاس:
هي الأحساء يا قلب المعنى
فأطلق من لحون العشق لحنا
وعلمنا الهوى والشوق يا من
شربت كؤوسه مثنى فمثنى
وخذنا في طريقك حيث نجم
يبوح ونجمة كالصبح وسنى
خيال خصب ماتع رسم لنا صورة وصفية جميلة زاهية الألوان، شامخة كالنخيل.. متدفقة كالعيون وكالشرايين التي تسقي ولا تشقي.. إنه من ينبوع حبه مد بساطا مخمليا قزحي الألوان.. لا يكذب أهله:
سقاكِ الله يا أحساء عما
سقيتِ قلوبنا فضلا ومنا
فرب سويعة في شطر نهر
وخضر النخل عن يسرى ويمنى
أنالته كل نفس ما تشهت
وأعطته كل قلب ما تمنى
الأحساء الحبيبة تستحق هذا وأكثر.. إنها لمسة وفاء..
حسنا اصطفى واختار آخر قصائده كمسك الختام لمسيرتنا معه.. وهل أجمل وأفضل عن أن تكون وقفة إيمانية تحلق معها الروح وتطيب معها النفس.. ويرتاح معها من أجهده عناء المعاناة.. وهجر الحب.. وهجير الحياة المجهدة.. يقول شاعرنا:
حلقتُ بالذكر في عليائه زمنا
فعدتُ أرتحل الاعياء والوهنا
وجلت بالكلمات البيض في كنف
أعده الله محمودا لها سكنا
فنازعتني النجوم الزهر ما اختزنت
حقائبي ترتوي من ضوئهن سنا
إلى أن يقول:
وكيف لا تُقبل الدنيا على قبس
تزيده من جلال المصطفى شجنا
ويخاطب رسول الإنسانية ومنقذها من جهام الجهالة، والشرك والعبودية قائلا:
أما القلوب التي أعطتك مقودها
أعطيتها كلما تسعى له ثمنا
فأصبحت والمنى في كفها خضل
لما تدلى عليها من يديك جنى
بهذه القصيدة الإيمانية الرائعة أمتعنا شاعرنا المتألق ناجي الحرز، وأشبعنا طبقا شهيا غنيا بخصائصه ومكوناته الغذائية الفكرية، بل إنه في حالات كثيرة أسلمنا إلى تخمة الخيال الضارب في متاهات اللامعقول في توصيفه، وفي توظيفه لمفردات تجهد معها المتأمل إلى درجة الإشفاق من بؤرة الانغلاق.. إنه بكل هذا العطاء الجميل الجزل منحنا متعة سفر فوق بساطه السحري طوَّف بنا معه جادة الآلام.. ليحطه بنا معه أخيراً نحو جادة الإيمان.. مرحباً بك شاعراً أعتز بشاعريته وصداقته..

الرياض: ص.ب 231185
الرمز : 11321 فاكس : 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved