الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 27th September,2004 العدد : 78

الأثنين 13 ,شعبان 1425

هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات
بقلم/علوي طه الصافي
رئيس جمهورية.. يعيش عزلة سياسية عن العالم!!(12)

كان اللقاء به، والتحدث معه لأربعة أيام بمناسبة انعقاد (مؤتمر الصحافة الإسلامية الأول) الذي دعت إليه (رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة) على عهد أمينها العام فضيلة الشيخ (محمد علي الحركان) الذي كان قبل أن يتسنم منصب أمين عام الرابطة، وزيراً للعدل في المملكة، وقد شاركت في المؤتمر بناء على دعوة الرابطة بصفتي رئيساً لتحرير مجلة (الفيصل)، وقد اختارت الرابطة أن تكون جزيرة (قبرص) الشمالية من الجانب التركي لأسباب إسلامية منها كما أعتقد:
1 إن عدد سكانها البالغ (198) ألف نسمة تقريباً يشكل المسلمون فيها نسبة 99%.
2 إن تاريخ الجزيرة بقسميها الشمالي والجنوبي يعود إلى أكثر من (700) سنة قبل الميلاد.
3 دخولها الإسلام في عهد الخليفة الراشد (عثمان بن عفان) رضي الله عنه الذي أمر أمير الشام (معاوية بن أبي سفيان) رضي الله عنه بتجييش أسطول كبير لفتح (قبرص)، ومن يومها دخلت الرحاب الإسلامية، ودولته العادلة شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوبها، وقد كان للقبرصيين دورهم في الاستقبال والاحتفاء بالدين الإسلامي، فانتشرت مساجد العبادة في الجزيرة، لأنهم وجدوا في تعاليمه، وتحت حكمه كل معاني الحرية، والكرامة، والعدل، والمساواة.
4 للدعم المعنوي لقبرص الشمالية المسلمة التي لم تعترف بها دولياً سوى (تركيا) التي ناحرتها، ونصرتها عسكرياً في حربها مع الجانب الجنوبي اليوناني غير المسلم وعلى إثر هذه الحرب انقسمت الجزيرة إلى قسمين يفصلهما حائط مثل الحائط الذي كان يقسم برلين إلى قسمين أحدهما شرقي تحت سيطرة حكم (الاتحاد السوفييتي) الشيوعي، والآخر غربي تحت الحكم الألماني الرأسمالي.
وبهذا التقسيم انشطرت جزيرة (قبرص) أحدهما يوناني، وهو الجزء الجنوبي، والآخر شمالي شكل جمهورية مستقلة برئاسة القائد المسلم (رءوف دنكتاش) محور موضوعنا هذا، وأطلق على هذه الجمهورية مسمى (جمهورية قبرص الشمالية التركية) عام 1983م، ويبدو أنهم أضافوا صفة (التركية) اعترافاً بفضل تركيا في مؤازرتهم العسكرية ضد القسم الجنوبي اليوناني.
والزائر للجزيرة من خلال انطباعي عنها يلمس أنها مهيأة طبيعياً للسياحة، وقضاء فترة زمنية ماتعة، فهي تبدو للزائر أنها لوحة فنية صنعها الخالق، بما تحمل من فسيفساء زاهية الألوان، بما كسيت به من طبيعة تبعث على البهجة، والراحة النفسية، والاستقرار الذهني الداعي إلى التأمل بعيداً عن ضوضاء المدن الكبيرة، وأضواء أنوارها، وازدحام سكانها من أهلها ومن السياح، لأن سكان هذه الجزيرة (198) ألف نسمة وفق إحصائية عام 1997م، يعيشون على مساحة تقدر بـ(3555) كيلومتراً مربعاً.
وسطحها، وتضاريسه الجميلة البديعة تلتحف بمساحات واسعة من الخضرة لمختلف أنواع الأشجار من الفواكه المتعددة، والثمار، والخضراوات بحيث تستطيع أن تكون جمهورية مصدِّرة لغيرها.. ولكن، آه من لكن، هذا ما ستعرفه من خلال أحاديثنا المتفرقة طوال أيام المؤتمر مع رئيس جمهوريتها الذي يلقبه سكان الجزيرة بلقب (الزعيم المحرر) إلى جانب محبتهم له وتقديرهم الرئيس (رءوف دنكتاش) الذي ظل على رئاسة جمهورية الجزيرة منذ تحريرها عام 1983م، وما يزال رغم مرور ما يقارب (21) عاماً دون منافس.
ومن انطباعاتي أنه لا يوجد بالجزيرة ذلك الثراء الذي قد يتصوره البعض لأن الجزيرة تكاد تكون معزولة عن العالم، سياسياً وتجارياً واقتصادياً لعدم اعتراف العالم، ولا الأمم المتحدة بها كدولة مستقلة، ولهذا فإن علاقاتها بالعالم الخارجي مقطوعة بما فيها الدول الإسلامية مع الأسف الشديد باستثناء تركيا، وهذه العزلة جعلتها ضعيفة من الناحية التجارية والاقتصادية، ووسائل الاتصال والمواصلات التي تعد شريان الحياة.
وهذه العزلة انعكست على تركيبتها الاجتماعية التي قدرتها من وجهة نظري بعدم وجود تفاوت طبقي كبير عند زيارتي لها، وحسب اعتقادي وملاحظاتي تصورت مفترضاً أن تركيبتها الاجتماعية تتكون من:
1 الطبقة المتوسطة التي يمثلها التجار، وأصحاب الشركات الصغيرة المحدودة.
2 طبقة أصحاب المهن، والحرف اليدوية.
3 طبقة العمال والموظفين.
4 طبقة الفقراء التي لا يخلو منها أي مجتمع من المجتمعات البشرية، بما فيها الدول الغنية المتقدمة.
5 طبقة العاطلين عن العمل لغياب الحركة التجارية والاقتصادية التي كان من الممكن في حالة وجودها تشغيل نسبة طيبة من هذه الطبقة المغلوب على أمرها.
ولا أستطيع أن أحدد نسبة مئوية لكل طبقة من هذه الطبقات ولتحديد مثل هذه النسب، كان عليَّ الاتصال بجهة رسمية، ولكن ضيق الوقت، وخروج هذا الجانب عن برامج المؤتمر هذا مع افترض وجود جهة رسمية تمتلك مثل هذا النوع من المعلومات الإحصائية الدقيقة.
وتقسيمي لتركيبة طبقات مجتمع الجزيرة تقوم على افتراضاتي لما شاهدت من صور لحياة المجتمع المعزول دولياً، ونوعية المباني والوسائل الحديثة، وغير الحديثة المتوفرة لأفراد المجتمع.
لهذا لم أشاهد مباني ضخمة تدل على ثراء كبير، وإنما هي مبانٍ للطبقة المتوسطة، وكذلك الأسواق، والحوانيت، ومعروضاتها، كما شاهدت المباني العشوائية البسيطة التي يقطنها الفقراء!!
قد يتوق القارئ لمعرفة نبذة قصيرة عن تاريخ جزيرة (قبرص) قبل التقسيم، وبعده، ولأن هذه النبذة تحتاج إلى جهد زماني لقراءة ما صدر عنها من كتب وهي عديدة، وقد أراحنا الدكتور (يوسف بن إبراهيم السلوم) الذي اطلع على هذه الكتب وقدم لنا ما يروي ظمأ القارئ في كلمة نشرها بجريدة (الجزيرة) هذا نصها:
(تعد جزيرة قبرص مهداً للحضارة منذ القرون الأولى، وهي تقع شرق البحر الأبيض المتوسط على ملتقى قارات ثلاث هي (أوروبا، وآسيا، وأفريقيا)، وتبعد عن سواحل تركيا (40) ميلاً فقط، وعن سورية (60 ميلاً) وعن اليونان (60) ميلاً، وهي توصف ب(الجزيرة الخضراء) لكثرة وديانها، وغاباتها الخضراء، وزهورها، وأشجار الفاكهة المختلفة فيها.
جزيرة قبرص الإجمالية، شماليها وجنوبيها (9251) كيلومتراً مربعاً، وقبرص الشمالية تمثل ثلث المساحة، وثلث السكان، ومعظم سكان (قبرص الجنوبية) من غير المسلمين.
ولسبب موقعها الجغرافي الإستراتيجي تعرضت لغزوات مختلف الأمم منذ العهود القديمة، فعلى التوالي تعرضت للغزو من قبل جيوش المصريين القدامى، والآشوريين، والفرس، والرومانيين، والبيزنطيين، واللوزنياتيين، والبنادقة. (وقد أشرنا إلى دخول الإسلام فيها).
أصبحت الجزيرة في عام 1571م جزءًا من الخلافة العثمانية، وظلت تحت إدارتها حتى عام 1878م، ومن ثم استؤجرت للإنجليز بموجب اتفاقية، وفي عام 1914م ضمت الجزيرة إلى المستعمرات البريطانية بعد أن تحالفت الخلافة العثمانية مع ألمانيا إبان الحرب العالمية الأولى.
وفي سنة 1960م أسست دستور (الجمهورية القبرصية) باتفاقيتي زيورخ ولندن اللتين تتضمنان على طرفي جزيرة قبرص الشمالية والجنوبية حق الاشتراك في الجمهورية بالمساواة السياسية، ونالت الجزيرة استقلالها ووقعت الاتفاقية الأخيرة من الدول الضامنة، وهي تركيا واليونان وبريطانيا.
وظهرت القضية القبرصية (المقسمة) في سنة 1963م عندما أراد القبارصة الجنوبيين (غير المسلمين) إلحاق الجزء الشمالي (المسلمون) من الجزيرة وإبعادهم عن كافة أجهزة الدولة. وبدءوا حملاتهم العسكرية على جمهورية قبرص (المشاركة بعد تأسيس الجمهورية المشتركة) عام 1963م، ونتيجة لذلك أسس القبارصة الشماليون جمهورية أسموها (جمهورية قبرص الشمالية التركية) في عام 1983م ولكن لم يعترف بهذه الجمهورية الوليدة إلا جمهورية تركيا.
وبقيت قضية قبرص معلقة في الأمم المتحدة حتى تم الاستفتاء الشعبي عام 2004م بناء على خطة الأمين العام للأمم المتحدة وكانت نتيجة الاستفتاء ب(نعم) من قبل الشمالية، وب(لا) من قبل الجنوبية، وتبع ذلك قبول جمهورية قبرص الجنوبية في الاتحاد الأوروبي في 1 مايو سنة 2004م، بعد أن فشلت محاولة الأمين العام للأمم المتحدة لإعادة توحيد قبرص مرة ثانية، وخذلان القبارصة الشماليين من قبل القبارصة الجنوبيين نتيجة أخطاء قديمة) انتهى.
كان سكان جزيرة قبرص الشمالية المسلمة إذا قابلنا بعضهم، وبخاصة إذا كان بعضنا يرتدي اللباس العربي، كانوا يبتسمون في وجوهنا، ويرفعون أيديهم بالتحية، ربما تصوروا أننا جئنا إلى جزيرتهم لإنقاذها من العزلة الدولية، وكأنهم أيتام، أو حفدة (حي بن يقظان) و(روبنسون كروزو)، وما دروا أننا مجرد صحفيين بضاعتهم الكلام، فلا خيل لديهم ولا مال، وأنهم لا حول لهم ولا قوة يستطيعون بهما عمل أي شيء من أجلهم، ومن أجل جزيرتهم المعزولة.
أسكنونا في (موتيل) على شاطئ البحر، وكنت من خلف زجاج غرفتي أشاهد عناق البحر بالأشجار والزهور الملونة فيدفعني الفضول النفسي والذهني والسمعي والبصري إلى فتح زجاج النافذة لأرى موج البحر يتقافز موجة بعد أخرى، فتذكرت الأغنية العربية وهي تشدو (الموجة تجري وراء الموجة عايزة تطولها)، وأسمع وشوشات الموج التي تروي حكايات الزمان والمكان، والتاريخ الباذخ لآلاف السنين، حكايات من الغرام والحب والحرب والسلام والجيوش الغازية من كل حدب وصوب في العالم، الجيوش المنتصرة والمنهزمة!!
وكان من أروع المشاهد التي لم أنسها حين نفترش الأرض لأداء فرضي صلاة المغرب والعشاء في الهواء الطلق، البحر من أمامنا والجزيرة من خلفنا حيث كان يؤمنا في الصلاة الشيخ (الحركان) تغمده الله بواسع رحمته، وكان دائماً يرتدي لباسه العربي وغترته البيضاء دون عقال.
قلت من أروع المشاهد التي تجعلني أشعر بالانتماء والإيمان بالإسلام أعمالاً وأقوالاً حين نصطف متراصين خلف إمامنا مرددين (الله أكبر آمين سمع الله لمن حمده) في صوت واحد دون نشاز، ويسبق ذلك أحدنا رافعاً صوته الرخيم بالأذان.
كان السياح الغربيون يتجمعون حولنا يسمعون، ويشاهدون وحدة صف جماعة إسلامية خلف قائد يرتل آيات من القرآن الكريم فيطربون لها، ولإيقاعات لغتها، لكنهم لا يعرفون شيئاً عنها، وبعد انتهائنا من أداء الصلاة وتفرقنا نجد بعض السياح المعجبين بما شاهدوا وسمعوا، وبخاصة كبار السن منهم ينحنون برءوسهم أثناء مرورنا كناية عن تقديرهم واحترامهم.. ألم أقل إنه من أروع المشاهد التي اختزنتها ذاكرتي ولم تبارحها.. وحدثني أحدهم أن الرائع في الأمر هذه المساواة في الألوان، وأن غالبية المصلين هم من الشباب، في الوقت الذي لا يعرف عن الصلاة والذهاب إلى الكنيسة الشباب فقط في الغرب، بل الكبار في السن، وازدادت دهشته حين قلت له: حتى الأطفال في بلادنا يصلون ويذهبون مع ذويهم من الكبار إلى المسجد، فالإسلام يأمرنا إلى دعوتهم للصلاة في السابعة من أعمارهم، وضربهم لأدائها في العاشرة، وتركني بعد أن شد على يدي قائلاً هذه التربية الدينية الصحيحة.


alawi@alsafi.com
ص.ب (7967) الرياض (11472)

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved