الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 27th October,2003 العدد : 34

الأثنين 1 ,رمضان 1424

هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات
من الرياضة.. إلى رئاسة التحرير
بقلم/علوي طه الصافي

في نهاية الثمانينيات الهجرية حين كنت اعمل مساء في مجلة «اليمامة» الأسبوعية.. كنت أقابله حيناً في «مطابع الرياض» بحي المرقب متنقلا بين عاملي «الصف».. و«الاخراج».. او في فناء المطابع حيناً آخر.. او في ردهات مكاتب «اليمامة».. وجريدة «الرياض» اليومية حيث كانت المكاتب مجرد فواصل من «الابلكاش» على سطوح المطابع حيناً ثالثاً. كنت أراه بثوبه المفتوحة «ازرار» صدره.. وعليه علامات من حبر المطابع يداه، وعيناه مشغولة بالأوراق .. يمر بك دون ان يحس بك لأنه، وهو يسير يقرأ ماهو مكتوب على الورق بيد.. وبالأخرى يحمل قلماً ليؤشر على ما يقرأ مصححاً.. أو مضيفاً بعض العبارات.
كان يعمل بكل مدركاته الحسية.. بيديه.. بعينيه.. بعقله.. تحس ان لا وقت عنده للكلام و«طق الحنك».
في احدى الليالي دخل علينا الى مكتب المجلة وسلم الصديق «محمد الشدي» رئيس التحرير اوراقا .. دخل مشغولا.. وخرج مشغولا.. كانت شخصيته مصدرا لحيرتي.. وتساؤلاتي:
أإلى هذا الحد من الاندماج الكلي يعمل الانسان، بحيث لا يُشغل نفسه بما حوله ومن حوله؟
أهو عشق العمل.. ام التفاني في أدائه؟
ام هي الطبيعة، والطبع الذاتيان؟
ومع كثرة الاسئلة قلت في نفسي: لله في خلقه شؤون، وشؤون.. دع الخلق للخالق.. ومن راقب الناس مات هماً وغماً.
ناولني الصديق «الشدي» اوراقه.. لم اجد اسماً عليها.. ثم قرأتها فاذا هي قصة ملفتة للنظر، تعالج قضية انسانية اجتماعية بأسلوب أدبي فني له نكهته الخاصة.. وكان عنوانها يومها جريئا.. فسألت الصديق «الشدي» لمن هذه القصة؟
رد لزميلنا «تركي عبد الله السديري»، وهذه هي المرة الاولى التي اسمع فيها باسمه.. سألته: أهو الذي دخل علينا؟
رد الصديق الشدي: ألا تعرفه؟
قلت أراه يوميا.. وشخصيته تحيرني.. لكنني لم يسبق لي ان قرأت قصصاً له.. وعنوان القصة فيه حساسية.. لا اتذكر نصه الآن.. لكنه يشتمل على «مضغ اللبان».. وهذا فيه ايحاء انثوي، قابل للتأويل الى ماهو ابعد من هذا الايحاء.. ومع ذلك أحرص على الابقاء عليه.. لعلاقته الحميمة بالقصة التي تشبه العلاقة بين «شن».. و«طبقة».. وعندما سألته عن عمله.. اجاب انه المشرف على صفحات الرياضة بالزميلة «الرياض».
من يومها حرصت على التعرف عليه شخصيا فاكتشفت انه ليس بالسهولة معرفته.. والتغلغل في اعماقه بحيث يهيأ لك ان غموض «الصحراء» على سعتها يسكن داخله.. ولانني اؤمن ان لكل شخصية مفتاحها الذي يكشف لك ما لا تعرفه.. فكان عليَّ البحث عن هذا «المفتاح» لشخصية هذا الرجل الصحراوي الغامض.
بدأت المعرفة بالسلام، والتحايا.. وفي احدى اماسي الشهر الكريم «رمضان» دعاني ومجموعة من الزملاء لتناول طعام الافطار، فاستجبت لهذه الدعوة الحميمة.. وحين ذهبنا الى منزله.. وجدت كل ملامح بساطة ابن الصحراء تسيطر على منزله، واثاثه.
وتكررت اللقاءات.. لكن ظل الطابع الرسمي يحكم علاقاتنا.. ومرة كتبت موضوعا ارد فيه على الاخت الفاضلة الأديبة «خيرية السقاف» التي كانت من اوائل الاقلام النسائية المعروفة في المملكة لانها كتبت موضوعاً هاجمت فيه كل الكاتبات الناشئات بأسلوب فيه حدة.. مما أثار حزن الكاتبات.. لم أرد عليها باسمي.. بل اخترت اسماً نسائياً مستعاراً هو «ليلى سلمان»، وكتبنا تحت اسمها «ماجستير صحافة».. وكان اسلوب ردي يحمل روح الحدة نفسها التي كان عليها اسلوب الاخت العزيزة «خيرية».. وعنوانه «العاصفة التي دحرجت القوارير» والموضوع احيانا يقرأ من عنوانه.
فوجئت بموضوع حاد ينشر في جريدة «الرياض» للصديق العزيز «تركي السديري» يشكك في حقيقة اسم «ليلى سلمان» .. قلت في نفسي لعل موضوعه بداية الطريق الموصلة للمفتاح الذي أبحث عنه.. فرددت عليه باسمي الصريح، وفي جريدة «الرياض» التي نُشر بها موضوعه مؤكدا وجود شخصية كاتبة اسمها «ليلى سلمان».. على طريقة «عنز ولو طارت»!
ولأن النقاش بيني وبينه لم يكن له قضية موضوعية.. فأوقفنا النقاش حولها متفقين على انها اذا كانت قضية فهي «صلعاء» ترتدي الباروكة.. لكنني استطعت خلالها التوصل إلى مفتاح شخصيته الغامضة.. فاستأنس كل منا بالآخر.
كل الذي كان يحزنني ان الصديق العزيز «تركي عبد الله السديري» اديب من صلعة رأسه الى اخمص قدميه.. هذا ما كنت احس به.. ثم جاء ليؤكد بنفسه في احد اعداد جريدة «المسائية» المحتجبة.. وبدايته مع الكتاب، والقراءة.. اذن فان عمله في الرياضة كان مجرد منعطف عابر في مسيرة حياته.. او انحراف عن المسير الصحيح.
في احد الايام ذهبنا كفريق صحافي لحضور «مناورة للحرس الوطني» في الصحراء وصادف ان خصصوا خيمة وضعت عليها ثلاث لوحات.. «مجلة الفيصل».. جريدة «الرياض».. جريدة «الجزيرة».. وكان يومها قد اصبح العزيز «تركي السديري» رئيساً لتحرير جريدة «الرياض» التي قفز بها قفزات جعلها من أبرز صحف الجزيرة العربية، والخليج بكل جدارة، وقدرة، واقتدار.
وبعد ان حضرنا حفل شعراء «الرد» وتناول طعام العشاء ذهبنا الى خيامنا ففوجئنا ان لوحة مجلة «الفيصل» التي أرأس تحريرها قد نقلت الى خيمة اخرى فعتب عليَّ الصديق «السديري»، ولم أكن بحاجة إلى توضيح الموضوع لاننا كنا اثناء العودة نسير معاً.. فقال لي أعرفُ سبب نقل اللوحة.. وعرفتُ مَنْ وراء نقلها.. فلا عليك، واذهب الى الخيمة التي تم نقل اللوحة عليها.. فشعرتُ أن من تصرف قد أساء من حيث ربما رأى أنه قد احسن.. لكن عتب الصديق «السديري» اشعرني بطريقة غير مباشرة. بمكانتي في نفسه.
وقد كبر هذا الشعور وتنامى عندما سمع انني سأترك المجلة قال لي بما لا انساه اطلاقا: «شوف يا علوي اذا تركت المجلة فان «الرياض» جريدتك.. ولك ان تأتي وتختار المنصب الذي يناسبك.. ولك ان تحدد الراتب، وتختار المكتب الذي يروق لك.
أمام هذا الموقف الكبير الشهم لم اجد ما ارد به عليه.. لكنني رأيت «السديري» امامي كنخلة سامقة مثمرة من نخيل الجزيرة العربية.. وان في اعماقه بستاناً كبيراً فواحاً بعبير «خزامى نجد».. والرجال مواقف لا مناصب.. وأحسست بالامان لانني لن اترك معشوقتي المزهرة «الصحافة».. وان الدنيا بخير.. وفيها أخيار.
وحين انتقلت المؤسسات الصحافية الى مبانيها الفخمة بحي «الصحافة» ذهبت كزميل مباركاً هذه الخطوة فأبى الصديق العزيز «تركي السديري» الا ان يودِّعني بنفسه الى فناء مبنى «مؤسسة اليمامة الصحفية»، رغم انني لم اعد صاحب منصب.. أما الصديق العزيز «خالد المالك» فلم اجده، لانه كان في اجازة.
وبانتقال أخ الصديق العزيز «السديري» الى رحمة الله ذهبت الى منزله الذي كان يغص بوجهاء المجتمع، واصدقائه الى حد ان بعض المعزين كانوا وقوفاً لضيق منزله بهم على رحابته، وسعته.. فقلت هل اعزي صديقي بوفاة أخيه.. أم اهنئه على هذا الحب الكبير الذي يمثله حشد المعزين.
إنه حب أكبر من كل المناصب.. وأثمن من كل جواهر الدنيا الكريمة، وبلايينها .. حب يسمو على كل الصفقات التجارية الكبرى.. ويتجاوز اثمان حُمُر النعم.. حب لا يُشترى بالمال، ولا بالذهب والالماس.. فقلت في نفسي وانا اشق طريقي الى حيث كان يقف على قدميه مستقبلاً المعزين.. ورادا بالجوال على من يتصل به من خارج الرياض.. قلت في نفسي «بخٍ بخٍ لك يا تركي هذا الحب المتدفق».. وحين وصلت اليه قلت له: انني في حيرة من أمري يا أخي تركي.. هل أعزيك بوفاة اخيك، وهو ما جئت من أجله.. أم أهنئك بهذا الحب الذي يحمله لك هذا الحشد؟ شكرني ثم انشغل بالرد على الجوال الذي لم يتوقف.. ويحرص هو على الرد.
سألت نفسي سؤالاً وأنا أغادر منزله: هل يُقيِّم الانسان مكانه ومكانته عند الآخرين في الافراح.. ام في الأحزان.. أم في كليهما؟
سؤالي لا أميل الى الاجابة عليه.. تاركاً ذلك لتقديرات الناس على اختلاف مشاربهم ونزعاتهم وتوجهاتهم.
أما تركي السديري اليوم فهو واحد من نجوم المجتمع الرسمي، والاجتماعي.. وأحد أعلام الإعلام العربي المؤثرين بحكم شخصيته.. وبحكم مكانة جريدته التي يكتب فيها رموز السياسة، والفكر والأدب من داخل المملكة، ومن اغلب الاقطار العربية وقد خطا بها اخيرا خطوة رائدة جعلها تطبع، وتوزع كل صباح في كل من «بيروت.. ودمشق.. وعمان.. وبغداد».. وهذه ليست إلا بداية الطموح الذي يخطط له بصمت دؤوب .. او الخطوة الاولى في رحلة الالف ميل «كما يقول ماو تسي تونج».
واذا كنا قد خسرناه أديباً، وربما قاصاً وروائياً.. فقد كسبناه كاتباً سياسياً ينطلق من موقف ثابت رغم ألاعيب السياسة، وتقلباتها.. وهو لو قام بجمع ما كتبه في زاويته المقروءة «لقاء» في كتاب لجاء هذا الكتاب تعبيراً، او انعكاساً لمراحل تاريخية عربية يمثل صاحبه فيها شاهداً لهذه المراحل بكل تداخلاتها، ومفارقاتها.
وهو في زاويته لا يختص بالشأن السياسي فقط.. بل يعالج من خلالها قضايا اجتماعية، بجرأة، وموضوعية.. دون ان يتخلى عن الجانب الانساني الذي يشكل الهرم الثالث في كتاباته التي يميل فيها بأسلوبه الى الجمل القصيرة التي لا تثقل على القارىء بملل الاستطراء «الجاحظي».
وهو كصحافي تخرج من معطفه عدد من الكفاءات الصحافية الوطنية.. ومن أبرز معطياته جريدة
«RIYADH DAILY» التي تصدر بالانجليزية .. الى جانب «كتاب الرياض» الشهري.. الذي شكل بعدد الكتب الصادرة مكتبة صغيرة، تتنامى شهرياً لتكون في المستقبل من أبرز ما قدمته الجريدة من دعم أدبي للمكتبة الوطنية.
أصبح الصديق العزيز «تركي عبد الله السديري» اليوم «رقماً» كبيراً.. و«كينونة» مؤثرة.. و«إعلامياً» سعودياً عربياً.. و«مكانة» بعلاقاته الرسمية، والاجتماعية بعد ان كان محرراً صحافياً غيبته «الرياضة» في محيطها الذي لا ينضب سنوات من عمره.
وهذا يعني ان القدرات الذاتية للانسان حين تجد بيئتها تتفجر للإتيان بما لم يتوقعه الانسان نفسه ولو التفت «تركي» اليوم الى الوراء لن يجد مما قدمه من جهود وما أهدره من عرق في سبيل «معشوقة» الملايين كرة القدم فلن يجد خلفه غير «اللهاث» .. و«الغبار» و«الفراغ..
أنا هنا لا أنتقص من مكانة «الرياضة» التي لو غضب عليَّ قلة قليلة من عشاقها لنكون منهم ما يشبه الجيش الذي له بداية، وليس له نهاية.. بل ربما كان جيشا أكبر من جيش «المعتصم».
وإذا لمس أحدهم شيئاً في كلامي هذا ما يمس مكانة «الرياضة» فان مرد ذلك الى «فشلي».. و«جهلي» المطبقين فيها حتى في المدرسة لم اتذكر انني شاركت فيها وكان «المدرب الرياضي» يمنحني «العلامة الدنيا»، لا ادري شفقةً منه.. او لعلمه من أساتذتي الآخرين بتفوقي في كل مواد الدراسة بما فيها «الرياضيات» التي تحسب نوعاً من «الرياضة الفكرية» فالله سبحانه وتعالى اذا حرم احداً من عباده من نعمة، رزقة بنعمة تختلف عن نعمة الاول.
وقد يكون اهل «الرياضة» اكثر حظاً لانهم يكسبون بأرجلهم الملايين.. بينما انا لو رفض رئيس تحرير نشر موضوع لي فسأحرم من المكافأة التي يصرف الرياضي أربعة أضعافها للإقامة ليلة واحدة في فندق.
سامحك الله أيها العزيز «تركي السديري» لهذه «الورطة» التي اوقعتني فيها مع الرياضيين فلتكن شفيعي عند عشاق قلمك الرياضي سابقاً.. وأنا على ثقة انهم يشكلون ثقلاً مهماً ووفياً.. مع عدم معرفتي فيما اذا كنت «هلالياً».. أم «نصراوياً».. أما أنا ف«حنغشعي» واللبيب بالنحت في اللغة العربية يفهمُ.


ص.ب «7967» الرياض «11472»

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved