الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 27th October,2003 العدد : 34

الأثنين 1 ,رمضان 1424

سعدي.. وحيدا..!
لم يكن سعدي يوسف متفرداً في شعره فحسب، بل حتى في مواقفه أيضاً، فبينما اتخذ كثير من المثقفين العراقيين، خاصة من هم خارج العراق، مواقفهم تجاه ما يحدث في وطنهم، على خلفيات ذاتية، أو عرقية أو أديولوجية، أو غير ذلك.. مدفوعين بتجاربهم المريرة، وإحباطاتهم، ومعاناتهم.
تسامق سعدي مثل نخل قريته، فأطل على السواد الممتد ما بين النهرين، أطل على هضبات العراق، على شطيه والجرف والمنحنى.. أطل على صباحات القرى.. عله يرى ما كان يحلم أو يريد، كما فعل درويش ذات وهم، عندما كتب قصيدته أرى ما أريد، لكن المشهد الذي رآه بعين قلبه، لم يكن ليرضي شاعراً متجذراً في ذاكرة الأرض.. ومسكوناً بصوتها القادم من أعماق التاريخ.. مثل سعدي لم يكن ليقبل وطنا مصادرا، أو وطنا بالواسطة، أو وطناً يرسم ملامحه الآخرون.. سيبحث عن أسمائه القديمة، يلم شظايا الفخار المتناثر على ضفة النهر، يقرأ ألواح أوروك.. لا شيء سوى «خمبابا» يسكن هدير النهر، ويزرع الكوابيس في ليل المدينة.. بينما جلجامش يواصل ارتحاله الطويل، بحثاً عن عشبة الخلود.. فهل يعود؟
أطل سعدي من شرفة فندقه البعيد.. فلم ير «السعفة المستحيلة»، لا الحلم الذي خبأه في دفاتره القديمة.. وطاف به مدن وحانات العالم من جلجامش إلى مراكش، لم ير وجهه الطفولي الذي غادره هناك في قريته البعيدة.. على أمل أن يعود.. ربما عندما تكتمل القصيدة.. لكن الطريق مازالت طويلة.. والحلم بعيداً.. والشاعر تائها خلف نايه.. «هل كنت أدري أن وجهي بعدك الطرقات.. أبواباً مغلقة تركت.. ومنزلاً للريح»، ليس سوى هذا العراء المستباح.. فالنخل يحاصره الغرباء، والنهر تسيجه الثكنات.. فكيف يعود.. كيف يقرأ وجه النهر وقد تغيرت ملامحه كثيراً؟
«لم تكن البلاد،
ولم تكن أمواهك الخضراء جابيتي، لقد
خلفتني في قلعة الصحراء. ماذا ارتجي
منك، العشية؟ في الصباح خذلتني، ودخلت
في الثكنات. قلت: الحرب أجمل،
لقد كان لسعدي من المبررات، ما يجعله أول الهاتفين لجيوش روما العائدة إلى بابل، فلا أحد يستطيع أن يزعم ممن فعلوا ذلك تحت ذريعة المعاناة، أو الخلاص.. إنه كان أكثر معاناة منه.. لكنه لم يكن ليفعل، ربما لأنه لم ينظر إلى العراق من خلال عهد مضى، وآخر سوف يأتي.. لقد حمل ألواحه السومرية وطاف مدن العالم.. وكأنه يواصل هذا النشيد الملحمي، الذي ابتدأ من هناك.. عندما تشكلت أول الحروف على هذه الأرض، وعندما تكونت ذاكرة النهر.. من مياه الأساطير ربما كان الوطن، قصيدة سعدي التي لم تكتمل، حلمه المستحيل، عشبة الخلود التي لم يعثر عليها جلجامش.. لكن الرحلة لم تنته.. وها هو يواصل الرحيل، مغمض العينين، تائها خلف نايه:
«أني منشد الطرقات والحلقات
إني الشاعر الأعمى، لدي من الخريف الجهم
موسيقى لألوان. ومن مرأي الغروب غضارة الورد.
وأسأل عنك، أسأل عنك. لكن مثل ما يتساءل الملدوغ
عما حل في دمه، سلاما.. لا أريدك أن ترد..
اقرأ علي الوشل السلام»
لم يجد سعدي ما كان يريد.. ربما مضى عهد من الظلم والطغيان.. لكن ما الذي أتى بعده؟.. هل حل في بغداد العيد.. وهل عاد السندباد إلى طفولته، إلى مدينته القديمة. أم أن أبا الطيب ما زال يتساءل: عيد بأية؛ حال..؟
«وسلام على هضبات العراق..
الذبيحة في العيد، بغداد في العيد
تلك المقاهي، لها الشاي مرا،
وتلك الفنادق، سكانها الأبعدون.
الصلاة أقيمت
صحون الحساء بها مرق من عظام
ومن لحم سحلية
والمساجد مغصوبة الأرض
أبوابها للجنود، مشاة، وبحارة
. . . . .
. . . . .
. . . . .
سلام علي»
كثيرون رأوا هذا المشهد الذي رأى سعدي، لكنه لم يلفت انتباههم ربما لأن المنافي دجنتهم، فنسوا الصورة الحقيقية للوطن.
وكثيرون وجدوا في المنفى جنتهم، فنسوا أسماءهم القديمة، ملامحهم.. فراحوا يبحثون عنها في مرايا الآخرين، كما فعل جمال جمعة، الذي وقف أمام مرآة غربته.. فكتب قصيدته الأعرابي البشع.. في وصف وجهه، وذاته.. من حيث يدري أو لا يدري وكلاهما مصيبة.. إنما تدعو إلى الضحك.
ترى لو شهد الجواهري أو السياب، أو البياني ما يحدث الآن.. هل سيكون موقفهم مختلفاً عن سعدي؟.. أجزم أن ذلك لن يكون.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved