الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 27th October,2003 العدد : 34

الأثنين 1 ,رمضان 1424

ذكريات دمشق وجامعها الميمون
حينما تحب شخصاً «ما».. أو مكاناً.. أو أي شيء آخر من أشياء هذه الدنيا.. ثم يسألك إنسان: ما سبب هذا الحب؟ فإنك لن تجد سبباً محدداً وربما مقنعاً لحبك هذا الشيء. هذه الحقيقة الحياتية المتصلة بمشاعر الإنسان وعواطفه الخاصة أجدني أكتشفها.. بل وأرددها على سبيل الجزم واليقين كلما سألت نفسي.. أو سألني أحد: لماذا تحب دمشق؟
هذه العاصمة العربية التي لم أذهب إليها.. ولم أشاهدها بعيني إلا بعدما أنهيت دراستي الجامعية في منتصف العقد الثاني من العمر.. صحيح أنني قرأت عن دمشق الكثير من المؤلفات الأدبية والتاريخية، وصحيح أنني سمعت عنها ممن زاروها وعرفوها جيداً.. غير أن المشاهدة غير السماع وقديماً قيل«ليس من سمع كمن رأى». كنت قد رسمت لدمشق من وحي قراءاتي على الأخص صورة زاهية فهي عاصمة الأمويين وأقدم مدينة معمورة ومأهولة على الإطلاق.. فيها الجامع الأموي.. هذا الجامع الذي قال فيه الوليد بن عبدالملك «إني أريد أن أبني مسجداً لم يَبْنِ مَن مضى قبلي ولن يبني مَن بعدي مثله» فأنفق فيه أموالاً لا تحصى حتى إن أحد المؤرخين ليقول :« إن الوليد أنفق لبناء الجامع خراج الدولة سبع سنين» لعل الجامع وما أخذه من شهرة تاريخية وروحية هو الذي حرضني على لقاء دمشق.. أو لعل دمشق هي التي دعتني إلى رؤية الجامع الأموي ومشاهدته.. إنني أخمِّن لكنني لا أستطيع الجزم في تعليل حبي لدمشق. المهم في الأمر.. أن حلمي في السفر إلى عاصمة الأمويين قد صار واقعاً.. إنني لا أزال أذكر أول لحظةٍ وطئت فيها قدماي أرض الشام.. كان هذا في الخامس والعشرين من شهر شعبان من عام 1414هـ في ذلك الوقت كان الفصل شتاءً.. غير أن برد الشام لم يكن بالبرد القارس المؤذي.. وهو الذي عرفته وعانيته في صحاري نجد حين يكون البرد قارساً مؤذياً.. والصيف سموماً حارة لافحة.
ما زلت اذكر اسم الفندق الذي نمت فيه ليلتي الأولى.. والصحيح أنني لم أنم ليلتي تلك.. إذ بقيت مستيقظاً أفكر وأسأل: أين سأذهب حين يطل الصباح وتشرق الشمس وكل معلوماتي التي أعرفها عن هذه المدينة هي معلومات قليلة وشحيحة لا ترسم لي طريقا أسير عليه.. ولا توضح لي منهجا أقتفيه..؟
غير أن هذا لم يحل بيني وبين العزم على زيارة الجامع الأموي فهو العلم الأشهر.. وهو الرسم الأخلد.. بل هو الشاهد الصادق الذي يحكي تاريخاً وحضارة وأمة حيث تاريخ الإسلام العظيم في أوجه حضارته.. وحيث الأمة الفاتحة التي حكمت مشارق الأرض ومغاربها.
وإذا كان الأمويون هم أول من أسس دمشق في ظل الدين الجديد«الدين الإسلامي» أواخر القرن الهجري الأول فإن العباسيين وقيام دولتهم العباسية عام 132هـ هم الذين منحوا دمشق شهرةً علمية حتى صارت تلقب حينذاك بمدينة العلماء والعلوم والمعارف.. حملت دمشق هذا الشرف الكبير ليس بسبب الرخاء والترف.. بل أيضا بسبب تشجيع الحكام والملوك للعلم وتقريبهم للعلماء وطلاب المعرفة.
هناك ملاحظة جديرة بالاهتمام.. ربما لاحظها كثيرون غيري وهي بقايا آثار حضارات وشعوب حكمت هذه المدينة.. أو مرت بها.
فدمشق حرسها الله خضعت عبر التاريخ ولفترات متفاوته المدة للآشوريين والأكاديين والبابليين والفراعنة والسومريين والفينيقيين إضافة إلى الدول والمماليك التي حكمتها في ظل الإسلام كالأمويين والعباسيين والنوريين والسلاجقة والزنكيين والعثمانيين.. تعاقبت هذه الحضارات.. وهذه الممالك على حكم دمشق والتأثير فيها تاريخاً وحضارة فأعطتها نكهة خاصة ذات طابع مختلف.. إذ يجد السائح في دمشق جميع الألوان.. ومختلف التوجهات.. ويشاهد من غرائب الأشياء ما يجعله يحرص على العودة إليها مرة أخرى ويجدد العهد معها.. ولهذه الميزة أيضا حرص الاستعمار على احتلالها وضمها إلى حوزته.. فلم يخرج الاستعمار إلا في أواخر عام 1920م بعد قيام ثورة عارمة في أنحاء البلاد عرفت باسم الثورة السورية الكبرى.. ولدت من رحم هذه الثورة جمهورية سوريا العربية.. ولا تزال..
ولا أريد لرحلتي الأولى هذه أن تتحول إلى سرد تاريخي للمدينة التي أحببتها، فللتاريخ رجاله وأهله.. إنما أريد العودة بالذاكرة إلى ما قبل ثمان سنين خلت.. وهل تنسى ذاكرة المحب تفاصيل لقائه الأول بمحبوته؟ كلا والله..
تجولت في صحن الجامع الأموي حيث الحمام آمن كما هو حال حمام مكة الآمن في ساحة المسجد الحرام..
وإن الناظر إلى الجامع وما فيه ليشعر أنه لم يبق إنسان إلا وهو في الجامع أو هو في الطريق إليه فالناس صغاراً وكباراً نساءً ورجالاً يتوافدون إلى داخل الجامع فما اشتكت أبوابه الثلاثة ازدحام الوافدين.. بل أصبح هذا الجامع ملتقى الأحبة والأصحاب فهذا إنسان ينتظر آخر.. وآخر يتلفت وينظر كأنما هو يبحث عن شخص وعده بالمجيء. إنك لن تضيع.. ولن يضيعك أحد حينما يكون موعد كما الجامع الأموي.. تحت القبة الشرقية أو عند المنارة الغربية حيث معتكف الإسلام أبو حامد الغزالي أو عند الباب المطل على سوق الحميدية.. أقدم أسواق الدنيا وأروعها.
فما أعجب هذا الجامع الذي قطعت على نفسي وعداً ألا أمر بدمشق إلا مررت به.. شوقاً أجده في قلبي.. ورغبة تلح على وتدعوني إليه..
ربما أنسى أشياء كثيرة بيد أن زيارتي الأولى لدمشق لا يمكن لي أن أنساها.. بل انها لذكرى تؤرقني كلما خطرت أمامي.. فيخفق لها القلب.. وتشخص نحوها العينان.. وهنا تتحفز الروح المتوهجة لتعيد طرح السؤال الحائر: لماذا أحببت دمشق؟ غير أن العاشق يطرق برأسه إلى الأرض يبحث عن جوابٍ غائب.. فلا يجد غير الصمت يلوذ به.. ولطالما بالصمت لاذ المحبون فأراحوا غيرهم من حمل الهوى.. واستراحوا من الإجابة على سؤال يمتد غائراً في أعماق الروح.


بدر عمر المطيري

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved