الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 27th November,2006 العدد : 178

الأثنين 6 ,ذو القعدة 1427

إشكالية التفكير
صناعة الضرورة نموذجاً
أحمد بن علي آل مريع

الأفكار العامة:
* كل حضارة تفرز ضروراتها وحلولها من واقع أنظمتها وقيمها
*العقل الفقهي الجبار تجاوز الواقع ومسائله إلى الخيال واقتراح حلول أخلاقية لإشكالات افتراضية
* يمكن تشخيص أزمتنا في ثلاث كلمات: أننا نصنع الضرورة؛ لأننا لا نود أن نكون غير مضطرين
* أحوجتنا ثقافة الاستهلاك إلى ترك المبادرات وتعطيل التفكير مما أفضى بنا إلى عالم تحاصره الضرورات ومن ورائها سيل من احتياجات لا خيار دون إشباعها
* وإنَّ اتساع دائرة الضرورة في أية أمة من الأمم تنبئنا أن هنالك خللا ما؛ فتكاثر الضرورات يعني العجز عن صناعة الحياة وفق القيم التي تؤمن بها الأمم
* ظلت حواراتنا تدور في حلقة مفرغة بين بندولي: (الرفض) (والقبول) ولكن لماذا لم تذهب الآراء لما هو أبعد؛ بعد أن تم تكييف الموضوع وتصوره ؟!
من أبرز خصائص الحضارات أنها تقترح نظامها من واقع قيمها وثقافتها؛ وكل نظام يفرز في تعاطيه مع الواقع عددا من الإشكالات والحلول من داخل الوعي القيمي والثقافي ذاته؛ والحضارات في سيرورتها التاريخية وتعاملها مع اليومي والسياسي والاقتصادي والإعلامي والسيادي والثقافي تفرز في معية ذلك التعامل ضروراتها الغالبة، التي تضطر بطبيعة الحال إلى التآخي معها بادئ الأمر؛ ريثما تبعث من وعيها وفهمها لنسق العلاقات من حولها: الحلولَ الناجعة التي تقلب الضرورة إلى مصلحة وممارسة مقننة!! وهذه طبيعة العلاقة بين الإنسان والنظم مع الحياة والكون والأشياء، فإن للأشياء والعلاقات التي ينشئها الإنسان والفجوات التي يجسرها أنساقًا موضوعية تفرض نفسها عليه وعلى الحضارة التي يمثلها عند التعامل معها. وكذلك كان الواقع الحضاري في الحضارة الإسلامية إبان نهضتها فقد كانت في تعاطيها المادي والواقعي مع الحياة تأوي إلى الشريعة الإسلامية كمرجعية أخلاقية وعقدية وتنظيمية؛ ولذلك أفرزت هذه الحضارة كثيرا من الحلول الأخلاقية لعدد واسع من الإشكالات سواء على الصعيد الإنساني أو اليومي أو الفني أو المالي....إلخ.
كانت تلك الحلول تتوافق مضمونا وشكلا مع القيم التشريعية الإسلامية دون أية تناقضات، وبما أن العقل الفقهي الجبار كان المرجع الأبرز في التعاملات المجتمعية؛ فقد كان الفقهاء وتلاميذهم يقترحون عددا من النماذج التاريخية والتطبيقية الفاعلة (كمثال أوجدوا نموذجا تاريخيا منذ فترة مبكرة يراعي الخصوصية الإسلامية في التعاملات المالية؛ عرف منذ أواخر القرن الأول الهجري بالسفتجة، وهي نوع أو نواة من التعاملات المالية... إلخ) بل تجاوز الأمر بهم إلى اقتراح عدد واسع من الفرضيات غير المتحققة في عصرهم، بل إن بعضها يصعب تصوره اليوم في عصرنا؛ وما ذلك إلا صورة حقيقية لما ينبغي أن يكون عليه الوجود الفاعل للعالم والمثقف الذي يسبق إلى معالجة احتياجات مجتمعه، وتجسير الفجوة بينها وبين الناس، ويصنع هذه الجسور من المادة التي يرتئيها، وبالطريقة المناسبة والمنسجمة للعبور أيضاً وفق ما يقره من القيم والأعراف والفرضيات..
غير أن واقعنا الحضاري اليوم برغم الاستقرار وانتشار أسباب المعرفة، وتزايد المؤسسات والمجامع والجامعات يقرر غير ذلك، ويمكن تشخيص أزمتنا في ثلاث كلمات: أننا نصنع الضرورة؛ لأننا لا نود أن نكون غير مضطرين. لقد أحوجتنا ثقافة الاستهلاك إلى ترك المبادرات وتعطيل التفكير، ودفعت بنا إلى حالة من الاستسلام والسلبية تجاه الجديد والوافد، أو الاجترار للقديم والركون إليه دون تفعيله والبناء على قواعده، وهذا ما جعل واقعنا يُسوَّق لنا بكيفية لا نألفها لأننا لم ننتجها؛ مما أفضى بنا إلى عالم تحاصره الضرورات ومن ورائها سيل من احتياجات لا خيار دون إشباعها.. واسمحوا لي بالتعرض لنموذج أشرح من خلاله هذه المشكلة الحقيقية!! هذا النموذج هو التأمين.. وردود الأفعال حوله في السعودية الفترة الماضية؛ فالمشكلة برأيي لا تكمن في التأمين نفسه، ولكنها تظهر اليوم في صورة التأمين كما ظهرت من قبل في غيره وستظهر في كثير من الأمور مستقبلا، وسيظن بعضنا أنها شبكة من المشكلات المتتالية بينما الواقع أنها مشكلة واحدة ستظل ملازمة لنا اجتماعيّاً ما لم نسع (نحن فقهاء ومتخصصين ومثقفين وطلاب علم وأفرادًا) إلى تفهم وجه التحدي الحقيقي في عصرنا وطبيعة احتياجاتنا ومسألة خصوصيتنا، ونعمل على تجاوز عقلية الارجاء والانتظار إلى مرحلة المبادرة والاقتراح.
نحن بحاجة ماسة إلى تفعيل المنهج والخصوصية حتى نستطيع كأمة وكوطن تقديم مشروعنا المتوافق مع المتطلبات التنموية المحلية والدولية والسوق العالمية، التي يزداد ضغطها من حولنا يوما بعد يوم، سواء في التعليم أو الإعلام أو السياحة أو الاقتصاد، أو طريقة التفكير والمعالجة أو الآليات والبدائل؛ حتى لا نضطر تحت إلحاح الحاجة التي لا ترحم والواقع العالمي الذي يزحف كل ثانية ليقرر شروطه وسط عجز أو تباطؤ اجتماعي أو اقتصادي - لا قدر الله - إلى دفع فاتورة باهظة من لحمتنا أو قيمنا أو مكانتنا أو.. أو.. أو أوراقنا النقدية - على أقل تقدير. لننظر مثلاً لمسألة التأمين بما أنها المسألة المثارة حالياً وكيف ذهب بعضنا إلى التعامل معها ك(نازلة) ونحن في عام2006م بالرغم من اتصال المجتمع الإسلامي بها من فترة طويلة، فالعلامة ابن عابدين (متوفى 1252ه -1836م) (قبل 175سنة هجرية -170سنة ميلادية) أشار إلى إحدى صيغ التأمين المسماة ب(السوكرة) في حاشيته الفقهية المشهورة، وأصدر العلامة عبد الرحمن قراعة مفتي الديار المصرية أول فتوى فقهية صدرت بخصوص التأمين - بحسب ما اطلعت عليه - وكانت في عام 1343ه 1925م (قبل 84 سنة هجرية حدود 81 سنة ميلادية) ثم توالت الفتاوى على امتداد العالم الإسلامي وفي مجامع الفقه وأروقة الجامعات والصحافة وإصدارات الكتب على امتداد القرن الميلادي المنصرم وبدايات هذا القرن، ومع هذا لم نقدم للأسف تصورًا تطبيقيّا واحدًا يمكن إحلاله بديلاً عن صور التأمين التجارية المطروحة في الساحة يكون له إمكانات وفاعلية النموذج التأميني الغربي.
ظلت حواراتنا تدور في حلقة مفرغة بين بندولي: (الرفض) (والقبول) أو (الحلِّ) و(الحرمة) وهو موضوع له أهميته ولا شك، ولكن لماذا لم تذهب الآراء لما هو أبعد وأنجع بعد أن تم تكييف الموضوع وتصوره ؟! لماذا توقفت أكثر الكتب التي عالجت الموضوع عن اقتراح المخرج والحلول الممكن تطبيقها واقعًا التي تتلاءم وعقلية السوق العالمي ؟!! أين هم أكاديميو الاقتصاد الإسلامي عن تفعيل تخصصهم قبل أن تقع الفأس في الرأس ويكون التأمين (قضية نازلة)، كما كانت البنوك بصيغتها المصرفية الغربية في الأمس القريب ؟! لماذا تكون حواراتنا حقولاً من جليد لا يبلغ صوت الواحد منا إلى صاحبه إلا بمقدار ما ينتصر فيه إلى نفسه ؟!! أين المراكز العلمية عن المستجدات (عفوا التي كانت مستجدات) قبل أكثر من (175) عاما التي كانت آخذة في فرض ذاتها مع كل إشراقة شمس، حتى أصبحت اليوم من الضروريات بل والممارسات اليومية الاعتيادية التي لا غنى عنها: إن دائرة الحرج تتسع كلما عجزنا عن استخدام عقولنا وتقوقعنا على ذواتنا، وبالمقابل فإن دائرة الحرج تضيق حتى تنزوي بعيدًا كلما ثقفت عقولنا مقاصد الشريعة وابتكرنا السبل المناسبة وأوجدنا الحلول السليمة. وإنَّ اتساع دائرة الضرورة في أية أمة من الأمم تنبئنا أن هنالك خللا ما؛ فتكاثر الضرورات يعني العجز عن صناعة الحياة وفق القيم التي تؤمن بها الأمم، ويعني أيضاً ضياع الاختيار أمام ضرورة الرضوخ والتجاوب.
لماذا صرنا مستهلكين حتى لضروراتنا، ولماذا فقدنا السيطرة على صناعة حياتنا حتى أصبح الآخرون ولهم كل الحق، هم من يصنع حياتنا وفق مصالحهم؛ لماذا أصبحت خياراتنا الاستراتيجية ترجيعا لأفكار لم تجد نفعا في السنين الماضية؛ لماذا ارتبطت الصورة الذهنية لطالب العلم لدينا، والصورة الذهنية للشيوخ الأجلاء الذين تقف الطير على أكتافهم سكينة ووقارا بالمنع والرفض في حين كانت صورة الأسلاف مرتبطة بصورة مشرقة جليلة ترمز للتفكير وحلّ المعضلات، ما زلت أذكر ذلك المتحدث الذي أزرى ذات يوم على المثقف/الفقيه، وعلى كتب الفقه إكثارها من الفرضيات غير المتحققة في عصرها، من مثل هب أن كذا كان كذا فما الحكم، ولو أن فلانًا توهم كذا فبان الأمر كذا فما الحكم... إلخ هذه الصور الافتراضية التي تعرض بصيغ مختلفة في كتب الفقه ومناظرات العلماء ومحاورة الشيوخ مع تلاميذهم!! ولو علم وفطن وراجع نفسه؛ لوجد أن ذلك أدعى لاحترام الفقهاء الذين لبوا احتياجات عصرهم؛ ثم قعدوا يتأملون الوقائع ويتصورون صورا خيالية لاتجاهات وأحداث ووقائع وحاجات لم تقع تحسبا لها ودفعا لغوائل الضرورات، ومحافظة على تماسك الرأي والفكر.
إنَّ ديننا مكينٌ متين، وشرعنا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه جاء ليبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وليمكننا من الحياة النافعة المنتجة والبقاء الشريف القوي تحت أشعة الشمس وفي مقدمة ركب الحضارة. نحن بحاجة إلى أن نعي عصرنا وحاجاتنا ونحدد أهدافنا ونستنطق ما بين أيدينا من ميراث وخبرات ونحث السير فقط؛ فقد سوَّفنا وأجلنا وأملنا ما فيه الكفاية.. ثقوا وتيقنوا أن أوطاننا وأمتنا بحاجة إلينا كما نحن محتاجون إليها.. فهل نحن عاملون؟!
** ورقة ألقيت ليلة الأحد3- 8 - 1427هـ ضمن فعاليات أسبوعيات المجلس الثقافي لصاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز أمير
منطقة عسير.


* باحث وأكاديمي سعودي أبها - السعودية
aaljooni@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
أوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved