الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 27th November,2006 العدد : 178

الأثنين 6 ,ذو القعدة 1427

الإمام محمد عبده.. ولادة المثقف الحديث (8-13)
التطور المتدرج - الأزهر
د. عبدالرزاق عيد

إن الرهان على قانون التطور المتدرج كان ثمرة الحكمة التي آل لها مشروع الإمام، هذا القانون الذي سينتج ذاته متحققاً في أسلوبية الإمام ذاته، وهو يعبر بين حدي الترسيمة (الكونتية) الوضعية، وهي تنوس بين راديكالية تمجيد الرأي الشخصي والتفكير الفردي الحرّ المندفع بحماس راديكالي شاب نحو المثل العليا أخلاقياً على المستوى الفردي، لكنها قد أسقطت كل هالات التقديس عن الماضي وضعياً من خلال إشعاعات الكونتية، واجتماعياً على مستوى الإصلاح والنهضة للأمة والمجتمع، وذلك الخط تمثله مثل أوروبا القرن التاسع عشر، والخط الثاني الواقعي يتمثل في هذا الواقع المنحط، الذي لم يتح للمجتمع أن يعرف حقوقه خلال عشرين قرناً من الظلم والاستبداد، وهو ما يتمثل في المكونات الفكرية والثقافية التراثية الإسلامية والقومية، ومن ثم ممكنات التوفيق بين هذين الخطين، تلك هي أولى الالتماعات النيزكية لسقوط المقدس عن التاريخ، عندما لا ينظر له نظرة (ظَفرَوية: دينية أو قومية) تنوِّه بتاريخ نقي للذات لم يتلوث أبداً بوسخ التاريخ وزبل تناقضاته!
كونت نظر إلى النخبة في قيادة الثورة الفرنسية وهي تهدم نفوذ الإكليروس، بوصفها قوة هدامة لمدنية النظام الاجتماعي، فإذا كانت ترسيمة كونت التطورية القائمة على الانتقال من (الميثوث) إلى (اللوغوس)، من اللاهوت إلى العلم، تشده إلى النظر بإعجاب وتفاؤل إلى قوى تقويض الإكليروس، لكن فعل التقويض هذا بدا لكونت أنه كان يقسم المجتمع ويمزق وحدته الإرادية ومصالحه المعاشية وأفعاله الاجتماعية، فكان ? والأمر كذلك - لا بدّ من إيجاد نظام مفاهيمي يتأسس على (التوافقات) التي يقبل بها الجميع؛ لأنها معبرة عن توازن مصالح وأفكار الجميع.
هذا النظام المفاهيمي كان يستدعي تجسيده في رموز وطقوس دينية، وحراسته على يد عدد قليل من ذوي العقول المختارة التي أُعدت وفقاً لنظام رفيع من الانضباط والتعليم للبحث في القضايا المعقدة جداً والمختلطة اختلاطاً كبيراً بالشهوات البشرية أي قيام سلطة روحية جديدة تشرف على نظام تربية يعتمد الأساليب العقلية المستخدمة في العلوم الطبيعية والرياضيات؛ أي التأسيس لعلم اجتماع عقلانيّ قادر على التأسيس لنظام أخلاقي، ونشاط اجتماعي؛ مما يجعل منه علماً للسعادة البشرية. ولعل هذه التصورات التي تسعى إلى عقلنة النشاط الروحي أي علمنة اللاهوت، من خلال البحث عن علامات التوافق بين الدين والعلم، تلك العلاقة التي فككها بل قوضتها الحداثة، من خلال الفصل بينهما مثلما فصلت بين الدين والسياسة وفصلت بين السلطات، وأنتجت استقلالية الحيزات المشكلة للمجتمع المدني والمجتمع السياسي، التي هيأت بمجموعها للدستورية الديموقراطية التي ستكون خاتمة مطاف المسيرة العقلية والسياسية للإمام.
هذه الترسيمة العامة لوضعية (كونت) وهي تصوغ تصورها لعلاقة هذه الحيزات، وتراصفها، وتجاورها، في المجتمع الصناعي الرأسمالي الحديث، كانت تلائم مشروع محمد عبده في تأويل الإسلام بما لا يتناقض مع العصر الحديث، والذي مؤدى هذا المشروع الفكرة القائلة: إن الإسلام دين عقلي كما يتأوله الإمام أخلاقياً وفلسفياً، فإذا كان الأمر كذلك فهو - إذن - لا يناهض العلم، ولا يرفض التقدم، ولا ينبذ التطور، بل هو يمكن أن يكون أساساً روحياً وأخلاقياً للحياة الحديثة، وأن النخب التي تكونت في المدارس الجديدة وما تلقته من علوم حديثة، لا تتناقض مع جوهر الإسلام.
لقد كان شاغل محمد عبده أن لا يشكل فكر الغرب حالة استلاب للنخب الحديثة التي تكونت في المدارس والمعاهد الجديدة؛ لكيلا تنقطع النخبة عن علاقتها بمجتمعها، من خلال تغربها وانعزالها داخل ثقافة غريبة عن المجتمع.
إذن - وكما أسلفنا - فقد كانت الإشكالية النهضوية التنويرية الدستورية الديموقراطية لمحمد عبده في علاقته بالغرب، ليس إقناع المحافظين بأن الإسلام لا يتناقض مع العصر، فلا يكفي الخوف على إسلامهم كما كانت إشكالية الطهطاوي، بل إقناع الشباب الحداثيين بأن الإسلام لا يتناقض مع العصر، ينبغي الخوف من حداثتهم وانتمائهم التغربي للعصر، إذن كان يخشى أن تتغرب النخب عقلياً واجتماعياً، وهي في الآن ذاته كانت أمل الإمام بمستقبل مصر الحديثة، فمراهنته على تلك الأجيال التي تتلقى علوم الغرب، وهي المعوَّل عليها في بناء مصر وقيادتها نحو الانخراط في العالم الحديث بما يتلاءم وآفاق المشروعية الدستورية التي شكلت برنامج الإمام؛ ولذا كان يريدها ملتصقة بهويتها وأناها الحضارية وذاتيتها الثقافية لتبقى محبة لمصر الوطن والتاريخ والحضارة؛ أي أن اهتمامه كان منصرفاً إلى هذه الأجيال فأراد لها ثقافة إسلامية، ووعياً وطنياً، يشدها إلى أرضها وأهلها بعد أن يئس من دور المؤسسات التقليدية وفي مقدمتها الأزهر، ومن إمكانية المراهنة على مستقبل مصر الحداثي الديموقراطي من خلال ما يخرجه الأزهر، الذي بلغت درجة رفضه ويأسه العلمي والفكري من الأزهر أن راح يشمئز من دوره إلى درجة الشتيمة.
تكنيس الدماغ من وساخة الأزهر - الداروينية الاجتماعية، ففي حوار له في مجلس إدارة الأزهر مع زميل له في المجلس هو الشيخ محمد البحيري الذي يقول: إننا نعلمهم كما تعلمنا.
الأستاذ الإمام: وهذا ما أخاف منه!!
الشيخ البحيري: ألم تتعلم أنت في الأزهر، وقد بلغت من مراقي العلم وصرت فيه العلم الفرد؟
الأستاذ الإمام: إذا كان لي حظ من العلم الصحيح الذي تذكر، فإنني لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من وساخة الأزهر، وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريد له من النظافة؟!! (الأعمال الكاملة - ج3 - ص 194).
إذن بقدر ما كانت قضاياه قضايا الفكر الإسلامي وكيفية الاجتهاد والتأويل ليجعل الإسلام معاصراً لزمنه، فإن قضايا أوروبا القرن التاسع عشر - كما أشرنا - كانت قضاياه، وبخاصة القضية الأكثر إشكالية بالنسبة لمشروعه الإصلاحي، وهي قضية الدين والعلم، وإشكالية الثابت (الدين) وعلاقته بالمتحرك (العلم)، وهل يمكن أن يلتقيا دون التضحية بأحدهما أو كليهما معا!؟ لقد اطلع على الفكر الغربي وقرأ مترجماته بنهم، قبل أن يتعلم اللغة الفرنسية في النصف الثاني من حياته، وكانت معظم قراءاته للفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر تنصبّ على أعمال الفرنسيين والإنكليز الذين كان يتحكم بمنظورهم البحثي، تطبيق مناهج العلوم الطبيعية على الطبيعة البشرية والكون والمجتمع بأكثره؛ فتعرف على الداروينية الاجتماعية من خلال سبنسر، ومن خلال (والفريد بلنت)، الذي فقد إيمانه الكاثوليكي على أثر مطالعته كتب داروين، وكان (بلنت) أقرب أصدقائه الإنكليز إليه، لكنه ظل محتفظاً ببقايا حنين إلى (مسيحية تطورية) يسهل عليه الإيمان بها، وكان لصلة الإمام ب(بلنت) أثرها في تعرفه على رينان وسبنسر وفكرتهما عن عجز المسيحية عن الصمود أمام اكتشافات العلم الحديث والمفاهيم الحديثة لقوانين الطبيعة والتطور الذي سيغدو حجر الزاوية في رؤية محمد عبده الإصلاحية.
ويبدو أن تطوير منظومة الإمام جعله يملك حساً تاريخياً عالياً بدرجة نضج اللحظة التاريخية المعاشة، ولكونه مصلحاً فلم يكن ليسمح لاندفاعات اللهب البركانية داخله بأن تتعدى منسوب الوعي العام السائد الذي يتطلع إلى تغييره، لكن عبر التدرج واستعداده للرقي؛ ولهذا كان يحاول أن لا يظهر تأثره بالفلسفة الطبيعية بداروين وسبنسر، قبل أن يتأثر بشبلي شميل (1860-1917)، ومثال ذلك أنه ردّ على شيخ الأزهر عبد الرحمن الشربيني الذي اتهم محمد عبده بأنه يريد إصلاح الأزهر في ضوء فلسفة سبنسر، قال الأستاذ الإمام ساخراً: (مَن أين جاء للشيخ لفظ سبنسر... وأي مبدأ من مبادئ سبنسر دخل في الأزهر؟) - الأعمال الكاملة - الجزء الثالث - ص 189.
إلا أنه في سياقات وظروف أخرى كان يبدي رأيه صراحة بهذين العالمين (داروين وسبنسر) معرباً عن قناعته بأن ما جاءا به هو حق لا يتعارض مع الإسلام، يقول: (يظن بعض المتطلعين على علم السنن في الاجتماع البشري أن تنازع البقاء الذي يقولون إنه سنة عامة هو من أثر الماديين في هذا العصر... وأنه مخالف لهدى الدين.. ولو عرف من يقولون هذا معنى الإنسان أو لو عرفوا أنفسهم لما قالوا ما قالوا).
إن فكرة سبنسر عن عجز المسيحية أمام العلوم والتطور كانت تتلاقى مع النظرة الإسلامية إلى المسيحية القائلة بالنبوة البشرية للمسيح، وليس بألوهيته وفكرة التثليث التي اخترعها حواريوه، كما اخترعوا وحوروا طبيعته البشرية وتعاليمه النبوية. لقد قبل محمد عبده هذه الأفكار الطبيعية التطورية، لكنه لم يستطع تقبل النقد المادي الراديكالي للأفكار اللاهوتية التي تبلغ حد النظرة إلى الدين بأنه نتاج حي للمخيلة البشرية وإلى الإنسان بوصفه (ذروة الكون) حسب نظرة رينان أو نظرة سبنسر الذي اتصل به عن كثب؛ بأن ثمة قوى مجهولة تتجلى في قوى الطبيعة وفي مختلف تحولاتها وتشكل (الحقيقة الأساسية الكامنة وراء جميع أشكال الدين). لقد تأول محمد عبده إسلاماً جديداً يدور بأحكامه بدوران الزمان، مستجيباً بذلك مع قوانين تطور العقل البشري التي تتجدد أسئلته بتجدد أزمنته وتجدد الاكتشافات العلمية، مستنداً بذلك إلى فكرة أن (الإسلام دين فطرة)، ودين بداهة العقل واستجاباته تجاه ما يجدّ حوله، محتفظاً بمكانة خاصة للألوهة المنزهة الجديرة وحدها بالعبادة البشرية والأساس الثابت للأخلاق الإنسانية؛ (إذ ليس بإمكاننا معرفة أي شيء عن الذات الإلهية؛ لأن عقلنا ولغتنا البشريين غير كافيين لاكتشاف جوهر الأشياء). وأن الإسلام - بالضدّ من المسيحية كما سندرس لاحقاً - دين عقلي يسمح للمسلمين بأن يقتبسوا علوم العالم الحديث دون اعتناق المذهب المادي أو الخروج على دينهم.


abdulrazakeid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
أوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved