الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 27th November,2006 العدد : 178

الأثنين 6 ,ذو القعدة 1427

اغتيال بهجة
د. رضا صالح خليفة- السويس
قبل الذهاب لرحلة العمرة؛ اقترض 100 جنيه من زميله في العمل بالقسم الوقائي، لاستخراج جواز السفر. في الطريق إلى الجوازات قابله أحد المحتاجين، أخبره بأن ابنته توفت ويريد أن يقوم أولاد الحلال بالواجب، أخذه وازع أصيل لحب الخير؛ قام بالواجب، وأجل ما كان مقدماً عليه..
كان قد اقترب من الستين ولم يسبق له أداء مناسك العمرة أو الحج، يوماً ما قابل زميله الذي حدثه عن فرصة للعمرة بأقل التكاليف؛ امتلأت روحه بالأماني وتعلّق قلبه بالطواف حول الكعبة وزيارة مسجد الرسول الكريم..
ظل يفكر في مصروفات الرحلة الحجازية التي تتوق نفسه إليها منذ سنوات، لم يترك له الغلاء ومصروفات المدارس وتكاليف ابنه الذي التحق بالجامعة؛ لم يترك له فرصة لالتقاط الأنفاس..، وها هو على وشك التخرج، ابنته صفاء التي تسارع أمها في تجهيزها للزواج، حاول أن يدبر أموره بأقل التكاليف، قام بالحجز بالدرجة الأخيرة؛ على السطح، ولكنه خاف من تقلبات الجو، في اليوم التالي أخبرة زميله بأن يذهب لاستلام مكافأة من العمل؛ لم يكن متوقعاً أن تأتي في هذا التوقيت بالذات؛ فرح فرحاً طاغياً.
في اليوم التالي ذهب إلى مقر الشركة؛ وطلب تغيير الحجز من سطح إلى الدرجة الثالثة؛ بعد أن تسلم المبلغ بيديه، وكانت سعادته غامرة. طلبت منه زوجته أن يقرأ لها الفاتحة في البيت المعمور، وطلب ابنه سامي أن يقبل الحجر الأسعد، ولا ينسى إحضار ساعة يد له، أما ابنته فلم تطلب منه شيئاً سوى أن يدعو لها في الحرمين وأن تكون أول المرحبين به في العودة إن شاء الله، ولم تطلب منه شيئاً آخر، فهي تعرف أنه اشترك في جمعية ليتمكن من تجهيز نفقات العمرة، يوم السفر ذهب مبكراً إلى الميناء - مع زميله - حاملاً حقيبة ضخمة بها أصناف من الطعام والقليل من الملابس كما نصحوه.
***
في الميناء أشار أحدهم إلى طابور طويل من المسافرين كان عليه أن يقف فيه ليحصل على تأشيرة المغادرة، اتجه إليه، وجد أول الطابور في حجرة صغيرة تجاورها مجموعة من الحجرات، بالقرب من الباب يوجد صندوق للقمامة، وقد انتشرت حوله نفايات تكاثر حولها الذباب.. وقف فترة في ذيل المنتظرين، أنهكه الحر وبانت على وجهه قطرات العرق. يتحرك الطابور ببطء، فرح لقرب حصوله على التأشيرة الرفيعة، كان الضابط يحمل رتبة نقيب، يأخذ الجواز للاطلاع عليه ويختمه، عندما جاء دور صابر؛ أخذ النقيب جواز سفره في يده، في تلك اللحظة؛ دق جرس التليفون دقات متتالية؛ رفع النقيب السماعة وانشغل بالمكالمة، فجأة وضع السماعة وترك الجواز في درج المكتب، وخرج من الحجرة مسرعاً...
***
توقفت الحركة في الطابور، ارتفعت الجلبة واللغط، بعد قليل دخل الحجرة ضابط آخر يحمل فوق كتفه رتبة رائد ودخل وراءه مساعد؛ بعد أن أخذ وضعه على المكتب؛ تفحص وجوه الحاضرين وأمر بإخراجهم من الحجرة، قام مساعده بزحزحة الواقفين إلى الخارج، وبدأ في إدخالهم فرداً فرداً.
كان الدور على صاحبنا، نظر إليه الرائد وزعق في وجهه:
أين جوازك؟
أخذه الضابط قبل سيادتك، تركه في الدرج..
اسمه الضابط ؟!!
سكت صاحبنا متأملاً مبهوتاً...
اسمه الباشا يا بني آدم..
حاضر.. حاضر يا باشا
أمسك بالجواز من على المكتب ونظر فيه وقال: اسمك صابر؟
نعم
تعمل في القسم الوقائي؟
نعم..
تعمل إيه؟
في قسم التطهير والملاريا يافندم..
رمى الضابط جواز سفره في الدرج، ونظر إليه آمراً:
أريد تطهير هذه الحجرة ورشها حالاً يا صابر
يافندم الوقت...
قاطعه الضابط قائلاً:
وقت إيه يا بني آدم؟ أنت دخلت الجيش؟
نعم يافندم
يعني أنت تعرف ان الجيش قال لك تصّرف
أصل يافندم...
لا أصل ولا فصل؛ هيا بسرعة.. عفريت يشيلك من هنا وعفريت يجيبك للميناء...
طيب أريد أن أخدمك, ولكن الوقت لا يسمح وأخشى أن تفوتني الباخرة..
اسمع... هي كلمة واحدة؛ كان زمانك خلّصت المأمورية..
***
خرج صابر من الطابور وهو يجر قدميه عاجزاً عن فعل أي شيء، في الحال شجعه زميله على الاتصال وعمل اللازم؛ وفق في العثور على كابينة تليفون؛ وتحدث منها إلى زميل له في العمل، وافق الزميل على القيام بالمهمة بعد أن وعده صابر بإحضار هدية قيمة له من الأراضي الحجازية؛ حتى يلحق الباخرة.
بعد قليل حضر رجلان كل منهما يحمل أسطوانة ثقيلة على كتفه يتدلى منها خرطوم في نهايته مبسم يتناوله العامل ويقوم بالرش به..
توقف الطابور لفترة حتى يتم عمل اللازم، وجَّه المساعد كلامه إلى الجمهور قائلاً: ابعدوا يا إخواننا.. فيه شغل
قام بإزاحة الطابور بكلتا يديه حتى لا يغضب عليه الضابط، وجد مقاومة واعتراضاً من بعض الواقفين وقد فوجئوا بمنظر الرجلين اللذين بدآ في رش الحجرة؛ وقال مكملاً كلامه:
اسمعوا الكلام أحسن لكم...
تأفف الناس من تلك الرائحة البغيضة؛ وخاف آخرون من التسمم، وتفرقوا حتى تنتهي هذه المهمة التي كانت مثار استنكار وقرف من المسافرين، وقد أعياهم الوقوف والحر وتسربلت ملابسهم بالعرق.
لم يهدأ الباشا إلا بعد رش الحجرتين المجاورتين أيضاً..
أخيراً جلس إلى المكتب وأخرج الجواز من الدرج ودق عليه الختم العتيق قائلاً:
أنت الآن براءة يا سي صابر!!
ابتسم صابر في أدب جم وقال:
أي خدمةٍ يا باشا !!
***
مع آذان العصر هرول صابر ناحية السفينة؛ كان صوت ماكيناتها يرتفع كلما اقترب منها؛ ظلت تعطي صفيراً بين الحين والآخر إيذاناً بقرب ميعاد المغادرة.
أخذ يدعو على الباشا وجدود الباشا... ويبتهل إلى الله ألا يصادفه مرة أخرى أثناء رجوعه - بعد انتهاء العمرة - حتى لا يطلب منه العودة ثانية؛ لإحضار طلب له من الأراضي المقدسة.
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
أوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved