الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 27th November,2006 العدد : 178

الأثنين 6 ,ذو القعدة 1427

في ذمة الوادي
أسماء الزهراني
(1)
تستقبلنا مسؤولة الأمن في ساعة اندلاع الهجير، نتكوم في البوابة الصغيرة، لنتسلم بطاقاتنا التي نرهنها كل صباح مقابل حفنة ثقة، بالكاد تكفي حتى الظهيرة لقطع مسافة نهار جامعي واحد.. تقلب في الوجوه المشتعلة نظرات باردة، وتتثاءب بين كل بطاقتين، ثم تقذفنا إلى لسان الوادي الممتد.. ساخراً نلمحه، فنشتم النخيل، ونقطع الممر إلى مبنانا القصي معددين آفات البداوة.
وفي صقيع رمضان حين تطرق أبواب حجراتنا المشرفات يؤذننا بوقت السحور بأطباق من التمر الطازج - ينثال على أصابعنا دفء السحنات النجدية السمراء.. فنراجع حساباتنا من جديد، بلغة الكيف لا الكم. كيف استطاع هؤلاء البداة إنشاء كوكب يضج بالحياة داخل هذا العدم الأصفر اللا متناهي؟! هذه الحياة التي سرقتنا من قواقعنا على الشاطئين، ومن بساتيننا في قمم الحجاز ومن سفوح أجا وسلمى، لندمن إيقاعها في قمة صخبة، وفي امتداد صمته، وما أثقل صمت الرياض حين تقرر الصمت!!
هنا.. في بقعة من الأرض تخز أحد جوانب وادي حنيفة، تركت بعضاً من وجوهي، حيث الوادي يمدّ في وجه مباني سكن الطالبات لساناً مبقعاً بقامات شامات النخيل.. ساخراً نزور عنه في ظهيرة تحمل خيبةً ما، ومازحاً نشاكسه في أصائل الربيع، حيث تفقد الخيبات مذاقها..
سنة ونصف سنة من الزمن قضيتها في ذمة الوادي، إذا لم أستثنِ فترات الإجازة. أما إذا اكتفيت بحساب العمر الفعلي لعلاقتي بوادي حنيفة فلن يتوقف الحساب أبداً..
(2)
منذ نهاري الجامعي الأول داوم الوادي على اختطافي كل ليلة من بين أكوام أوراقي، ولم أكن وحدي، فقد كنت أصادف على مدرجاته الحجرية صفوفاً من الوجوه الساهمة.. وحين أعود إلى أوراقي بعد جولات السحر مغموسة في السكينة.. كنت أراقب في فتور حركة السطور، وهي تتجه إلى أبعد نقطة عن القاعة التلفزيونية التي يفترض أن أقرأ فيها ما سيكتب.. ثم من أغوار السكينة ينبجس القلق في خصام يومي بين قرارات النهار الصارمة وتعهدات بالالتزام.. وبين سبحات الليل مع مواويل الرعاة التي تتردد بين أسوار السكن، قادمة من أطراف الوادي البعيدة..
حين لمحته للمرة الأولى كنت سراً أودعته أمي صدر الوادي... حين أطلت معي على صفوف النخيل في ليلة تعارفنا الأول أنا والوادي، انتابها مسٌّ من الطرب، غسلتها بهجة شفافة من وجوم اكتنف مشيتها منذ دخولنا أنا وهي، نحمل حقيبة ملابس، وسجادة ملفوفة على لباس أنيق للصلاة.. ألقت لي أمي ليلتها بطرف حكاية تشرح عبرها كيف صارت النخلة عمتنا، ثم قطعت حكايتها كي لا يسرقها الوقت قبل أن تنهي وصيتها للنخيل.. لمحتها توشوش نخلتين متعانقتين تستند إلى جذع إحداهما نخلة عجوز منحنية الظهر، ولم أقطع رحم التوأمين بعد تلك الليلة..
***
ها أنذا أطل من خلف سبعة أعوام، وأنا لا أشك في أن شارع البوابة رقم (7) لا يزال يتردد في جوانبه صدى الموال الموسمي:
تمتع من شميم عرار نجد.....
الموال الذي يكون آخر ما ننقشه على جدرانها في خواتيم المواسم الدراسية..
متكئة على نافذة السيارة، أواصل تحسس مواطن النبض في المسافة الأثيرية التي تفصلني عن الوادي.. أشاهدني وأنا أتخذ مجلسي بين التوأمين، والحيرة تدق في رأسي مساميرها، بين الرحيل إلى الأزل مع مواويل البدو المتنقلين بين امتدادات وادي حنيفة في اتجاهات الزمن الثلاثة.. وبين تلخيص آراء القدماء في أصل اللغة.. (ابن تيمية ينكر المجاز، ابن تيمية ينكر المجاز في اللغة)، أغالب الشرود بالترداد، (لا مجاز في اللغة)... يثور في وجهي أبو تمام: علام إذن اختصم جرير والفرزدق عمرهما كله يا هذه؟ أتردد في الإجابة.. ثم أفجّر في وجهه السؤال: حدّد إذن أيها اللغوي الحاذق أي الكلمات الآتية الأصل وأيها المجاز: عين الماء وعين الإنسان وعين الشيء بمعنى حقيقته... يمتد بيننا الصمت، ثم أتركه يضرب أخماساً بأسداس.. وأتابع على إيقاع خطوي الرتيب: (ابن جني يرى في اللغة محاكاة صوتية للطبيعة.. القرقرة.. الكركرة.. الهزهزة.. الأزيز)....
تهتز فوق رأسي نخلة، وتصطفق سعفاتها.. يفزع عصفور بالجوار فيطير في اضطراب باتجاه السور.. يصطدم به وتفرقع قطرات من الدم.. يسرقني المشهد من الأوراق في يدي.. يأخذني إلى (نهايات) عبدالرحمن منيف.. خثرات من الوجع تبدأ في التكوم بين تلافيف الوجدان.. أسارع إلى نبشها لتتنفس.. فتنسرب شخصية عساف من جوفها.. عساف وهو يفلسف الصيد.. عساف وهو يمتشق فراسته كصياد أسطوري، ليقتنص اتجاه سرب القطا.. ثم عساف والرمل يغطي ساقيه.. أترك الجاحظ يجادل ابن حزم في نسب الكلمات.. وأغيب مع عساف في مجاهل الصحراء على أطراف الطيبة.. ثم أضم أوراقي وقد انبلج الصبح عن سواد 10 ورقات.. وهدنة غير موقوتة بين تعهدات النهار وسبحات السحر..
(3)
يتثاءب الوادي الوقور في بطن الفلاة.. وهو يقلب صفحات سجلاته، يحاول أن يسترجع ملامحي، ينثر الوجوه على بساط الحكي..
من أعلى السور ترمي إليه قبلة وداع، يتلقفها وهو يفح في همس أقرب للصراخ:
- ترفقي وأنت تنزلين..
- ما عليك صرت محترفة..
- أراك احترفت أشياء كثيرة من سنة واحدة في الرياض، ماذا أبقيت لأربع سنوات قادمة.. الله يجعل عواقب الاحتراف سليمة..
ثم قهقهة لم تسقط إلا في أذن مناوبة الإشراف، أعقبها صوت ارتطام قوي بالأرض....
***
في غرفة بالمستشفى الجامعي لم يكن الألم هو الذي فجر كل هذه الحسرة، ولا ما أسهب فيه الطبيب شرحاً وهو يقلب القدم المصابة.. هي تنشج بين يديه وتصرخ..
- هذا آخر عهدي بالجامعة، أنت ما تعرف فكرة أمي عن الإسكان الخاص، لو رأيت وجهها وهي تسمع قصة السكن الذي أغلقته الشرطة بعد القبض على إحدى ساكناته.
- لكن نحن خلوتنا كانت شرعية مئة بالمئة، تابع بضحكة باردة: يشهد علينا ثالثنا.. السور الذي انتصب بيننا عذولا..
- تعرف معارضتها سفر البنات للدراسة من الأصل، من بين أخواتي كنت أنا من فاز بثقتها، لكنها ما تركت أحداً لم تسأله عن السكن الجامعي..
- (أعرف أعرف) خلي موضوع السكن علي، فكرة من أفكاري العبقرية، وتنتهي السالفة.
- كانت عليك ساعة وقعت تعهد بعدم دخول السكن مجدداً ولو زائرة.
غادر وهو يعرف، غادر وهي ثملى بالحسرة..
***
(كانت علي أنا) يوم أن أغلقت الخط في وجه ابن عمي، بعد أن قطعت كل خطوط العودة لمشروع زواجي به في آخر مراحله..
وهو (كان يعرف) أيضاً حين سهر تلك الليلة يبرر لي معارضة أهله لخطبتنا الموعودة، وكان مكتنزاً بالمعرفة حين رفضت أن أكون الثانية.
- كلها سنة بالكثير وساعتها لن أطلب رأي أهلي في زواجنا
***
- هذا آخر كلام؟
قالها بضحكته الباردة إياها قبل أن يخلع آخر وجوهه هنا عند هذه الزاوية من السور..
(4)
مشهد ىخر يطل من ثغر الوادي، وهو يهز فنجان الزمن، مؤذناً بإغلاق ستار السمر، ويشير إلى خيط من النور يعرف به ميقات إقلاع طائرتي، في مثل هذا الأرق من كل عام..
هي في حفل تخرجها.. يدوي اسمها بين جدران القاعة.. تخطو بصعوبة وهي تجمع زوايا عينيها، تحاول تركيز بصرها على المنصة، وتتجاهل الصرير الذي يحدثه عكازها حين يحتك برخام الممشى.. شفقة تطفح من عيون الأمهات وتتدفق في الممر الرخامي.. شعرت بلزوجة تلامس أذنيها فعادت أدراجها..
من على المنصة أختها تلوح لها بدرع التميز العلمي، يحيط بها تصفيق صاخب وزغاريد الزميلات...
***
ساعتان بقيتا لي في ذمة الرياض.. إحداهما بالكاد تحملني إلى مطار الملك خالد، حيث أيمم وجهي شطر البحر، في دورة حياة أخرى، لا أعرف بعد إلى أي المنافي سيقذفني.. والساعة الأخرى منذورة منذ سنوات سبع، وفي مثل هذا الأرق من السنة، لتقلني للفاخرية، أنصت إلى أصداء وداعات متراكمة عند البوابة رقم 7
تمتع من شميم عرار نجد
فما بعد العشية من عرار
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
أوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved