الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 27th November,2006 العدد : 178

الأثنين 6 ,ذو القعدة 1427

يتيمٌ يفهم الدرس
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الحيدري الرياض
1
سياط الشمس المحرقة تنتشر في كل الأنحاء، ليس لأحدٍ منها مفر أو مهرب... والجميع في المدينة بين جيئةٍ وذهاب.. كلٌ يسعى لإنهاء حاجاته ليخلد إلى الراحة والدعة بعد المشهد المؤلم يومياً في وقت الظهيرة.. ويرجعون وكأنهم انتصروا على كائنٍ وغلبوه وأحسوا بما يشبه النشوة!! فواحدٌ يذهبُ لشراء أغراض للبيت.. وآخر لإصلاح عطل في السيارة.. وثالثٌ.. يقف عند باب المدرسة ليلتقط ابنه من مقاعدها بعد انتهاء الدوام..
وأعلنت صافرة المدرسة انتهاء الدوام فبدا الطلاب وهم يخرجون من الفصول بشكل منتشر كلوحةٍ فنية تبعثرت فيها الألوان فهي تموج وتموج!! توالت وفود الطلاب بشكل مذهلٍ وسريع للخروج من بوابة المدرسة.. وبدا الحارس لا يستطع أن يقيّد تلك الانفعالات الصبيانية.. فهذا طالبٌ يلكزُه من خلفه وينزوي حتى يتمكن الآخر من إطلاق ساقيه للريح.. فلا يملك الحارس الحازم.. قائلاً:
أيها الأطفال الأشقياء.. لو كان لي طفلٌ مثلكم لحبسته في البيت ولمنعته من الأكل والشراب و...
ويأتي طالبٌ صغير ليكمل المسرحية.. وهو يرفع صوته وكأنه يقلد صوت الحارس وبصوت مبحوح..
أيها الجبان إنك لا تستطيع أن تصمد أمام هؤلاء الطلاب وأنت كبير وهم صغار أقل منك عمراً بكثير وكثير..
ويتأوه الحارس هذه المرة بشدة ثم يقول بصوت ضخم:
يا حقير.. يا حقير. اغرب عن وجهي..
والتقت نظرة الطالب على عيني الحارس الغاضب ثم على عيني المدير الذي لتوّه قد دلف إلى الساحة الكبرى.. واتّحدت ابتسامة حانية من المدير لتسير في مجرى واحدٍ مع ابتسامة ذلك الطفل الوديع.. ذي الفكاهة والمرح..
أطفأ شعلة تلك الابتسامة نظرة خاطفة ينظرها المدير إلى طفل قد جلس على حَجَرٍ قد صُفَّ في المدرسة بشكل منتظم، وقد ضم إلى صدره فخذيه.. وقد علته سحابةٌ قاتمة من الحزن فمرةً ينظر إلى مشهد الطلاب وهم يتوافدون على آبائهم.. ومرة إلى ركبتيه وقد هزَّ رأسه بأسى واضح!!
خطا المدير خطوات صامتة ومتزنة وبدا يفكّر في كيفية بدء الحديث مع الطفل، وعما يؤرقه.. فقال بشيءٍ من الحذر والهدوء..
السلام عليكم..
فلم يرد ذلك الطفل عليه سلامه.. وقطبَّ المدير ما بين حاجبيه ليسرح في بعض الأمور التي ربما تدله على حل جيد يقدمه لذلك الطفل.. وبينما هو يسرحُ في فكره إذ هرب الفكر من نفسه.. حين سمع الطفل يقول بصوت غليظ:
وعليكم السلام.. ماذا تريد.. ماذا تريد.. هل تريد أن تؤذيني.. لأني يتيم ضعيف.. وفي كل يوم أتعرض للضرب وللشتم؟!!
جلس المدير إلى جانبه وربت على كتفيه.. وقبّل ما بين حاجبيه.. وقال بصوت أبويّ حنون..
الآن عرفت السر.. لا تخف إنك معي في أمان..
واستبشر الطفل خيراً.. والمتعت عيناه ببريق الفرح والسرور الآسر.. واقترب بشكل أكثر عن ذي قبل.. وغرّد العصفور الساكن، ورأى القطَ المرقطَ يتوازن في مشيه على حافة الجدار.. وأحسَّ بأن الله أراد به الخير وطريق السعادة..
2
همام.. همام.. كُلْ ودع عنك الهموم والأفكار التي تشغلك عما يفيدك، ويعود عليك بالنفع.. قال ذلك مدير المدرسة، وقد استضافه ورحبَّ به.. ثم أردف:
إن الذي وقع لك إنما هو قضاء وقدر.. وإنما أراد الله بك الخير فابتلاك.. تحصّن بالبصر والاسترجاع فإن الله قد وصف كُلَّ من أصيب بأي مصيبة وصبر على ما أصابه بالخير العميم.. ومثلك لا يجهل تلك الآية العظيمة.. {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.. أتعلم يا همام ما الأجر العظيم الذي ينتظرك إذا صبرت..
واصل يا عم..
الله يبشرك فيقول: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}..
يا بني إنها لبشرى عظيمة.. ألا تحب أن يصفك الله بالمهتدي..
بلى والله يا عم.. إني أرجو أن أكون كذلك!!..
همامُ سأحدثك بحديثٍ يسرِّي عنك الهم والغم الذي يكاد أن يخنقك..
أنا أذن مصغيةٌ لك..
شكراً لك..
سأحدثك عن أعظم إنسان عرفته البشرية كلها إني أؤكد لك بدون شك أنَّك تعرفه!!
ويرطب همام شفتيه بلسانه ليعطي إجابة في الصميم، وحتى يثبت جدارته ومقدرته.. ثم يقول:
إنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أجل.. أجل إني واثقٌ من ذلك بكل تأكيد..
نعم.. لقد أحسنت يا بني.. إجابة صحيحة بكل المعايير.. إنك سريع البديهة.. متقد الذكاء..
هلاّ قلت ما شاء الله يا عم..
للتّو كنت أريد أن أقولها.. وحتى لا تنقد عليَّ أقولها الآن بلساني.. ما شاء الله..
عفواً يا عم.. لقد كنت أضحك معك..
أعرف ذلك.. لكن الإنسان قد يحسد أخاه من غير أن يقصد.. أو بتعبير أدقّ.. هو يغبطه على النعمة ولا يريد زوالها.. إنَّ هذا ما أرمي إليه.. هل تفهم قصدي..
نعم.. دعنا نرجع إلى حديثنا السابق..
أقول إن النبي عليه الصلاة والسلام قد دلف إلى الحياة الدنيا وكما تعلم فقد مات أبوه، وهو ما زال جنيناً في بطن أمه.. ثم شاء الله أن يترعرع شيئاً من الزمن في كنفه أمه (آمنة).. إني أخبرك عن سيرة أعظم عظماء التاريخ.. اِعلم أن الزمان لن يجود بمثله أبد الآبدين.. لقد شاء الله أن يكون يتيماً وفي ذلك عزاءٌ لأيتام المسلمين.. لقد كان رسول الله نوراً مشعاً أشرقت له بطاح مكة وسهولها.. وكل ما فيها.. حتى الحجر والشجر.. استبشر به.. أعود لما كنتُ عليه.. ثم زاد همّه وغمّه حين ماتت أمه ثم دفنت بالأبواء.. ثم وفق الله جده عبدالمطلب وتربى في كنفه.. وعاش عيشة قصيرة معه.. لكن جده فضله حتى على أبنائه.. ثم بعد فترة ليست بالطويلة.. تكفل به عمه أبو طالب.. ومع كونه كافراً إلا أنه دافع عنه.. وبذل ما يستطيعه من مساعدة وعون كيف لا، ولم يبق على وجه الأرض من يكون في عونه سوى الله تعالى..
إنَّ حالتك كحالة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيم.. ولا من يؤنس وحشته وغربته.. ومع ذلك فقد أصبح مثالاً ونموذجاً عظيماً يحتذي به من أراد أنْ يبرز في موهبة من مواهبه الكامنة ولكن مع ضيق المعيشة.. وتعسر الوقت في إبراز ما يمكن إبرازه من الإبداع والذكاء والقيادية وحسن التصرف كان قد انحجب بعض الوقت.. ثم بعد أنْ شاء الله أن يعمَّ بنفعه الأرض حضَّ على مكارم الأخلاق، ونصر المظلوم.. كما أخرج بنور الرسالة الإسلامية الخالدة ملايين البشرية من نور الظلمات.. إلى أنوار البشارات والهدايات.. الحديث عن ذلك يا همام قد ويطول ويطول.. لقد أفنى كُتَّاب التاريخ والسير المئات تلو المئات من الأوراق في كتابة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.. ثم كتب مَنْ تأخر منهم في أخبار التاريخ بعد الرسول عليه الصلاة والسلام وعن آثار الصحابة بعده.. وعن قيام الدول الكثيرة العظيمة بعده في نشر الدين الصحيح لتخْلُفَه في إنارة عقول البشرية، وإخراج البشرية بأجمعها من وهدة الحفر الموغلة في السواد والعتمة.. إلى الارتقاء بهم إلى معانقة السُحب وهي تعانق السماء..
ويأخذ المدير نفساً عميقاً ليواصل حديثه بطلاقة أكثر.. وتفاعلٍ تكتنفه الحلاوة والطلاوة..
أرجوك أكمل يا عم.. إنَّ الحديث عن سيرة خير الأنام لا تُمل.. إن العصافير المغردة في سماء بطني لم تعد تغرِّد أظنها قد تفاعلت مع الحدث.. ويطلقان جميعاً فرحة غامرة.. وتتسع حدقة عينيهما بالفرح والبشرى..
المهم يا همام.. أنْ لا تيأس إنك حين تصاب بأيّ أذى فإن ذلك طريقك للنجاح ولا شك.. إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام لم ييأس من هداية قومه للحق.. ولم يقل إني عبدٌ ضعيف أخشى أن يسخر القوم مني.. أو أن يُهينونني.. لقد تحلّى بمقدرة عالية من القيادة من غير ما تميَّز به من إلمام بأمور كثيرة يفخر بها العرب.. فكان الفتى الطاهر.. اللين.. الذين يعدل بين الناس بالقسط في كل أحواله..
أذكرُ يا عم ما يدل على حنكته ومكانته حين احتكم إليه كفار قريش فيمن يضع الحجر الأسود مكانه.. فأشار بتلك الخطة الفاتنة التي لم تكن تخطر على بالِ أحد منهم.. ومع كونهم دهاةً وعباقرة.. لكنْ لم تكن تدور بخلدهم تلك الفكرة الذكية!!
أشكرك لقد أحسنت في حديثك هذا إني أراك تتمتع بشيء من الحديث الجيد والإقناع بأسلوب سهل.. إن الطريق أمامك مفتوح لتبدع وتنفع الأمة بنشر الدين الإسلامي.. أو بما تستطيع أن تنفع به الأمة في شتى المجالات..
إني أحسُّ وكأنك تلوِّح لي بقلبك إلى أنْ أكون كرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهمة وعدم اليأس.. أو القعود في البيت أو عند الناس إنساناً محطّماً يكبت آلامه.. وهي آلام إنما تزول بفعل الوقت ولا شك.. إنّي بدأت الآن أفهم الدرس.. وآخذه بشكل مجزَّأ.. لكن بفوائد عظيمة وكثيرة.. أرجوك زدني مما عندك.. من الآن سأكون إنساناً آخر بإذن الله!!...
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
أوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved