الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 27th December,2004 العدد : 89

الأثنين 15 ,ذو القعدة 1425

من فيض المكان...؟
أمل زاهد
تسافر ذاكرتي إلى البعيد، تستقل قطار الزمن، تمتشق كل تلك الصور القديمة، وتركب عباب بحور الأيام.. تعود إلى هناك.. إلى مرتع الصبا وملعب الطفولة، وتتتابع في ذهني تلك الصور بأدق تفاصيلها.. تتراقص في خيالي حواير المدينة المنورة القديمة.. وأروقتها، وتحط سفينتي.. ويستقر قلبي هناك في ذلك الحي الذي كان يسمى (باب المجيدي)، والذي نشأت فيه.. أذكره بتفاصيله الدقيقة.. ببيوته المتشابهة التي تطل جميعها على فسحة كبيرة كان يقال لها (البرحة)، أذكره بشخوصه وناسه.. بتلك الدهشة التي كانت تسكن عيوننا وتأخذ بألبابنا ونحن نشاهد الأولاد يلهون ويلعبون مختلف اللعبات ونكتفي نحن البنات بالتفرج والانبهار والدهشة.
أتذكر ذلك الزقاق الضيق، الذي تأخذنا التفافاته.. وتصاحبنا تعرجاته حتى توصلنا إلى الحرم.. يتسع حيناً ويضيق حيناً.. يحبل بالمفاجآت ويمتلىء بالغرائب.. وكم كنت أحب تلك الرحلة الاسبوعية إلى الحرم التي تأخذني أمي إليها.. كنت انتظرها بفارغ الصبر، وكأني احس الآن بذراع أمي تتشبث بي .. خائفة علي من جنوني ومن رغبتي الآسرة في الاكتشاف، كانت عيني تنطلق لترصد مختلف الوجوه وتسافر في أعين الناس.. ترحل في تقاسيمهم.. وتبحر في اختلافهم وتشابههم، ثم تكتمل الرحلة بالصلاة في ذلك المكان الحيبب عند الحبيب.. والقبة الخضراء تطالعنا .. وأرواحنا تهفو إلى الرابض تحتها.. تسلم عليه.. ويلبسنا سلام مسجده، كنت أحس به يرحب بي ويربت على كتفي ويحنو على طفولتي.
أتذكر تلك الأيام.. أتذكر ألعابنا البسيطة.. ولهونا البدائي.. أتذكر صدى ضحكاتنا أنا وإخوتي، أتذكر جرينا ولعبنا.
ويملؤني الحزن على ابنائي، على هذه الأجيال اليانعة.. التي تعيش في زمن الزيف .. زمن الماديات، الضحكة فيه لا تصدر من القلب.. والفرحة فيه مشوهة.. وكل المشاعر والأحاسيس تلبس ثياباً قاتمة كئيبة، يملؤها الملل.. وتقسو عليهم رتابة الأيام، حياتهم تعج بمختلف الألعاب العادية والالكترونية.. ولكنها خالية من الدهشة.. فقيرة من الانبهار .. تمطرهم القنوات الفضائية بوابل من برامج الأطفال.. وتقدم لهم العقول الغربية واليابانية العجيب والمدهش من الألعاب الالكترونية، ولكنها تسرق منهم براءتهم وتنتهك طفولتهم.. وتعتدي على تواصلهم مع الطبيعة، وتغتصب منهم حقهم الطبيعي في النشاط البدني واللعب الجماعي مع اقرانهم، فيسقط بعضهم صريعاً لإدمان الانترنت أو الألعاب الالكترونية، ويفقد قدرته على الاندماج مع مجتمعه، فيفضل العزلة والانزواء بعيداً عن الحياة الخارجية، مما يخلق منه إنساناً انسحابياً لا يقدر على خوض معترك الحياة والنزول إلى ساحاتها.
تغير الزمن ولم تعد الأم تأمن ان يلعب طفلها في الحواري أو أن يخرج إلى الشوارع، صارت تحيطه بسياج من التحذيرات والتعليمات.. فقد تشوهت أشياء كثيرة في مجتمعاتنا، ولا تملك أي أم يصم ابنها أذنيها بكلمة (طفشان) إلا ان تقترح عليه ان يشاهد التلفزيون، أو ان يلعب لعبة الكترونية، وحتى القراءة باتت موضة قديمة جار عليها الزمان، ولا يحتمل عبئها جيل الالكترونيات، ففي زمن فقد البراءة.. لا نملك الا المتع المزيفة والابهار الكاذب.
وقد أكون رومانسية في نظرتي بعض الشيء، فلكل زمن حلوه ومره.. جماله وبشاعته.. خيره وشره، كما ان للطفولة براءتها ونقاءها في كل عصر ومكان.. وربما انظر انا الآن إلى الماضي بعين الطفولة، ولذلك لا أرى فيه الا البراءة والطهر والنقاء.. بدون أن أحاول أترصد عيوبه او أن انتقد مساوئه.
ولكن تبقى عندي قناعة بأن الحضارة الحديثة تسلينا باليسار ما تعطينا إياه باليمين، وان التوتر والقلق والمتاعب النفسية من المترادفات المصاحبة لتعقيدات الحياة وتشابك تفاصيلها، وانه كلما أزداد قربنا من الطبيعة وتواصلنا معها، كلما ازدادت قدرتنا على الانسجام والتناغم مع الكون من حولنا، وكلما صفت نفوسنا وخلت من الشوائب والمكدرات.


amal_zahid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved