الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 27th December,2004 العدد : 89

الأثنين 15 ,ذو القعدة 1425

استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي

تقولين
محمود بن سعد الحليبي
95 صفحة من القطع الكبير
***
هل كان هاجسه عند أفق الشاعر القديم في مقولته:
(يقولون: ليلى في العراق مريضة
فيا ليتني كنتُ الطبيبَ المداويا)
لا فرق كثيراً بين ما تقولين وما يقولون، كلتاهما أدوات خبر بعد عناء ومعاناة سفر.. والأقوال كثيرة.. والتقولات أكثر.. إلا أنها في الشعرِ الأقربُ إلى محاكات الشعور متى كان صادقاً ومحلقاً ومعلقاً في طرحه.
وشاعرنا الحليبي قالت له الكثير.. وربما قال لها الأقل أو الأكثر.. المهم معرفة تلك المقولات من واقع سردها الشعري وما أوحت به من أخيلة وصور جمالية وجدانية يمكن قراءتها واستقراؤها عند كل محطة من محطات رحلتنا معه في ديوانه (تقولين).. لا أدري لماذا اصطفى بعض أبياته كعنوان فرعي لديوانه، ربما أراد أن يوجز لنا فكرة المضمون من أبياته تلك:
(تقولين: قاسٍ، أنتَ لستَ بشاعر
ولا لمست يوماً رؤاك مشاعري
وحبيَ ما أوحى إليك قصيدة
ولا أدركت عيناي سحر بيادري
لغيري تغنِّي الحرف يا طير دوحتي
وسكناك في عشي ومعناك خاطري)
(لغيري تغنِّي) الصحة (تغنَّى)، الحرف مذكر.. أو (يُغنِّي الحرف) أيهما شئتَ.. أزل نقط الياء المبهمة يصح التعبير.. أما عن جفوته لها وهي بالقرب منه ونسيانها وهي إلى جانبه.. وبث شعره لغيرها البعيدة عنه فتلك قضية يدركها علماء الاجتماع والنفس، وهي أن الإنسان يبحث عن الأشياء التي تستعصي عليه.. أكثر من بحثه عن الأشياء التي هي في منال يده.. الموسيقار عبد الوهاب غنَّى لهذه الحالة قائلاً:
(أنسى اللي شاريني وأدوَّر عاللي بايعني)
أدخل مع الشاعر الحليبي في صميم تجربته الشعرية وفي محطتها الأولى (فوق خارطة الشعر وبين فكَّيْ قائد):
(قد تلد الصحراء العاقر بيتاً
والليل الأمرد ينبت شتلة شيب
وتصخ الدنيا بالموتى
سيان ولادة أفق رحب في زمني
أو مولد بئر مشبوهة
باطنها في علم الغيب
لا يدري! أنجبت الأرض الخصبة ورداً أم لفتاً!
لا فرق..)
كل الأشياء تساوت في نظره.. الصور المتزاحمة اختلطت مشاعرها.. تقاطعت خطوطها إلى درجة احتمالات ما لا يكون أن يكون.. وافتراضات ما يكون ألا يكون.. أي عالم اللامعقول.. وهو تصوير جميل جدير بالإشادة..
(العالم أعمى في زمني
يمضي في ثقة، وبلا ريب
يستقبل كل الأشياء)
إلا الثقة يا صديقي، إنها صفة لا يستحقها عالم أعمى.. ما يستحقه هو (العمه)، حبذا لو اختارها؛ لأنها توحي بالصدق.. أو (النزق) من التوحش..
(مدينة الشعر) عادة تأتي محطة تضج بالأصوات، بكل اللغات، وبجميع التأوهات.. هذا شاعر يمدح، وآخر يقدح.. هذا تهزه نشوة، وآخر تهزمه نبرة عتب.. لا بدَّ لنا أن نصيخ مع شاعرنا.. ونستمع وهو يخاطب نفسه هل إنه الكل؟! أي أنه شاعر ككل الشعراء، يتحدث باسمهم بكل الانفعالات وبكل الأصوات، أم أن له منحًى مختلفاً؟!
(أمُتَّ شعري.. أم ماتت أحاسيسي
أم غِيضَ زيتك فاسترخت فوانيسي
أقضي لياليَ تستجدي يداك يدي
وأنت تمعن في نهر.. وتعبيسِ)
الشعر كما تدري فيض مشاعر حين تموت أو تصمت ينضب زيتها.. ولا فانوس دون زيت.. ولا زيد أو عمرو..!
يمضي فارس رحلتنا في وصف الحالة وقد قطع الشك باليقين، وأزاح عن دربه كل شكوك الانكفاء:
(لي دولة منك يا شعري سموتُ بها
أسستها بحروفي خير تأسيس
عرشي خيالي.. وعقلي حاجبي.. ويدي
ديوان قصري.. وندماتي أحاسيسي)
(ندماتي) أجمل منها (أنغامي) أو أبياتي؛ للتوافق بين العرش والعقل، واليد والديوان، والأبيات والأحاسيس.. وجدنا صوتاً واحداً واعداً يتحدث باسم كل الشعراء الأخلاقيين لا المختلقين.. هذا يكفي.
لا أحب هجر الرسائل.. ولا ميل الوسائل.. سأدع الهجر لصاحبه.. والعتب لمَن عتب.. (القبلات على جدران العشق) أفضل:
(عيناك حلوتان.. رشفتا عسل
أكاد أحتسي الفنون منهما احتساء
غمامتان لذَّ فيهما الكسل
بالدفء تهمسان.. بالحنان.. بالعطاء)
ماذا أبقيتَ لغيركَ من وصف؟! هات لنا حكاية العينين:
(أطلَّتا عليَّ من جبل
كأن لفتة الهروب فيهما
كلفتة الغروب في ملامح السماء)
في عينيها الحلوتين الأشبه بالبحيرة أشتهي العوم متهيباً الغرق؛ لأن أشواقه الظامئة تسوقه نحو مغامرة سباحة تُغنيه عن قطر الأمطار ومياه الأنهار.. شوق ممزوج بشوك الأمنيات وأحلام الشعراء الضاربة في خيالاتها.. وهي جميلة.
ماذا عن عصافيره التي تحزن كغيرها من الكائنات الحية؟! لا أرى وجوداً لها في قصيدته.. وإنما حزن أنثى يسكن عينيها حلم النوارس وحزن العصافير عند ذهولها.. لماذا اختار العصافير بدلاً من الأنثى؟ لا أدري.
(دروب أمانيك نخل يموت على جذعه العنفوان
سياط تضم بقبضة غول يرى فيك شمسا
ويشتاق في مقلتيكِ الأفول)
شاعرنا الحليبي عاشق العيون في جنون.. إنهما بوابتان للولوج إلى قوام المرأة.. بهما يبدأ.. وبدونهما ينتهي.. وبقوة صاحبتهما يتحدث:
كيف لا وهي المنتصرة في كل الحروب من جنكيزخان إلى التتار، إلى المغول، إلى فرعون، لأنها الأنثى الشجاعة.
(وبغداد أنت وصفصافة
وحولكِ ينمو كما القطر يكبر جنكيزخان
فأنَّى اتجهتِ فخطوكِ شهب لزحف التتار
فأنَّى التفت فعين سلب لعين المغول
وأنك أنثى)
أينها يا صديقي؟ وجدتَها في شعركَ عصفوراً توارى في خجل.. وأنثى أسطورية تصنع التاريخ على أبيات من الشعر الجميل.. هل لهذه الأنثى تواجد في عصر البيات الشتوي؟! إن كان كذلك فلتدلنا على مكانها كي نستصرخ بها مستنجدين قائلين: (واأنثاه) على نسق (وامعتصماه).
أنثاكَ يا صديقي صورة أسطورية تتمناها، ونتمناها معك.. ولكن بواقعية أكثر لا تضخم الحروف.. ولا تقزم شأن المرأة.. بنت الأمس.. زوجة اليوم، وأم المستقبل، وصانعة الأجيال إن هي أحسنت تربيتهم وأعدتهم رجالاً.
(لغيري تغنَّى الحرف).. أتيتُ على بعض أبياتها في مقدمة الديوان وخلاصة ما تعنيه.. أتجاوزها إلى ما بعدها.. وما بعدها مرفأ يستند إلى بحر من الأحزان المتلاطمة بين شاعرنا وبينها، وقد حاولتْ أن تنتشله من بحر أحزانه داخل ديوانه قائلة له:
(أنت لا تعرف غير الحزن دربا).. تهمة لا بدَّ وأن يدرأها عن نفسه:
(قلتُ مهلاً: لفتة منكِ امنحيني
اسمعيني.. ربما أقصرتِ عتبا
ربما استعذبتِ حرفي
ووجدتِ المرَّ في شعريَ عذبا)
هل أقنعها بصدق روايته؟ المرأة من الصعب إقناعها؛ لأن قناعها حديدي لا تنفذ إليه رصاصات القبول إلا بعد كرٍّ وفرٍّ.
(لفتتْ نحوي وجهاً مشمس الألحاظ غضبى
وأشاحت عن صدى قلبيَ قلبا
قلتُ: كلا أنا لا أحفرا
أنا لا أنحت حرفي في صخور تتأبَّى)
لم يقنعها بكل دعاواه.. كانت عنيفة وعنيدة دحرجتْ نحوه نظراتها التي أوقدتْ في قلبه جمرة، ثم قالت بنبرة متعالية:
(أنتَ لا تعرف غير الحزن دربا)
مقطوعة شعرية حوارية تجاذبها طرفان.. شاعر لا يعرف إلا الشعر.. وأنثى ترى في شعره مصدر حزن لا ينتهي ولا يوصل إلى حلم.
الحب في وجدان شاعر ملتهب متفجِّر كالبركان يلقي بحممه في كل الاتجاهات؛ لأن قدره أن يحب دون حدود.. هكذا جاءت حاله في محطات كثيرة وقصيرة لا تضيف جديداً على ديباجة شعره.. وصياغة فكره (قدري أحبك) و(لحظة كبرياء) و(الحب في عينيك) و(غضبى أحبك).. ومع هذا.. ولأن معظم ما تبقى من ديوان شاعرنا له خصوصيته المناسبة آثرتُ أن أتوقف أمام كل محطة على حدة بدايةً من (قدري أحبك)
(اقسي.. اهجري.. ثوري.. ولا تتأسَّفي
ما اعتدتُ منكِ تحنُّناً.. وتأسُّفا
وخذي مشاعريَ.. اجعليها لعبة
هيَ كالغصون إذا عتابكِ رفرفا
لا ترحمي جرحاً ينزُّ بمهجتي
بل أنضجيه.. أشعليه إذا انطفا)
للمرة الأولى أو الثانية أتوقف أمام شاعر قوي يتحدَّى هجره.. ويشهر سلاح صلابته ومقاومته دون خوف.. لقد بُعث من مرقد عشقه الرومانسي المتوسل.. من شعره الغارق في بحر صبِّه دون أن يجد الحب ودون أن يقيم في وجه الصد حائطاً من صدٍّ لا تهزمه ولا تهزه رياح التحدي، ويبدو أن الفرحة لم تتم.. لقد استطعم عذاباتها له بدافع الوله الخارج عن السيطرة:
(إني لأدرك في انتقامك لذَّةً
فأزيد فيك صباءةً.. وتلهُّفا
قدري أحبكِ.. والبلية أنني
لا أستطيع تبرُّماً وتأفُّفا
تيهي إذا ما شئتِ لا تتواضعي
أنا لستُ أرضى الحب منكِ تكلُّفا)
هكذا عادت حليمة إلى عادتها القديمة.. قوة انتهت إلى ضعف.. وألم انتهى إلى رضى.. وجرح انتهى إلى عافية كما يقول المتنبي:
(إن كان سرَّكُمُو ما قال حاسدُنا
فما لجرحٍ إذا أرضاكُمُو ألمُ)
لا فرق في هذا بين مقولة حسد.. وبين عذاب هجر..
بين قدر شاعرنا وحبه ولحظة كبريائه مسافة قصيرة تجاوزناها معه استجلاءً لتلك اللحظة التي يعلن فيها شموخ كبريائه.. وعن ذلك الكلام الذي لا يعقله ولا يقبله من مجنون ليلى:
(بيني وبينكِ ألف باب مغلَق
ما بينها.. بين العراق.. وجلق
صُدِّي إذا شئتِ الصدود أو ابخلي
أو كنتِ ما أغلقتِ بابكِ أغلقي)
مساحة بعيدة تفصلها عنه.. وتفصله عنها.. مسافة ما بين بغداد ودمشق.. كلها موصدة الأبواب.. مخبأة المفاتيح.. لماذا؟!
(إن لم تعدلي في وصالكِ رغبةً
إني ذبحتُ صبابتي.. وتشوُّقي
أحرقتُ حقل الذكريات بلوعتي
وتركتُ للنسيان منها ما بقي)
ليس هذا فحسب، بل نسي بؤس العاشقين، بل أدرك يأسهم.. استنكر عليهم ذلك البيت من الشعر العذب عن العشق الكاذب:
(ما ذاق طعم الأُنس مَن لم يَعْشَقِ)
وحتى لا يكون لديها أمل في التراجع والعودة منحها بيتين ختاميين أشبه في شعره بالطلقات الثلاث:
(ليلاي حقاً قد عَلِقْتُكِ مرَّةً
لكنني أنفاً كرهتُ تعلُّقي)
للمرة الأولى أشعرني أنه قوي أمام مراد عناق أنثى.. وخداع امرأة.. هذا ما يظهر في الصورة..
(الحب في عينيك) عودة إلى ما عودنا عليه من تعلق بالعيون.. وأهدابها.. ليلها وصباحها، وبشواطئها التي تبحر فيها الأحداق.. على مراكب الأشواق، مستجلية عالمها بغموضه ووضوحه:
(أنا لا أحبُّكِ.. قلتُها
وتراجعتْ كلماتكِ الحُبلى بحشرجة البكاء
وظننتي صدَّقتُ ما قد قلتِ.. لا
أنا لا أصدِّق، فاهدني.. هذا هراء)
بين الاعتراف والإنكار خيط رفيع لا بدَّ من اكتشافه لاستجلاء الحقيقة.. أهي لا تحبُّه، أم أنها تهوى إشعال نار الحب في قلبه؟! هو لا يصدِّقها:
(الحبُّ في عينيك حدَّثني كثيرا
عن صباح فيكِ ألمسه المساء)
لماذا التأخير في لمسة الحب؟! أهي النظرة.. ثم اللقاء المنتظر الذي قد يأتي، وقد لا يأتي؟! لا أدري.. بين طيات خطابه الشعري مفاوز.. وأشواك لا أعرف مدى وجعها على أقدامه وإقدامه.. الذي أدريه أنه راح يذكِّرها بصعاب دربه وهو يلهث وراء نبضات قلبه:
(صاحبتُ فيكِ الريح.. والأمواج.. والقصص الطويلة
وحملتُ أمتعتي وأمنيتي على ظهر الفضيلة
وأذبتُ ذاكرتي وما في مهجتي من كبرياء
وقطعتُ شريان التوحُّد في دمي..
كي ما يضمُّكِ عالمي
أنا لا أحبُّكِ.. قُلتُها: أنا لا أحبُّكِ)
حسناً يا شاعرنا المُجيد الحليبي لقد انتصرتَ على انكسار عاطفتكَ.. أدركتَ أن البيتَ لا يُقام دون عمد.. وأن الحب لا يستقيم دون مشاركة.. وأن الحياة دون حبٍّ لا توجِّهه الأهواء والمطامع والرغبات الملتوية ليست حياة..
لقد حملتَ أمتعتكَ قافلاً إلى نقطة البداية.. ونحن مثلُكَ ومعكَ نحمل أمتعتنا في رحلة شعرية شاعرية لذيذة في أوبة ما بعد النهاية.. والسلام.


ص.ب 231185 الرمز 11321
فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved