الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th February,2005 العدد : 95

الأثنين 19 ,محرم 1426

مساقات
نَقْدُ القِيَم المعادلة اليابانية والمعادلة العربيّة «10»
د. عبد الله الفَيْفي
... ولمّا كان ذلك الخطاب الدفاعي عن شبح (الثوابت) الذي ناقشه المساق الماضي لا يستند إلى منطق منسجم مع ذاته، فستجده يعود ليناقض نفسه كليا حينما يذهب حسب (موسوعة القيم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية، (الرياض: دار رواح، 1421هـ = 2000م) ، 1: 50) إلى أن القيمة (ليست ثابتة، وإنما تحدّدها الظروف والأحوال، فليس هناك قيمة ثابتة يمكن أن تكون دائماً معياراً صحيحاً يُستند إليه في تحديد القيمة أو التثمين). ضارباً المثل الماديّ بالذهب والماء، فإذا كان الذهب هو معيار القيمة الماديّة عادة، فلقد يغدو عديم القيمة، مقابل غيره ممّا لم يكن معياراً للتقييم، حتى ان رجلاً في الصحراء منقطعاً عن الماء سيدفع ما استطاع من ذهب مقابل جرعة ماء واحدة، عندما تضطره الحياة للمفاضلة بين هذا وذاك. وكذا فإن العلماء الأخلاقيين في العصر الحديث يرون (أن القيمة الخلقية انفعالات ومشاعر وجدانية غير ثابتة، وأنها مطلقة ونسبية فهي لا تثبت ولا تستقر (1) .) وذلك ما أكدته مقدمة (الموسوعة) أيضاً، فيما مرّت به مروراً (1: 56)، حول (كيفية وجود القيمة وعملها)، إذ تنقل عن (صلاح قنصوه)(2) أن القيمة (لا تكون صفة خاصة بالموضوعات، بل نسبية تلحق بأنواع الذوات).
كما يناقض ذلك الفهم الثبوتي للقيم الذي استهلت به الموسوعة مقدمتها ما أشار إليه جزء منها، احيلتْ مادته إلى إعداد (عبدالقادر عبدالله العرابي)، منبّهاً إلى (أن التغير القيمي إنما هو تغير ثقافي قبل كل شيء (3) حيث يرد:
(إن القيم تعيش تغيراً مستمراً، وهي في حركة دائبة دائمة، فما كان بالأمس قيمة منكرة قد يكون غداً مستحسناً، مثال ذلك تعليم المرأة وعملها في بعض المجتمعات، وممارسة بعض المهن الحرفية عند قبائل الجزيرة العربية، وغير ذلك. ومن هنا فإن تعريف (القيمة) ليس سهلاً، ولو طرح سؤال عن ماهية القيم، لكانت الإجابة مختلفة باختلاف مخزوننا الثقافي وتنشئتنا ووعينا، وستختلف الإجابة، باختلاف المستوى التعليمي والمهني. وسبب الاختلاف يتدخل فيه معنى الأخلاق، ومعاييرها، والاتجاهات المعرفية والتشابك بين القيم التقليدية والقيم الحديثة (4).)
وما الاختلاف حول مفهوم (القيمة) حيث أحصى بعض الباحثين مئة وثمانين استخداماً لمفهوم القيمة (5) إلا نتيجة طبيعية للتغير المستمر لدلالة القيمة. لذلك كله كان الصراع حول القيم ديدن المجتمعات البشرية، لا بين ثقافة وثقافة فحسب، ولكن أيضاً في داخل الثقافة الواحدة نفسها. إلا أن هذا الصراع يزداد على الصعيد المجتمعي في (المجتمعات المغلقة) عنه في (المجتمعات المفتوحة) ذلك أن المجتمعات المغلقة تفرض تحت شعار (الثوابت) قيماً ماضوية، تستحيل مع الزمن إلى شكليات، لا تصدر عن قناعة في سلوكيات الأجيال الجديدة، ولكنهم يضطرون إليها اضطراراً تحت ضغط الأعراف ووطأة التقاليد. وبذلك يتحول سلوكهم إلى ما يمكن وصفه بالنفاق الاجتماعي، حينما تناقض القيم الظاهرة القيم الباطنة، بحيث لا يستطيع المرء مصادمة الثبوتية القيمية في مجتمعه، بل لا يستطيع تقبل فكرة التغير والتغيير في ذاتها، وإن كان يعيش حقائقها في واقع حياته، ويترجم سلوكه الفردي بعيداً عن الرقابة الاجتماعية اعترافه الضمني بها. ذلك لنشوء التعارض بين النسق الاجتماعي العام الميال إلى الثبات وأنساق فرعية تتحرك بعوامل الزمن وتحولات الثقافة. وتلك حالة تهدد في النهاية بانهيار القيم الاجتماعية، على غرار ما حدث في هذا العصر من انهيار القيم الاشتراكية الجامدة أمام القيم الليبرالية الفاعلة (6). وليست الجمودية في النظرة إلى القيم العربية ببعيدة عن سريان هذه السنة عليها، ولقد كانت شهدت أولى الانهيارات بظهور الإسلام، ثم شهدت مثل ذلك نتيجة تثاقفها مع الأمم المختلفة، في حين أن المجتمعات المفتوحة بما تتمتع به من قيم الحرية والتسامح تقل فيها الهوة بين ظاهرية القيم وباطنيتها (7)، فتكون أقدر على استيعاب التغيرات الطبيعية، وفق سياقاتها (الزمكانية)، من قبل أن تسفر عوامل التعرية القيمية إلى أن تنهار القيم انهياراً.
ويتضح مما سلف أن القيم الصالحة للبقاء تنمو شجرتها نمواً متصلاً، يواكب حياة الإنسان وثقافته وتطور شروطه ومتطلباته، عِوَضاً أن تموت أو تستبدل بها غيرها. بيد أن هذا النجاح في التكيف القيمي مرهون بقيمتي الانفتاح على الآخر والمرونة الذهنية والنفسية في التعامل مع كل جديد. هاتان القيمتان اللتان إن وجدتا رشحتا الأمة التي تواجدان فيها إلى نهضة حضارية فاعلة، ثم كانتا من أسباب بقائها وتطورها. ولعل هذا هو ما حفظ مثلاً على اليابان قيمها الخاصة وعصمها من الانهيار أو التبدل الجذري. فنجاح المعادلة اليابانية إزاء إخفاق المعادلة العربية يعود في صلبه إلى أن المجتمع الياباني مجتمع مدني في جذوره، بينما المجتمع العربي مجتمع قبلي في جذوره. ذلك أن تعدد الاثنيات واللغات، والتشتت الجغرافي، في اليابان قد جعل عامل التوحد هو عامل الوطن والحضارة لا عامل العرق بموروثه القيمي. لهذا فإن المدن اليابانية هي التي ساهمت في ولادة المجتمع الياباني الحديث وتطوره المعاصر، حين تخلى الوافدون إليها عن كثير من عاداتهم وتقاليدهم الريفية لمصلحة تقاليد المدن. وأبرز تقاليد المدن: المساواة، والإخاء، وتجاوز الكثير من التقاليد الريفية الموروثة، إلى قيم جديدة من المواطنة، واحترام الآخر، بمعزل عن الانتماء الاجتماعي لذلك الآخر، حتى لقد عرفت تقاليد المدن اليابانية في الدراسات اليابانية باسم: (الأخوة المدينية) (8). هنالك حسم الصراع القيمي في المجتمع الياباني، واستطاع اليابان أن يؤلف بسلاسة بين تراثه الخاص وانفتاحه على الحضارة الغربية، تحديداً. ذلك الانفتاح (المحسوب)، إذ ما يزال رغم تقدمه التكنولوجي يعد بعض القيم الغربية، اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، أفكاراً خطيرةKIKenshiso (9). في حين ما زالت المشاريع العربية تعاني الفشل في كسر الطائفية والقبلية والقومية، ودمجها، مجتمعة أو متفرقة، في أنظمة مدنية حديثة، تتخذ سبيلاً لها بين الأصالة والمعاصرة.
ولئن كان التناقض هو طابع الخطاب المألوف لدى المثقفين العرب اليوم، فإن من المألوف كذلك، من المثقفين ومن غير المثقفين، أن يقف بهم الوفاء، أو يقف بهم (النفاق)، لما ينعتونه ب (ثوابت القيم والمبادئ) على صعيد الشعارات فقط. أما على صعيد السلوك فكلهم يدركون أنهم يكذبون على أنفسهم، قبل غيرهم، حينما يتلاعبون بالألفاظ على ذلك النحو، وأنهم في واقع الحال معجبون أشد الإعجاب بما يظهرون له العداء، بل هم محتاجون إليه كل الاحتياج. ولذا تراهم يضربون بقِيَمه النموذجية المَثَل في لحظات الصدق والتجرّد.
ومن هذا يتضح أن نصب ثقافة الآخر عدوّاً تقليدياً ليس إلا نوعاً من الاستهلاك الثقافي الداخلي للأمة العربية والإسلامية، تتلهى به دون نقد القيم، ومحاكمة الذات، وإنصاف الآخر بما له وما عليه، ووفق معايير موضوعية لا معايير بلاغية. (وللبحث اتصال، بمشيئة الله).
إحالات:
1) الربيع، ميمون، (د.ت.) نظرية القِيَم في الفكر المعاصر بين النسبيّة والمطلقة، (الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع)، 27.
2) (1987)، نظرية القيمة في الفكر المعاصر، (القاهرة: دار الثقافة)، 72.
3) موسوعة القيم، 1: 66.
4) م. ن.، 1: 6566.
5) انظر: م.ن.، 1: 67.
6) انظر: م.ن.، 1: 63.
7) انظر: م.ن..
8) انظر مثلاً: ضاهر، مسعود، (2001)، النهضة وتفاعلاتها في العالم العربي واليابان منذ القرن التاسع عشر، (تونس: بيت الحكمة)، 9 61.
9) انظر: ورث، لوي، مقدمة ترجمته إلى اللغة الإنجليزية لكتاب: مانهايم، كارل، (1968)، الأيديولوجية والطوباوية: مقدمة في علم اجتماع المعرفة، ترجمة عبدالجليل الطاهر (بغداد: مطبعة الإرشاد)، 36.


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved