الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th February,2005 العدد : 95

الأثنين 19 ,محرم 1426

المُدن العربية في شعر خالد الخنين 2 2
استدراك على هفوة
عبد السلام العجيلي
في مقالي السابق على صفحات المجلة الثقافية وقد تحدثت فيه عن كتاب الأستاذ عبداللطيف الأرناؤوط حول قصائد الشاعر الصديق الأستاذ خالد الخنين في المدن العربية، لم أقف عند هفوة وردت في مقدمة ذلك الكتاب نسب فيها مؤلفه بيتين قيلا في دمشق نسبتهما إلى الشاعر المهجري الكبير إلياس فرحات، بينما هما في الواقع من قصيدة لشاعر مهجري كبير آخر هو إيليا أبو ماضي.
أعود الآن إلى تلك الهفوة وما تذكرني به من معرفة شخصية لي، على قصرها، بذلك الشاعر الكبير، إيليا أبو ماضي تعود ذكريات تلك المعرفة إلى ما يفوق نصف قرن من الزمن إلى مطلع عام 1949 على التحقيق. هذا التاريخ مسجل على الصفحة الأولى من ديوانه الخمائل وتحت كلمة إهدائه إياي ذلك الديوان. إهداؤه ذاك كان كلمة رقيقة ملأتني غبطة واعتزازاً أيامها، وفيها يقول: (إلى الشاعر الرقيق الدكتور عبدالسلام العجيلي، مع محبتي واعجابي... إيليا أبو ماضي، دمشق في 13 ك2، 1949).
كانون الثاني من عام 1949 ميلادي... ما أبعده من زمن! في ذلك الشهر من تلك السنة قدم إيليا أبوماضي إلى دمشق، ضيفا على الدولة السورية المعتزة باستقلالها الحديث.. زرته بين من زاروه في فندق الأوريان بالاس، ودارت بيننا أحاديث مطولة حول قضايا ثقافية وفكرية وسياسية متنوعة. وأقول إنه لابد من أنه حمل لي تقديرا غير هين من هذه الأحاديث، لخصه في كلمات إهدائه البسيطة التي خطها على غلاف خمائله، وكانت طبعتها الثانية قد ظهرت منذ قليل عن دار صادر للنشر في بيروت وقد احتفت به الحكومة السورية خير احتفاء في إقامته في عاصمتها، كان تتويج ذلك الاحتفاء حفل تكريم أقيم على مدرج الجامعة السورية، وفيه ألقى قصيدته المشهورة التي نُسب بيتان في مطلعها إلى إلياس فرحات في الهفوة التي سبق لي ذكرها.
ولابد لي من القول إن التزاماتي النيابية في تلك الأيام وكنت فيها نائبا عن بلدتي في البرلمان السوري، حرمتني من حضور ذلك الحفل التكريمي لاضطراري إلى السفر إلى الرقة بلدتي في حينها لم أسمع تلك القصيدة ملقاة بلسان مبدعها من فوق منبر مدرج الجامعة السورية، وإن كنت اطلعت على أبياتها حال عودتي إلى دمشق، كما حفظت كثيرا من تلك الأبيات عن ظهر قلب كان مطلعها الذي لا ينسى هما البيتان التاليان:
حي الشآم مهنّدا وكتابا
والغوطة الخضراء والمحرابا
ليست قبابا ما رأيت وإنما
عزم تمرد فاستطال قبابا
واستمر إيليا في التغني بدمشق ماضيا وحاضرا، بأبطالها وجهادها وبأمجادها الغابرة والمعاصرة، إلى أن نطق ببيت رأيته، ولا أزال أراه، بيت القصيد في رائعته تلك. ألا وهو البيت الذي يقول فيه:
عجبا لقومي، والعدو ببابهم
كيف استطابوا اللهو والألعابا؟!
وسأعود إلى البيت في آخر هذا الكلام.
قبل ذلك أقول إن الاحتفاء بإيليا أبوماضي في تلك الزيارة لم يكن مقصوراً على الدولة وجهاتها الرسمية، بل اشتركت به أندية ثقافية متعددة كان أبرزها الصالون الأدبي النسائي المعروف باسم حلقة الزهراء. كانت حلقة الزهراء منتدى ثقافيا أقامته سيدات دمشق المتأدبات في عام 1945 م وتبرعت السيدة زهراء العابد، زوجة رئيس الجمهورية الأسبق محمد علي العابد، بأن يكون منزلها مقرا لاجتماعات تلك الحلقة وكان من حظي أن أولئك السيدات المثقفات نسّبنني، وأنا في السنة الأخيرة من دراسة الطب، لأن أكون مع لفيف من كبار مثقفي دمشق في تلك الأيام عضوا في تلك الحلقة استمررت في عضويتي تلك حين أصبحت نائبا برلمانيا عن بلدتي وبهذه الصفة حضرت حفل تكريم حلقة الزهراء للشاعر المهجري الكبير وكنت أحد مستقبليه فيها.
كان استقبالا جميلا في تلك الأمسية سر فيه ضيفنا كل السرور بما أحاطته به سيدات الحلقة من عناية ورعاية، لعله لم يكن ينتظرهما من وسط نسائي محافظ في دمشق البعيدة عن مقره في نيويورك الأمريكية المفرطة في التحرر ولابد لي من القول هنا إن الثقافة كانت واحدة من ميزات سيدات حلقة الزهراء وفتياتها. كان إلى جانبها اللطف والأناقة والشباب والجمال عند كثير من الحاضرات. كل هذا أطلق لسان إيليا أبو ماضي بجميل ما نظمه من قصيد في الثناء على المرأة بصورة عامة، مدحا وتقديرا وإعجابا وتغزلا.
أذكر أن مجلس ضيفنا من بهو صالون الحلقة كان في أقصاه وكنت أنا بعيداً عنه في أقصى الناحية الثانية من البهو، فكنت أتبادل وإياه الحديث من فوق رؤوس المدعوات والمدعوين. وصل في إنشاده في شعره عن المرأة إلى بيت من قصيدة له لامية طويلة يقول فيه، وهو يعني به النساء:
وكل نهار لايكن شموسه
فذلك ليل حالك وطويل
وتشاء المصادفات أن ينقطع التيار الكهربائي عن المنزل في تلك اللحظة فتعم الظلمة الدار ارتفعت أصوات السيدات وهن يصحن: شمعة.. شمعة! وهنا رفعت أنا صوتي مخاطباً الضيف في مكانه المبعد: يا أستاذ إيليا، حولك الكثيرات من الشموس اللواتي تتحدث عنهن.. أجمل نساء دمشق كلهن لم يغننّ عن شمعة واحدة يرى بعضنا على ضوئها وجوه بعضنا الآخر!
ارتفعت الضحكات من حولي ولاسيما من الضيوف الرجال الذين شمتوا بما وقع أما من جانب السيدات بين الحضور فقد علت الاحتجاجات على قولي ولولا بقية من اللطف والتهذيب في طباعهن الكريمة لنالني منهن ما لا يحمد عقباه.
عادت الكهرباء إلى المنزل وشعت فيه الأضواء من جديد وانقضت جلسة تلك الأمسية على خير ما يرام وفي طريق عودتي إلى الشقة التي أسكنها أحسست بأن كل الكلام الجميل في القصائد الرائعة التي ترددت في هذه الأمسية قد خبا وهجه في وجداني أمام البيت الذي قفز إلى خاطري فجأة من قصيدة ضيف الأمسية التي ألقاها في مدرج جامعة دمشق منذ أيام:
عجبا لقومي والعدو ببابهم
كيف استطابوا اللهو والألعابا؟!
تذكرت هذا البيت وأنا أصحح، شفهيا، لصديقي مؤلف كتاب العواصم والمدن العربية في شعر خالد الخنين خطأه في نسبه مطلع قصيدة (أبو ماضي) التي منها هذا البيت إلى الشاعر المهجري الآخر إلياس فرحات فرحت أخاطب الشاعر الكبير من أعماق وجداني قائلاً:
أستاذ إيليا. قلت هذا الكلام، في مطلع عام 1949 م من القرن الفائت أعني منذ ستة وخمسين عاما قبل اليوم ترى ما الذي تقوله اليوم لقومك وقد حل العدو بخيله ورجله في عقر دارهم، وراح يقضم أرضهم شبرا وراء شبر ويذبح أبناءهم فردا وراء فرد، وهم مشغولون عن ذلك بالغناء والتصفيق والرقص؟ ألا يا ويلتاه، ألا يا ذلاه، ياعزيزي أبوماضي.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved