الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th March,2005 العدد : 99

الأثنين 18 ,صفر 1426

السرد والوافد.. الرسالة وراوي الغربة
د. صالح زيَّاد *
راوي عبدالعزيز مشري يحكي الوافد من العمال أيضاً من موقع شاهد العيان، لكنه يحتفظ بمسافة ما عن المشهد الذي ينتزعه من الطرقات والأرصفة والميادين، ومن غرف المستشفيات.. ناظراً وسامعاً، وأحياناً ناظراً دون سماع أو العكس.. ومع أن آلية التسجيل تطبع شهادة راوي المشري فإن قارئ قصصه لا يستطيع الوقوف على الحياد، إذ يغمره الحس الإنساني الشفيف ويأخذه التعاطف إلى حيث المعاناة المصطلية بالغربة والكفاح المضني في سبيل لقمة العيش المبللة بدموع الفقد وأوجاع البعاد.
تحت عنوان (يصلكم مع حامل الرسالة) وفوق توقيع التاريخ 121982م الدمام، في مجموعته (أسفار السروي) (1986م) صورة لعامل يمني يملي رسالة إلى أبيه.. ويبدأ المشهد بوصف المكان موضع الشهادة وصفاً يمنح الشخصية موضوع الشهادة سياقاً مكانياً متآلفاً مع نموذجها الذي قذفته الغربة في عراء الأرصفة: (الحياة على الرصيف نشطة إلى حد أن السكون يفشل في بسط هدوئه على البلاطات الرمادية.. الليلة ليست يتيمة فليال شبه متناضدة تحتويه فوق الرصيف.. الحياة فوق الرصيف، كانت أكمل نشاطاً ربّما لأن خطو الأقدام المتواصل على البلاطات أوشك أن يكون قليلاً.. وأن يكون بطيئاً. وأن يكون خفيفاً).
هنا يغدو الرصيف أليفاً مدجناً بالتعود، ودلالته المستقرة على مكان العبور، حيث خطو الأقدام المتواصل، مهيأة الآن لإحلال دلالة أخرى والتجادل معها والتجاور، وهي دلالة الاحتواء والاستقرار الذي يغدو احتواءً واستقراراً عابراً، فهو احتواء الرصيف!!. ولا تنفصل هذه الدلالة وأطيافها الإيحائية وهي تلج بنا فضاءات المدن الاسمنتية الممعنة في القسوة والصمت، عن دلالة اللحظة الزمانية وهي الليل التي تضفي على الرصيف من معاني العراء ما يضاعف من صلادته ويجدل معها ضفيرة لمعنى غربة سافرة وممهورة بالإصرار، دون أن تنسى وجع بعادها وأشواقها الإنسانية. ويأتي الحدث الذي يرصده الراوي بعدئذ، هكذا:
(اقتعد مكانه المألوف، قرب عمود النور.. ذي الذراعين الممتدتين، ثم أملى على رفيقه الذي حنى رأسه نحو الورقة البيضاء المفرودة فوق ركبته اليمنى.. وراح يرصد بعينيه ذبذبة القلم بين أصابعه المرتجفة. أملى عليه بلهجة يمانية.. فيها كثير من تكلف اللغة: وسلامي إلى الوالدة الحنون، وإلا الأخ مرشد وحرمه، وإلى عمتي رفعة وأولادها.. وسلامي إلى أختي حجة، وشقيقي العزيز حميد، وأنا إن شاء الله، في أول شهر الفطر الثاني، أكون عندكم.
يصلكم مبلغ ستمائة ريال سعودي، مع حامل الرسالة، وأرجو منكم.. المعذرة يا والدي العزيز، لأن الشغل هذي الأيام قليل والشغالين الأجانب.. كثروا في البلد واحنا.. لا نعرف الإنجليزي.. ولكن يا والدي العزيز.. نرجو منكم.. الدعوات الصالحة.. والسلام ختام).
الرسالة بوصفها أداة اتصال يجتمع فيها الغريب بأهله، ويحتضنهم بأشواقه، تختزل الاغتراب إلى مسافة الانفصال المكاني، فالوعي عامر بذاكرة ذات بعد مكاني اجتماعي، وهو بعد يأخذ صفة المركز في وعي الشخصية، ليغدو بمثابة الخلفية التي تصنع لما أحدثه السفر من تشتت وتمزق وجهاً من وجوه التماسك. لكن هذا لا يحجب وجهاً أعمق لاغتراب الوافد تكشفه الرسالة بأكثر من دال ودلالة، فإملاؤه ملفوظ الرسالة الذي يدلل على أميته لا ينفصل عن اعتذاره لأبيه على ضآلة الكسب، لقلة الشغل وكثرة الشغالين الأجانب وعدم معرفته للإنجليزي، فالنتيجة هي استشعار الغربة الثقافية المعرفية والعملية والشخصية.. ولأنها تتصل بتكوين الذات وقدراتها يغدو الإفضاء بها إلى أبيه مجاوزاً لمعنى الإخبار عن الواقعة أو الوصف لها، إنه المعاناة المبطنة بنعي الذات ويأسها، وهو اكتشاف فاجع لزمن مختلف وغريب!.
ولم يشأ عبدالعزيز أن يترك راوية المشهد دون أن يعلن للقارئ عن حضوره، فتنتهي القصة بقوله: (كنت حذراً.. حذراً.. حذراً.. كنت أفرغ كل شحنات حدسي لالتقط الحديث، دون أن يشعرا بحضوري. وكنت ممتلئا بالحنين.. إلى حدود البكاء.. امتد بصري في حفل متلألئ.. من أضواء العواميد والسيارات، وانكاسارات الشعاع.. التي هطلت بحرارة).
هنا يحضر الراوي، بكلماته التي تتسم أسلوبياً بقدر من الرسمية والعموم وبشكل يختلف عن لغة الرسالة التي تأخذ منحى جهوياً ومكانياً، وبذلك يغدو منفصلاً عن الحدث، لتتحقق المسافة الكافية تجاه مادة الرؤية وموضوعها، لكن تلك المسافة لا تعني أن الرؤية بلا زاوية إطلال أي بلا وجهة نظر، إنها فحسب مسافة الموضوعية اللازمة فنياً، بحيث لا يبقى الراوي تسجيلياً وبلا شعور، كما لا يبقى الشعور شخصياً ومقحماً، إن الراوي يشاهد ويسمع دون أن يشعرا به، وهو يبذل تجاه الاستماع والرؤية جهد الحذر الشديد: (كنت حذراً.. حذراً.. حذراً) واستنفاد الوسع في سبيل التصنت والتخفي، وهذا يعني اهتمامه بهما وقلقه عليهما الذي يبلغ به هذه الدرجة الدقيقة من التسجيل لهما.. أما موقفه وشعوره المعلن فيأخذ صفة ارتداد الصدى بحيث نقف غير بعيد عن تماهي راوي جار الله الحميد مع شخصية الوافد على نحو ما رأينا قصته في الجزء السابق من هذه المقالة، فراوي عبدالعزيز لا يختلف عن شخصية قصته، بل يبدو أكثر تمثيلاً للحنين وإحساس الفقد والضياع، إذ هو ممتلئ بالحنين إلى حدود البكاء، وبصره الممتد في الأضواء (وانكسارات الشعاع التي هطلت بحرارة) حافة لاغتراب لا تلم مزقه رسالة.


*zayyad62@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
مكاشفة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved