الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th April,2003 العدد : 9

الأثنين 26 ,صفر 1424

الوجه الثقافي في الحرب على العراق
شعارات المعركة (1)
د. صالح زيَّاد

الحرب ليست، فقط، صداماً بين المصالح وتعارضاً بين الإرادات، إنها صدام بين التصورات وتعارض بين الثقافات، ولهذا يطلق كل قبيل على الحرب مسمى له بعده الثقافي والإيديولوجي الذي تنطوي المعركة المادية بما تمثله من دمار ودماء وبؤس إنساني تحت لافتته وشعاره.
وهذه الأسماء التي تعنون المعارك تجاوز حتماً الطبيعة الإرشادية من حيث هي دال محايد وشفيف في الدلالة إلى الرمزية للحدث التي تكتنز بالتصور والإحساس وتؤلف، عبر ما يمثله الرمز من جماعية، تصور وإحساس الجنود والمحاربين من وراء إحساس وتصور الجماعة الثقافية التي ينتمون إليها، فتستبدل الجماعة بالفرد، والوجدان بالعقل، مفجرة مخزوناً هائلاً من الارث الثقافي بما يمثله من ضخامة شعورية ولا شعورية تسند الموقف القتالي وراء الشعار/ الرمز، وتبرره.
في الحرب على العراق، شنت أمريكا وحليفتها بريطانيا هجمتها تحت اسم «حرب تحرير العراق»، و«التحرير» من حيث هو اشتقاق من «الحرية» يغدو شعاراً رمزياً يخبىء المصالح الاقتصادية والسياسية ويطمسها وراء حمولته التي تكتنز بالطموح الإنساني المطلق تجاه الحرية معزَّزاً بتجربة العالم الحر وكفاحه المرير، تاريخياً، في سبيلها، ومصطحباً دلالات الخلاص والإنقاذ الغائرة في الوجدان المسيحي.
وليست وزارة الدفاع الامريكية ونظيرتها البريطانية، فقط، هما من يطلق هذا الاسم، ويرفعان شعاره، فمن ورائهما حشد من وسائل الإعلام المطبوعة والمرئية تشيع هذا الاسم وتتبناه. وفي أكثر من وسيلة إعلامية نقرأ أو نشاهد أحداث الحرب تحت عناوين متنوعة في صياغة معنى التحرير أو الحرية للعراق من مثل: Operation Iraqi Freedom مستغلةً القيمة الثقافية للحرية في الترويج للحرب وفرضها والدعاية لها وتبريرها.
والمسمى الأمريكي والبريطاني للحرب على العراق، إذ يضفي النزاهة والمقاصد الإنسانية على الذات الغربية، وإذ يحيِّد النزوع الاستعماري والذرائعي للموقف السياسي فإنه يحمل موقفاً اتهاميّاً تجاه الآخر/ الخصم، يجرده من الإنسانية ويمحو عنه كل معاني المسؤولية في أبعادها السياسية والوطنية التي لا تقوم دون الحساب للآخر، فيغدو هذا الخصم (أي العراق) وحشاً مرعباً ومهدداً لذاته وللعالم، مما يستدعي الإنقاذ والشهامة استدعاءً ينقلب معه المحايد، وليس فقط المناصر للعراق إلى موقف معاد للإنسانية ومهدد للسلام. هذه الحمولة الدلالية، للشعار الأمريكي والبريطاني للحرب على العراق، تفجر مكنونها الرمزي في التصور الغربي بوساطة الثقافة والإيديولوجيا على النحو الذي يفارق المنطق ويعلو على العقل، وهي بهذه الكيفية لا تصمد أمام أسئلة العقل ومحاكمة الضمير.
فلماذا تحرير العراقيين مثلاً ؟ وليس الفلسطينيين؟ ولماذا الحرب على العراق وليس كوريا الشمالية؟ أو الهند؟ أو باكستان؟ ولماذا يحارب الدكتاتور الآن وأنتم مَنْ صَنعه وصنع أكبر ديكتاتوري العالم ابتداءً من سوهارتو وماركوس وليس انتهاءً ببينوشيه؟
هكذا يغدو العامل الثقافي بما يمثله من عمى وما يدخره من لا معقول وسيلة السياسة والاقتصاد إلى تحقيق أهدافها وإخفاء أنيابها وتبرير جرائمها. وليس استغلال الدين في هذه الحرب إلا مظهراً من مظاهر التعمية الثقافية والإلباس الوجداني التطهري، فقد أصبح دبليو بوش بحسب الواشنطن بوست أكثر رؤساء أمريكا تديناً، في الوقت الذي أنكر بابا الفاتيكان ومعظم إن لم يكن كل الكنائس في أمريكا والعالم، الحرب وجرموها.
وفي المقابل، فإن العراق اتخذ من (العدوان) و(الغزو) و(الاحتلال) و(الاستعمار) و(العلوج) و(هولاكو العصر).. وغيرها من الأوصاف التي تشرح وتستبطن ما أطلق عليه (أم الحواسم)، دوال رمزية للمقاومة والدفاع تخبىء تثبيت النظام والحفاظ على رأسه وفرديته وراء حمولتها التي تكتنز بتصورات الثقافة العربية والإسلامية الراسخة في التاريخ القريب والبعيد تجاه أعدائها منذ أبي جهل وهولاكو، ومنذ ذي قار وبدر والقادسية وحتى كفاح الاستعمار وبوش وبلير، معززةً بالوجدان الشعبي النازف بدم المقاومة والتحرر، ومصطحبةً دلالات الجهاد ومعاني الكرامة والشهامة والشجاعة العربية، وخيرية الأمة وفوقيتها على الأمم.
والمسمى العراقي والعربي والإسلامي للحرب، يقف بالضد من المسمي الأمريكي والبريطاني ناقضاً دلالته ومزيحاً لأفق معناه، في صيغ تكشف ما يسكت الخطاب الأمريكي عنه. أي أنه، على عكس الخطاب الأمريكي، يحيِّد النزاهة والمقاصد الإنسانية، ويضفي على الحرب معاني النزوع الاستعماري والذرائعي، في موقف اتهامي مضاد يجرد خصمه (الأمريكي) من الإنسانية، ويمحو عنه كل معاني المسؤولية في أبعادها السياسية، التي لا تقوم كما قلت سابقاً دون الحساب للآخر فيغدو هذا الخصم عدواً عاماً للدين والأرض وللعرب والمسلمين وللفلسطينيين والعراقيين، مما يستدعي الجهاد والمقاومة استدعاءً ينقلب معه المحايد، وليس فقط المناصر، إلى موقف العمالة والخيانة والنفاق والعداء للإسلام والعرب.
وهذه الحمولة الدلالية للشعار العراقي تفجر مكنونها الرمزي في التصور العربي والإسلامي، أيضاً ومن جهتها، بوساطة الثقافة والايديولوجيا على النحو الذي يفارق المنطق ويعلو على العقل، لأنها لا تصمد أمام اسئلة العقل ومحاكمة الضمير، فلماذا كان هؤلاء «العلوج» اصدقاءك وأنت تحارب ذاتك الثقافية في إيران وفي حلبجة؟ لماذا غزوت الكويت ولم تغز إسرائيل؟، هل ينقرض الشعب ليبقى الطاغية؟ وهل للسياسة وجه بريء من المقاصد والأغراض؟!
هكذا يغدو ايضاً في حال العراق العامل الثقافي بما يمثله من عمى وما يدخره من لا معقول وسيلة السياسة والسلطة الفردية الى تحقيق هدفها واخفاء طموحها الحقيقي الى الثبات على العرش والحفاظ على الكرسي، وليس استغلال الدين من قبل المهيب القائد إلا مظهراً من مظاهر التعمية الثقافية والحشد الجهادي، خاصة قد رأيناه في بدايات الحرب ساجداً وراكعاً وداعياً في خشوع العابدين، كأنها صلاة مودع.


zayyad62@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون

ارشيف الاعداد


موافق

ابحث في هذا العدد

للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved