الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th April,2003 العدد : 9

الأثنين 26 ,صفر 1424

حالات حصار
الأدب والهوية والصراع العربي الإسرائيلي! «2 - 3»
سعد البازعي
JPG.16
رأينا في الحلقة الماضية، التي تشكل الجزء الثاني من هذه الدراسة، أن من الكتاب الاسرائيليين من يتحدث بوضوح عن علاقة تبادلية وشيجة بين الهويتين العربية والإسرائيلية، وما يبنغي اضافته هو أن تلك العلاقة ليست محل اتفاق بين الجميع، فإن بدت واضحة من الزاوية الثقافية الاسرائيلية، فإنها ليست كذلك من الزاوية الأخرى، فباستثناء العرب الذين صاروا مواطنين إسرائيليين «وهؤلاء يشملون عرباً فلسطينيين صاروا أعضاء في الكنيست وكتاباً يؤلفون بالعبرية»، فإن الفلسطينيين ظلوا محافظين على رؤية لا تفرق بين المجتمعين، الفلسطيني، والإسرائيلي تفريقاً واضحاً فحسب، وإنما ترى الإسرائيلي بوصفه معتدياً وغربياً جاء واستولى على أرض ليست له، وجاء مفهوم الهوية في الجانب الفلسطيني، مؤسساً على قناعة أساسية بوجود اختلافات هائلة بين اليهود الأوروبيين، ومعظمهم من الأشكيناز، والمجتمع المسلم أو العربي الذي عاش في فلسطين لعدة قرون، ويمكن النظر إلى قسم كبير من الأدب العربي الفلسطيني من حيث هو سجل متصل لهذه النظرة، كما نرى في الطريقة التي يصور بها درويش الجندي الإسرائيلي، رمز الهيمنة العسكرية والسياسة الإسرائيلية، وهي الطريقة التي نجدها أيضاً، على نحو ما، في أعمال عدد كبير من الشعراء وكتاب القصة وغيرهم من الفلسطينيين.
غير أن الكتِّاب من حيث هم مثقفون أحرى بأن ينظروا للمسألة من زاوية مثقلة بالأسئلة المقلقة التي تنفرج على متاهات من التردد والغموض والمفارقة، ومن نتائج ذلك أننا نجد في أعمال أولئك الكتاب خطابين مختلفين ومتداخلين في كثير من الأحيان: خطاب يفصح عن الغضب وعن القناعة الأساسية لدى الفلسطيني العادي بأن ظلماً فادحاً قد ارتكب وما يزال يرتكب في فلسطين ضد السكان العرب، وخطاب مثقل بغير قليل من التردد والنظرة الانسانية التي تنظر إلى الإسرائيلي العادي بوصفه ضحية لظلم يظلل الجميع،، وواقع الأمر هو أن الخطابين ليسا متساويين في القوة أو في الحجم: الخطاب ذو النزعة الهجومية/ الدفاعية هو الأقوى من ذلك الذي يبحث عن منطقة وسطى، والخطابان موجودان أحياناً في العمل الواحد، كما في حالة حصار، فنحن نصدق درويش حين يقول في أحد نصوص ذلك العمل إنه يشعر بالتعاطف مع العدو من حيث هو ضحية لنفسه، ولكننا في الوقت نفسه نكتشف أن الشعور الطاغي لديه كفلسطيني بالعدوان لا يترك مجالاً واسعاً للتعاطف، فحين يخاطب درويش الاسرائيليين فإنه يخاطبهم في المقام الأول بوصفهم قوى عدوانية تفرض حصاراً وكراهية وتحتاج من ثم إلى قدر كبير من الانسانية:
أيها الواقفون على العتبات ادخلوا،
واشربوا معنا القهوة العربية
(قد تشعرون بأنكم بشر مثلنا)
أيها الواقفون على عتبات البيوت،
اخرجوا من صباحاتنا،
نطمئن إلى أننا
بشر مثلكم!
يطغى على حالة حصار موقف ساخر هو فيما يبدو لي سمة رئيسية على أعمال درويش في مرحلة النضج، أي المرحلة الممتدة منذ أواسط السبعينيات تقريباً، ففي مجموعته «لماذا تركت الحصان وحيداً «1995» يعبر درويش عن موقف آخر مثقل بالسخرية الاحتجاجية المرة ضد المحتلين اليهود الذين يظلون بلا أسماء، والذين يشار إليهم ضمناً في كلمة «أيضاً» التي تتكرر عدة مرات:
نحن أيضاً لنا صرخة في الهبوط إلى حافة
الأرض، لكننا لا نخزن أصواتنا
في الجرار العتيقة، لا نشنق الوعل
فوق الجدار، ولا ندعي ملكوت الغبار،
وأحلامنا لا تطل على عنب الآخرين،
ولا تكسر القاعدة!
المقصود من «أيضاً» الساخرة هنا هو ابراز الحقيقة البسيطة، والمنسية أحياناً، وهي أن الفلسطينيين ليسوا أقل انسانية من أي شخص آخر، أنهم معرضون للمعاناة مثل أي انسان آخر، غير أن نغمة التوسل، بما تنطوي عليه من ضعف، ما تلبث أن تتعالى لتصير ميزة مصدر تفوق أخلاقي، لا سيما حين تتضمن المقارنة علاقة الناس بالبيئة، الحفاظ على الوعول، رفض القوة العدوانية وما فيها من أوهام «ملكوت الغبار»، واحترام ممتلكات الآخرين، وواضح أن الخطاب هنا ينتهي بإدانة ضمنية للطرف الآخر.
في دراسة متميزة ل«المكان والهوية في الأدب الفلسطيني» تقدم الباحثة الأمريكية باربرا بارمينتر parmenter ملاحظات عميقة بشأن الخطابات المتضادة حول الأرض في الثقافتين الفلسطينية والإسرائيلية، تقول إنه بينما تنامى الخطاب الفلسطيني من «علاقة يومية شخصية واجتماعية بين الناس ومحيطهم»، نجد أن الصهاينة، مثل المسيحين الغربيين، تبنوا «تعبيراً واعياً ومعقلناً حول المكان»، ذلك التعبير كان مستمداً في مجمله من الكتاب المقدس، يترجم الأسماء من النص إلى المشهد الجغرافي، ويتضمن بطبيعة الحال عملية احلال لأسماء محل أخرى مما يعني الكثير من الاسقاط والمحو، فمنذ نهاية القرن التاسع عشر كان المهاجرون اليهود يأتون مسلحين بالثقة الذاتية وبالوعود والدعم الغربي، الشامل لاستعادة الهوية القديمة لبني إسرائيل، يفردون مطويات من النصوص ليس الفلسطينيون فيها سوى أناس يؤكدون مصداقية ما جاء في تلك المطويات، تقول بارمينتر محاكية لسان حال أولئك المهاجرين اليهود، إنهم حين أعادوا صياغة ما في تلك المطويات من قناعات رأوا أن «المجتمع الفلسطيني لذلك السبب جاء ليعرفنا بأرضنا المقدسة»، بدلاً من تصوير الأرض وشعبها بوصفهم نتاجاً لتاريخهم، يصيرون شخوصاً في تاريخنا» وتستشهد الباحثة الأمريكية بما ذكره ميرون بنفنستي، وهو ابن أحد المستوطنين الأوائل في فلسطين، والذي أصبح رئيساً لبلدية القدس بالاضافة إلى كونه كاتباً مشهوراً بمؤلفاته حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فقد قال بنفنستي بشأن مفارقات الخطاب الصهيوني: «إن من المفارقة الواضحة، أن الذي خلد الهيكل الخارطة اليهودية وحفظها هم نفس الشعب الذي سعينا إلى محو أسماء الأماكن التي وضعها».
لم يكن المحو في حقيقة الأمر محصوراً، كما يقول بنفنستي، بأسماء الأماكن، لقد مس الناس أنفسهم، كما هو معروف، ذلك أن النداء الصهيوني إلى اليهود ليهاجروا إلى فلسطين تأسس على المبدأ العدواني الشهير أن فلسطين كانت أرضاً بلا شعب، في عام 1969م أعدت غولداً مائير في حديث إلى صحيفة «الصندي تايمز» البريطانية أنه حين جاء الصهاينة إلى فلسطين.
لم يكن هناك شيء اسمه الفلسطينيون.. لم يكن الأمر كما لو أنه كان هناك شعب فلسطيني في فلسطين يعد نفسه شعباً فلسطينياً
وجئنا وألقينا بهم بعيداً وأخذنا بلادهم منهم.. لم يكونوا موجودين.
هذه القناعة الاستعمارية أو الاستيطانية كان معناها أن مهمة اليهود القادمين إلى فلسطين أن يعيدوا تسمية الأرض ليستعيدوا هويتها ويستعيدوا هويتهم من خلال ذلك، تقول بارمينتر: «كان شبان الصهاينة يسيرون في الأرض، يحددون هوية المواقع، ويرصدون أسماء النبات والحيوان، ومن خلال ذلك يؤكدون أحقيتهم بالمكان، والهوية»، تلك القناعات هي نفسها ما يطالعنا في الأدب اليهودي حتى قبل ايجاد إسرائيل، كما سبق لهليل بافلي أن ذكر عام 1961: «في الحقيقة أن ممكن للمرء أن يقول أن أرض إسرائيل بأكملها تمت استعادتها شعرياً قبل وقت طويل من استعادتها سياسياً».
الاستعادة الشعرية التي يشير إليها بافلي تصدق بشكل خاص على أعمال الشاعر اليهودي الصهيوني حاييم بياليك، الذي يعد من رواد الشعر اليهودي المعاصر، والذي عاصر بداية المشروع الصهيوني وعبر عنه بحماسة ثم ترجم حماسته بالهجرة إلى فلسطين عام 1924م، بيد أن الاشارة تصدق أيضاً على أعمال آخرين كثر من الكتاب اليهود، ومنهم بشكل خاص يهودا أميخاي الذي تنامى شعرياً على نحو موازِ مع نمو دولة إسرائيل، وقد ظل أميخاي طوال حياته يبدي ولاء قوياً لإسرائيل، والمشروع الصهيوني، لكن ما يلفت النظر هو أن بعض أعمال ذلك الشاعر ترينا إياه وهو يبدي بعض التردد والشكوك تجاه مستقبل بعض المهاجرين إلى إسرائيل، ففي قصيدة عنوانها «اليهود في أرض إسرائيل»، تضمنتها مجموعته الصادرة عام 1973م أغانٍ للقدس ولنفسي» يصور أميخاي المأزق الذي يواجه المهاجرين من أوروبا حين يحاولون الاستيطان في أرض يرتبطون بها عبر موروثهم الثقافي، ولكنهم يجدون أن من الصعب تفادي احتمالات الاغتراب من تلك الأرض نفسها حين تلوح لهم أصولهم في أماكن أخرى عميقة تستعصي على النسيان، ومما يجعل الأمر أسوأ هو أن المهاجرين يبدون وهم غير قادرين على تبين الأماكن الأخرى بوضوح، فهم، كما يقول، «ينسون من أين جاؤوا»، أو كما في مطلع القصيدة:
ننسى من أين جئنا، أسماؤنا
اليهودية من المنفى تبين عناء
تثير ذكرى الزهر والفاكهة، ومدن العصور الوسطى،
المعادن، والفرسان الذين تحجروا..
ماذا نفعل هنا إذ نعود إلى هذا الألم؟
الحنين الذي جف في المستنقع،
أزهار الصحراء حلوة لنا ولأطفالنا،
حتى حطام السفن، التي غرقت على الطريق،
وصلت إلى هذا الشاطئ،
حتى الرياح وصلت، لكن لم تصل كل الأشرعة،
ماذا ترانا نفعل
في هذه الأرض المظلمة التي تلقي
بظلالها الصفراء، التي تعمي العيون؟
«أحياناً يقول الانسان، حتى بعد مرور أربعين
أو خمسين عاماً: الشمس تقتلني»
ماذا نفعل بأرواح من الضباب، بالأسماء،
بعيون من الغابات، بأطفالنا الحلوين، بدماء سريعة؟
الدم المسفوك ليس جذوراً للأشجار،
ولكنه الأقرب إليها
بين ما يملكه الإنسان.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون

ارشيف الاعداد


موافق

ابحث في هذا العدد

للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved