الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th April,2003 العدد : 9

الأثنين 26 ,صفر 1424

عائد.. من أمريكا!!
قصة بقلم/ علوي طه الصافي
JPG.18
أخذ مقعده في الطائرة.. الركاب يتوافدون في صف طويل كأفعى مبتورة الذنب بين المقاعد المصفوفة على الجانبين.. كل واحد منهم يحمل في يده جزءاً من بطاقة صعود الطائرة عليه رقم المقعد.. الناس في الطائرة يتحولون إلى أرقام.. حتى رواد الفنادق والسينما والمسرح يتحولون إلى أرقام.. نزلاء السجون يقبعون في زنزانات لها أرقام.. وفي المصحات غرف المرضى تتميز بالأرقام.. أرقام.. أرقام.. العالم كله تسوده لغة الأرقام.. حتى عقارب الزمن تسير على الأرقام!!
كان يتفرَّس أشكال، ووجوه، وألوان، وسحنات ركاب الطائرة، ورؤوسهم المختلفة المتعددة.
الطائرة تحوَّلت إلى مهرجان.. هذا رأسه وخطه الشيب.. وآخر رأسه حقل مجدب.. وثالث شعره كالفلفل الأسود.. ورابع أشقر الشعر.. وخامس أرخى شعره إلى كتفيه كذؤابات ليل دون نجوم!! رؤوس.. وشعور، وأكتاف.. وأيدٍ بعضها حمل حقيبة سفر.. وبعضها يستند على رؤوس المقاعد.. اللغات التي يتحدثون بها كأنهم في الأمم المتحدة.. يجتمعون بشراً واحداً، ولغاتهم ومشاعرهم شتَّى!!
ما دخلي، والأمم المتحدة.. دع الخلق للخالق!! حدَّث نفسه في الوقت الذي داهمت فيه تفكيره المضيفة طالبةً ربط «حزام الأمان»!! حمقاء هذه المضيفة.. هل تظنه متخلفاً لا يعرف أن عليه القيام بربط هذا الحزام الأخرس؟ لقد ركب في حياته مئات الطائرات.. طاف بكثير من بلدان العالم.. ترى هل تعرف هذه المضيفة الحمقاء ذلك؟!
أي أمان يعرفه العالم الذي يغلي.. الحروب لا تتوقف، وآلاف الضحايا الأبرياء يذهبون وقوداً لهذه الحروب التي تشتعل بالحق، وبالباطل بالدم البارد، والساخن.. بسبب ودون سبب!!
العالم يحكمه عفريت مجنون.. تتسلط عليه غرائزه الشيطانية.. القوة هي المنطق.. القوي يبطش بالضعيف.. لا مكان ولا أمان لحياة الضعف، والضعيف.. كأن الانسان يستعيد تاريخه الأسود القديم.. تاريخ الغابة.. وقوانين الغابة.. هذا إذا كان لحياة الغابة قوانين!!
تنبَّه إلى جاره الذي يحتل المقعد المجاور له.. تعوَّد أن يقيم حواراً مع أي شخص يجلس بجواره في أي رحلة جوية.. ابتسم في وجهه.. حيَّاه.. ردَّ عليه جاره في اقتضاب.. بعض الناس لا يحبون إقامة علاقة مع إنسان يجهله.. وبعضهم يحرص على مثل هذه العلاقة!!
بعد فترة من إقلاع الطائرة أعلنت المضيفة أن من حق الركاب أن يفتحوا الحزام.. مع السماح بالحركة.. لكنها أردفت بعد ذلك أنه من الأفضل الإبقاء على الحزام مربوطاً من أجل سلامة جميع الركاب!!
ما هذا التناقض في هذه الأوامر والتعليمات؟
هذا هو منطق العصر.. الدول ترفع شعارات الحرية الشخصية، والديمقراطية، وحقوق الانسان.. لكن الأفعال تختلف، وتناقض كل الشعارات المعلنة.. فهم من خلال هذه الشعارات، وباسمها يكممون الأفواه.. ويلقون بالناس في غياهب السجون.. يعذبونهم.. يعلنون حظر التجول، وحالات الطوارئ.. يقتلونهم.. يمارسون الارهاب وتغزو الدول القوية شعوب الدول الضعيفة.. يقتل الآلاف من الأبرياء العُزَّل بكل وسائل تقنية الحرب الحديثة، الممنوع منها دولياً وإنسانياً، وغير الممنوع.. وبكل وسائل الارهاب تحت شعار «محاربة الارهاب».. يطبِّقون سياسة كل من هو ليس معنا فهو ضدنا.. والغاية تبرر الوسيلة.. حتى لو كانت هذه الوسيلة قذرة.
يسمع حركة في الطائرة.. يتطاول برأسه ليرى ما يحدث، عربة تجرها مضيفتان، إحداهما سوداء.. يبدو أنها من زنوج أمريكا.. أليست الطائرة أمريكية؟.. عرف أنهما توزعان وجبة الرحلة.. استعد فأرخى اللوحة التي أمامه.. جاء دوره.. سألته المضيفة السوداء.. ووجهها كله يبتسم.. أشرق فمها بأسنانها البيضاء كلون ريش البط وعيناها لهما سحر خاص.. هكذا هم أجسامهم سود، لكن قلوبهم، وأسنانهم بيضاء كثلج سيبيريا.. سألها:
ما نوع الطعام؟
«سناك»، ردت عليه بلغتها.
شكرها بصدق وهو يتسلم طبق الطعام.. هو دائماً مع الأقليات المستضعفة الذين يعيشون حياتهم كالجزر النائية في خضم محيط واسع كبير تملأه القروش المفترسة.. أقليات غير معترف بحقوقهم!!
بعد أن وضع الطبق أمامه شرع في الأكل.. لا يشعر بالجوع، لكن الرحلة من «نيويورك» إلى «جدة» طويلة.. والمعاناة التي لقيها في المطار من أسئلة، واستجوابات، واستفزازات كافية لأن تجعله يأكل حتى لو لم يكن جائعاً.. ليأكل «الزَّلط».
سؤال غريب تلقاه من موظف جوازات مطار نيويورك:
* هل أنتم السعوديون كلكم مولودون في يوم واحد، وشهر واحد، مع اختلاف سنة الميلاد؟
لأننا شعب واحد.. أجبته مازحاً لمعرفتي أن الشعب الأمريكي يحب النكتة جاداً ومازحاً.. قاتلاً ومقتولاً.. غاصباً ومغتصباً! ابتسم في وجهه، وهو يهز رأسه دهشة، كأنه يقول في نفسه «عش رجباً، تر عجباً».. بعد أن أخذ بصمات أصابعه.. وضع الختم.. ناوله الجواز وهو يتمنى له رحلة سعيدة.. كأنه يواسيه عن معاناته مع غيره من العاملين في مطار «نيويورك» الذين عاملوه كما يعاملون فرداً من أفراد عصابات «المافيا»، أو «الكاوبوي»، أو مهرِّب مخدرات.. أو ارهابي، وهو المصطلح الحديث الذي أدخلوه في معجم لغتهم، وخطابهم السياسي.. أنهم يصنِّفون الشعوب وفق مصالحهم العليا.. كما يصنفون مصالحهم إلى عليا، ودنيا.. لهذا فإسرائيل عندهم من المصالح العليا.. و«شارون» وما يفعله من جرائم ضد الشعب الفلسطيني الأعزل إلا من الحجارة والاستشهاد، رجل سلام يحارب الارهاب الفلسطيني حسب زعمهم!! لا يستبعد أن يمنحوه جائزة نوبل للسلام، كما منحوا غيره من مجرمي الحرب!!
أزاح من ذهنه قضية الارهاب.. والارهاب المضاد.. وصورة البغل الاسرائيلي «شارون».
فكَّر في أسرته وأولاده الذين سيستقبلونه في المطار..
لم ينسهم رغم الأيام القليلة التي قضاها بعيداً عنهم.. لكنها في خياله، وفي نفسه أطول من ليالي ألف ليلة وليلة.. الأسرة والأبناء رغم المنغصات إلا أنهم الأجمل في حياته.. يقولون في المثل المتداول بين الناس إن منغصات الأسرة والأبناء هي ملح طعام الحياة.. الله يعين من يعاني من الضغط!!
انحنى برأسه على ظهر المقعد بعد أن أُطفئت أنوار الطائرة ليريح ذهنه من عناء التفكير الذي لن يقصِّر مسافة الطريق.. قبل أن يغلق عينيه ألقى نظره سريعة على المقاعد.. الجميع يغطُّون في نومهم.. هناك اثنان، أو ثلاثة في حالة انكباب على ورق.. يكتبون.. ويفكرون.. يبدو أنهم من رجال الأعمال الذين يلقون سعادتهم في الأرقام.. وحسابات الربح والخسارة!!
لا يدري هل يشفق عليهم، أو يغبطهم، أو يحسدهم.. عيب.. الحسد ليس من السلوكيات المحببة إلى نفسه.. إن أكثر ما يكرهه هو الحسد.. علة العلل.. كلٌّ ميسر لما خلق له.. دع الخلق للخالق.. حدَّث نفسه.. تذكَّر أنه لم يكتب افتتاحية المجلة التي يرأس تحريرها.. عليه أن يفكر في القضية التي سيتناولها في كتابته.. يجب أن تكون من قضايا الساعة الساخنة.. لغة صحافة العصر، وخطاب العصر.. إنه يكتب.. ويكتب.. وغيره يكتب.. ويبقى القارئ هو الحكم!!
حين يكتب قد يسبق العنوان الموضوع.. وأحياناً يكتب الموضوع ثم يختار له العنوان اللافت للنظر.. هو الآن قادم من أمريكا.. من الأفضل أن تكون رحلته عنواناً للافتتاحية.. فكَّر قليلاً.. وجد العنوان «عائد من أمريكا».. إنه العنوان المناسب لهذه المرحلة حيث تمثِّل أمريكا القطب الأوحد في العالم بعد سقوط وتفكك «الاتحاد السوفيتي» الذي كان يمثل القطب الآخر المناوئ لأمريكا في التحكم بسياسة العالم.. أشعل النور.. وشرع في الكتابة!!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون

ارشيف الاعداد


موافق

ابحث في هذا العدد

للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved