الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 28th June,2004 العدد : 65

الأثنين 10 ,جمادى الاولى 1425

التوظيف الشعري «7»

بالرغم من أن الشعر العربي بصفة عامة قد تطور من التقليد إلى التجديد، وتمازج مع الشعر العالمي في الأوزان, والفكر العام, من خلال القصيدة الجديدة، وأدخل الكثير من الشعراء أوزاناً جديدة واستغنى عن أخرى، كل بحسب قدرته الشعرية وموهبته الفنية، فإن الموروث العربي العام والشعبي، والمفردات الدالة على نوع ما، مثل الحرف والعادات البدوية، وأدوات البحر، أخذت نصيبها من التوظيف في المفردة الشعرية، ولا يعني ذلك أنها كانت موفقة في الاستعمال، ففي بعض الأحيان تأتي نشازاً في القصيدة ويتم توظيفها بشكل لا ينسجم مع الفكرة العامة لموضوع القصيدة، وفي أحيان أخرى تأتي معبرة عن المقصود منها، كرمز لما يشعر به الشاعر، من ألم أو إحباط في الحياة، أو شكوى من ظلم ألم به، ولم يكن هذا الموضوع من ابتكارات الشعراء في زمن ما، بل هو نوع من الموروث، في القصيدة العربية، على مر العصور التاريخية؛ فشكوى حسين سرحان ومحمد علي فقي وابن إدريس والعواد وطاهر زمخشري وعبدالله الفيصل، وغيرهم من الشعراء، تختلف من شاعر إلى آخر، وقد يلام بعضهم في شكواه، لكنه لوم سطحي، بمعنى أن اللائم لا يدري ما وراء تلك الشكوى، وليس له إلا ظاهر الأمر، أما الباطن فعلمه عند الشاعر، فامرؤ القيس يشتكي من طول الليل، وهو ابن ملك، كل شيء رهن يده في أي وقت، لكنه يشعر بشيء لا يعلمه غيره، وكذلك طرفة بن العبد، الوارث المال الكثير عن والده، والقصيبي وعبدالله الفيصل، حتى أن بعض الدواوين اتخذ عنوان الشكوى، مثل (الطائر الجريح) و(ديوان محروم) و(الآهات) والبعض من الشعراء لقب نفسه بنوع من الألم والحرمان، يقول القصيبي:
وجودي ريشة تلهو
بها نقمة إعصاري
ومن طبيعة الإبداع الألم، ولكنه ألم يختلف من شخص إلى آخر، ومهما عبر الشاعر عن ألمه، فإنه يعبر عن آلام الأمة بأسرها، يشكو دهره نيابة عن المجتمع الذي يعيش فيه، ويشعر بما لم يشعر به غيره, وذلك يعود إلى شدة حساسيته، التي تختلف عن حساسية الآخرين، يقول عبدالرحمن رفه:
فعلام أحيا والحياة كما أرى
مرٌ وصابٌ للأبيِّ الألمعي
وعبدالرحمن رفه لم يكن من الشعراء المبدعين ليبتكر نوع الألم الذي يعانيه بقدر ما هو مقلد لشعراء سبقوه، أما من العصور القديمة أو من المعاصرين، فقد بدأ حياته مقلداً للشعراء، حتى أنه شطر قصيدة لفؤاد الخطيب، ونسج قصيدة أخرى على منوال قصيدة (المساء) لمطران، وغيرها من القصائد، وخاصة شعراء المهجر، مثل جبران خليل جبران وإليا أبي ماضي، وأحمد شوقي، في الشعر التعليمي.
وتفاوت الشعراء في تصوير الألم بتفاوت القدرات، من ناحية وضغط الحياة من ناحية أخرى، وكما وظف رفه شعره في همومه الخاصة وهموم أمته وظف عبدالله بن سليم الرشيد بعض أشعاره في ألم الأمة العربية وأحوال المسلمين, فعن نفسه يقول وهو يعاني ألمه الخاص:
فهل أنا من كف المعاناة مفلتٌ
وهل أجدن يوماً من الكرب مهربا
فلا تعذلوني إن بكيت صبابة
وإن صار قلبي في المتاهة قلَّبا
وكما عانى الرشيد في هذه القصيدة معاناة خاصة، فقد عانى معاناة عامة، هي معاناة الأمة العربية الإسلامية, فشارك العرب والمسلمين مآسيهم الطويلة الأمد، في شعر يجمع بين الألم والصدمة العاطفية والمناسبات المفجعة، حتى عناوين القصائد توحي بالألم، كظاهر للنص، مثل (أبطال الحجارة، بين الشقاء والهناء، نفاثات الشجن، في كف المعاناة، يا شاعر الألم، بكائية، احتضار، من يشتري الأكفان.. ) يقول:
وسألتني عني وعن وطني
فغلا دمي، وهممت بالكذب
فقرأتُ في عينيك معرفةً
فأجبت في خجل (أنا عربي)
وإن كان الرشيد يواري ألمه، حيناً، ويبديه أحياناً أخرى، ويخجل من أفعال أمته، ويلوم الفرعين الكبيرين (قحطان وعدنان) ولا مجال للومهما في الظروف الحالية، فإن شعراء آخرين تعاملوا مع الألم على أنه حالة إبداعية انفعالية، وهو الحالة العادية في عملية الإبداع وإخراج المكنون، سواء وُظف الشعر في خدمة قضية ما أو وظفت القضية في خدمة الشعر، وهذه هي الحالة الطبيعية للإبداع، وليس بنقل الماضي ووضع المفردة الشعرية في سياقه. وكان في مقدمة هذه السياقات المعرفية المسبقة قضية العرب والمسلمين الكبرى (فلسطين) التي شغلت العرب جميعاً، وشارك أهلها في الألم الشعراء والكتاب.
وكان للشعر في القضية الفلسطينية القدح المعلى، واحتلت الانتفاضة والشهداء أوليات صورة الوظيفة الشعرية العربية, فظهرت صورة الأم الثكلى والأب المفجوع، والطفل القتيل، والشعب المشرد, والأرض المسلوبة, وكلها تداعيات آلام للشاعر في سبيل القضية, كتعبير جماعي.
ولدي رأيت الموت والقبرا
لما لقيت الظلم والغدرا
ولدي سهام البغي ظالمة
ما غادرت من أرضنا شبرا
وتختلف الشكوى من شاعر إلى آخر، وقد قلنا إنها إما أن تكون شكوى فردية ذاتية، أو شكوى جماعية قومية، وقد اتسم الكثير من الشعر بالشكوى الفردية ومناجاة الذات في خلوة مع النفس، حتى غلب هذا النمط على الكثير من أشعار الديوان الواحد, أو مجموعة دواوين الشاعر الواحد, كما هي الحال عند دخيل الله أبو طويلة الخديدي، في ديوانه (الإياب) فمرة يشكو آلامه وأخرى يؤوب إلى الخلاص منها، يقول:
سنين من الصبر مرت
وأنت تعاني الأمرين وحدك
وتلتحف الصمت وحدك
تغالب هذا الزمان العنيد
وأبو طويلة الخديدي كالكثير من شعراء العصر، يشتكي حيناً من اليأس وفي أحيان أخرى يتساءل عن سبب اليأس, فالحيرة والإحباط والأمل الغائب سمة عرف بها شعراء العصر، ففي هذه القصيدة يضع الاستفهام نصب عينيه (لماذا؟؟) لعله يدري السبب أو لا يدري، المهم أنه يسأل عنه. ففي قصيدة أخرى يصدر الآهات على ما فاته من الزمن، لكنه يغتال الزمن بالزمن نفسه:
أواه وما تجدي أواه الصبح بعيد
أمسيت وحيداً تقتات على الذكرى
والليل كئيب يمعن في التسهيد
ها أنت شجي تبكي شعرا
ترثى عمرا
تغتاب الزمن الجاثم فوق البيد
أواه وما تجدي أواه الصبح بعيد
وإن كانت هذه القصيدة وما شابهها قد جاءت على النمط الحديث في كتابة القصيدة الجديدة، فإن المعنى على النمط القديم فيما يختص بالشكوى، فلا جديد عما ذكره امرؤ القيس في شكواه من الليل الطويل.
ولم تكن شكوى الشاعر محمد السليمان الشبل، وهي شكوى فردية, بمعزل عن شكوى غيره من شعراء الجيل الجديد, الذين أحاط بهم اليأس من كل جانب، يقول:
أألقى غصاصات الحياة على مهل
كأني فيها فاقد القوم والأهل
يطاردني فيها الأسى غير وادع
وليس وإن طال الزمان بمنحل
حتى أن قال:
كليم وغيري في الحياة منعم
كأني في دنياي أمشي على وجل
أسير بسجن الحادثات منعم
ولي مهجة كادت لحر الجوى تغلي
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved