الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 28th June,2004 العدد : 65

الأثنين 10 ,جمادى الاولى 1425

بقلم/علوي طه الصافي
هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات
من روّاد تأسيس الأدب في المملكة

هو واحد ممّن كنا نطلق عليهم (الرعيل الأول)، لا أعرف من أوّل من أطلق عليهم هذا (المصطلح) الذي اطلعنا عليه من خلال كتابات أساتذتنا من الأدباء وبعضهم من أفراد هذا الرعيل، وإن كنا لا نعدم القدرة على تفسيره، وتعليله اجتهاداً؛ فهم الروّاد الذين وضعوا (البدايات) الأدبية منذ تأسيس المملكة العربية السعودية، وتوحيدها بجهود الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود طيب الله ثراه .
وجاءت (موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث) الصادرة عام (1422هـ 2001م) من إعداد اختصاصيين أكاديميين معاصرين فغيّرت المصطلح السائد الذي تعارف عليه، ودرج على استعماله الأدباء، إلى مصطلح آخر هو (جيل التأسيس).. وإن اختلف المصطلحان في التعبير، إلا أنهما يلتقيان في القصد والمعنى.. وهذا ما دفعنا إلى وضع عنوان (من روّاد تأسيس الأدب في المملكة)؛ اعتقاداً منا أن معدّي الموسوعة أكثر التصاقاً، ومعرفةً بالمصطلحات بحكم ثقافتهم في أمريكا، وأوروبا، حيث شيوع المصطلحات العلمية المناسبة على الظواهر الأدبية.
وضيفنا في هذه الحلقة تعرّفت به أول ما تعرفت من خلال مجلته (المنهل) التي عرفت فيما بعد أنها أول مجلة ثقافية تصدر في المملكة؛ لهذا استقطبت أغلب إن لم يكن كلّ الكتاب، والأدباء من جميع أرجاء المملكة، وكنت أشعر بسعادة خاصة عند الاطلاع عليها؛ لأنها كانت تعنى بنشر شعر وموضوعات لأدباء منطقتي الذين كنت أعرفهم، وأمنّي نفسي أن أكون واحداً منهم في المستقبل، وما أكثر أماني الشباب! بل يبدو لي أن مرحلة الشباب هي المرحلة التي تتعدّد وتخصب فيها الأماني؛ ممّا يجعل تحقيقها كلها مسألة مستحيلة، لأنه كلما تقدم العمر بالشاب تناقصت بعض هذه الأماني، وتضاءل البعض الآخر، والبعض ربما دفن في نفوس أصحابها لعوامل ذاتية، أو اجتماعية، وهذا ما يعنيه الشاعر في قوله:
منىً إن تكن حقاً تكن أحسن المنى
وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً
وكان ضيفنا بل صديقنا وأستاذنا الكبير (عبد القدوس الأنصاري) صاحب المجلة، ورئيس تحريرها يحتفي بكتاب، وأدباء، وشعراء منطقتي إلى حدّ إطلاق بعض الصفات الكريمة التي تعكس كرم أخلاقه، ورقي تعامله، وسماحة نفسه، ورقة طبعه.
كان يطلق على صديقنا الشاعر محمد بن علي السنوسي (شاعر الجنوب)، وعلى صديقنا الأستاذ محمد بن أحمد عيسى العقيلي (مؤرخ الجنوب)، وعلى صديقنا القاص محمد زارع عقيل (قاص الجنوب) تغمدهم الله جميعاً بواسع رحمته.
ومن الجنوب كان يكتب فيها الأديب الساخر الصديق الأستاذ (علي محمد العمير) حين كان يعمل في وظيفة (كاتب عدل) في محكمة قرية (الموسم) جنوب مدينة (جيزان)، كما كان يكتب فيها الصديق الأستاذ (علي بن أحمد الرفاعي) من مدينة (أبو عريش) شفاه الله، وكتاباته فيها جدة؛ لأنها تتناول شخصية تاريخية في شكل محاكمة تدلّ على سعة أفقه، واطلاعه الواسع على كتب التاريخ، وربما هناك كتاب آخرون لا تسعفني الذاكرة بأسمائهم.
وحين انتقلت إلى جدة عام 1382هـ التقيت به عدة مرات فلمست كثيراً من الخصال الحميدة؛ فأنت حين تجلس معه، تحسّ أنك أمام تجربة حياتية غنية، ترفدها ثقافة تراثية أهلته لأن يكون رائداً في عصره.
وأبرز ما يميزه حين تحضر مجلسه أنه قليل الكلام، عزوف عن الجدل، والمماحكة، وتدرك أن ثقافته تكونت من خلال حضوره حلقات الدرس في المسجد النبوي؛ حيث ولد في المدينة المنورة عام 1334هـ، ومن التعليم النظامي؛ حيث درس في مدرسة (العلوم الشرعية) في المدينة فنال الشهادة العالية فيها عام 1349هـ، وفي رأي عام 1946م.
كانت مجلته (المنهل) تصدر بعض الكتب، والكتيبات من حين لآخر؛ مما شجعني على تأليف كتيب بعنوان (الأمثال الشعبية في المخلاف السليماني) واسم المخلاف كان يطلق على مساحة واسعة من جغرافية الجزيرة العربية... وكانت منطقة (جازان) تندرج تحت هذا الاسم التاريخي.
وأرسلت الكتيب إلى أستاذنا (الأنصاري) فجاءتني منه رسالة تشيد به، وأنه سيقوم بطباعته، ومرت الأيام والسنون، وانتقل أستاذنا إلى رحمة الله دون أن يصدر الكتيب، وللأسف لم أحتفظ بصورة منه، حتى حين تعرفت به لم أسأله عنه خشية إحراجه.
ولا أنسى فضله أنه كان يزورني شخصياً بمكتبي في مجلة (الفيصل) كلما سنحت له الفرصة لزيارة مدينة الرياض، وحين كتب الأمير خالد الفيصل رسائل للأدباء والكتاب السعوديين لاستكتابهم بالمجلة كان من أوائل المبادرين، فكتب لنا موضوعاً بعنوان (الفنادق والفندقة في بلاد العرب والإسلام) نشر في العدد الأول من المجلة إصدار شهر رجب 1397هـ الموافق يونيو 1977م.
وحين زرته في مكتبه بمجلة (المنهل) في جدة ليكتب لنا استطلاعاً موثقاً عن مدينة جدة قال لي: أنت أخبر بما تريده لمجلتك، وهذه نسخة من كتابي عن تاريخ جدة فخذ منه ما تراه مناسباً، ويتوافق مع منهاج المجلة.
وأخبرته أننا في طريقنا إلى (مكة المكرمة) و(المدينة المنورة) لتصوير معالمهما، والكتابة عنهما في المجلة، فطلب مني بكل أدب ولطف أن نصوّر له جبال مكة، لأنه يعدّ بحثاً عنها، لكن للأسف الشديد لم أحقق له هذه الرغبة؛ لأن جبال مكة كثيرة، ومتعددة، ومتباعدة، ولا أعرف فيما إذا أكمل بحثه أم أن المنية وافته قبل إعداده رحمه الله.
وإذا سبق لنا أن قلنا إنه أول من أنشأ مجلة ثقافية شهرية في المملكة هي (المنهل) فإن له ريادات أخرى، فهو أيضا أول من ألّف رواية بعنوان (التوأمان) عام 1349هـ، وأول من أنشأ نادياً أدبياً في المدينة المنورة باسم (المحفل الأدبي للشباب العربي السعودي المتعلم) قبل أن تعرف المملكة الأندية الأدبية أخيراً.
عمل أول ما عمل في إمارة المدينة المنورة، ثم انتقل إلى مكة المكرمة ليعمل رئيساً لتحرير جريدة (أم القرى) الرسمية، ثم عمل في ديوان نائب جلالة الملك عبد العزيز تغمدهما الله بواسع رحمته حيث تنقل في عدة وظائف قبل أن يتقاعد.
انتخب رئيساً للجنة (المصطلحات الطبية العربية) التابعة لجامعة الدول العربية في مكة المكرمة.
له عدة أعمال قيمة، في الآثار، والأعلام، والتاريخ، والتحقيق، والدراسات الأدبية؛ فهو يمتلك ذائقة نقدية انطباعية، إلى جانب المقالات التي كان ينشرها في الصحف المحلية والخارجية، والعديد من المحاضرات، والمعارك الأدبية.
ومن المزايا التي حققها أستاذنا (الأنصاري) أنه تجاوز بأعماله متخطياً الحدود الجغرافية الإقليمية؛ مما يؤكد أصالة هذه الأعمال، وجدّها، وجدّيتها، وجدارتها بحيث شهد بمكانته الفكرية بعض المستشرقين، وترجموا بعض أعماله إلى غير العربية، كما شهد له بعض المفكرين العرب.
وقبل أن نورد ما عثرنا عليه من شهادات نودّ أن نتساءل لعدم علمنا فيمَ إذا قدم أحد أبنائنا رسالة (ماجستير) أو (دكتوراة) عن فكر أستاذنا (الأنصاري) على كثرة أعماله، وتعددها، وتنوعها؟! وعلى كثرة الرسائل التي تقدم في كليات آداب جامعاتنا الثماني؟ ويظل سؤالنا معلقاً كالجرس على رقبة الوفاء!! ونأمل أن يكون سؤالنا لافتاً لطلابه الذين نشعر أنهم لن يجدوا عناءً في البحث عن أعماله؛ لأن أغلبها إن لم يكن كلها قد قام أستاذنا الراحل بطباعتها أثناء حياته، إلى جانب أن بعض شهود عصره ربما لا يزالون على قيد الحياة، وسؤالنا ينسحب على كلّ روادنا من (جيل التأسيس)، ونحن في هذه الحلقة نحاول إشعال أعواد ثقاب على بعض من ارتبطنا بهم بعلاقة صداقة، وبرنارد شو له عبارة جميلة تتناسب مع هذه الحلقات مؤداها (من الخير أن تشعل عود ثقاب بدلاً من أن تلعن الظلام)!! حتى لا ينطبق علينا المثل العربي (زامر الحيّ لا يطرب).
لقد تلقى أستاذنا الراحل (الأنصاري) رسالة من دمشق في سورية عام 1938م من المستشرق الفرنسي الموسيو (ز. رايخ) من المعهد الفرنسي للدراسات الشرقية في دمشق تتضمن أنه قام بترجمة بعض نصوص كتاب الأنصاري (آثار المدينة المنورة)، ونشرها في (مجلة العلوم الإسلامية) في باريس.
كما قام المستشرق الإيطالي الدكتور (فنشنزو ستريكا) المحاضر في جامعة (روما) بإلقاء محاضرة في الجامعة المذكورة باللغة (الإيطالية) عن الأستاذ الأنصاري، ثم نشرها في (كراس) باللغة نفسها، ووزّعها على الحاضرين في المؤتمر العالمي الأول الذي أقامته جامعة الرياض يومذاك الملك سعود حالياً عام 1397هـ 1977م وهو مؤتمر (دراسة مصادر تاريخ الجزيرة العربية).. هذا المؤتمر الذي حضره المستشرق الإيطالي (ستريكا) شخصياً، وقابل خلاله أستاذنا (الأنصاري) فأعطاه نسخة من كراس المحاضرة، التي قام بترجمتها إلى العربية الدكتور (جلال النادي) الأستاذ في جامعة القاهرة. وكان عنوان المحاضرة (عبد القدوس الأنصاري.. الباحث المفكر) نشرتها مجلته (المنهل) ثم طبعت في كتيب قدم له الأستاذ الرائد (محمد سعيد العامودي). وقبل ذلك نشرت مجلة (نور الإسلام) القاهرية في عددها (العاشر) عام 1354هـ إصدار شهر جمادى الأولى، وكان رئيس مجلس إدارتها ورئيس تحريرها الأستاذ المعروف (محمد فريد وجدي)، عرضاً لكتاب (آثار المدينة) في ثلاث صفحات من المجلة.
كما نشرت (مجلة الأزهر) التي خلفت مجلة (نور الإسلام) في جزئها الثاني من المجلد السابع والعشرين، الصادر في غرة صفر 1375هـ الموافق سبتمبر 1955م، مقالاً كتبه الأستاذ (محمد فؤاد عبد الباقي) عن (جبل ثور) من كتاب أستاذنا الأنصاري الذي أشرنا إليه أعلاه؛ مما يؤكد ريادته عن آثار المدينة المنورة. ويجسد تأكيدنا أن الدكتور (محمد حسين هيكل) حين ألّف كتابه (في منزل الوحي) استند إلى كتاب أستاذنا (الأنصاري) مع إشادته بالكتاب في قوله: (هذه الديار الإسلامية المقدسة حافلة بالآثار الجليلة).
وقد حاولت أن أقف على كتاب يوجز منها ما يوجد في مهبط الوحي، فلم أعثر على بغيتي.. فلما حضرت إلى المدينة أهداني الأستاذ (عبد القدوس الأنصاري) كتابه (آثار المدينة)، وما لبثت حين اطلعت على محتوياته أن رأيت مهاجر النبي الكريم انفتحت أمامي مغالق آثارها، وأصبح من اليسير تتبعها في أماكن وجودها، وتتبع تاريخها، والأطوار التي مرت بها من خلال هذا الكتاب الوجيز الجامع، فجزى الله السيد عبد القدوس عن مدينة الرسول الكريم، وعن زائريها الذين يجدون في هذا الكتاب خير ما يهديهم إلى الآثار الإسلامية في بلد لم يجتمع فيه مثل هذه الآثار (10 المحرم 1355هـ 1936م).
هذه الأصداء العربية والإسلامية والعالمية مجرد أمثلة على واحد من أعمال أستاذنا (الأنصاري) الريادية، ولحرصنا على عدم التوسّع والإطالة نكتفي بما أوردناه رغم توافر غيرها لدينا.
ولكيلا يتصور القارئ أنه كان متقوقعاً داخل قمقم ثقافته التراثية بسلبياتها وإيجابياتها، نقول إنه أخذ أحسن ما فيها، لكنه لم يدر ظهره لمعطيات عصره، ورموزها الكبار ممن يسميهم النقاد المعاصرون (جيل التنوير) فقد قرأ لكل من (طه حسين، والمازني، والعقاد، والرافعي، وشكري، وأحمد محرم، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وتيمور، وغيرهم من مصر الشقيقة).
كما قرأ لرموز (أدب المهجر) أمثال (جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي، وأمين الريحاني) كما قرأ لغيرهم أمثال (الأخطل الصغير، ومارون عبود، وسعيد عقل، وأمين نخلة) من لبنان، إلى جانب أدباء وشعراء سورية.
ومن العراق قرأ (للجواهري، والكاظمي، والرصافي، والزهاوي، والصافي النجفي، وغيرهم).
كما أن مجلته (المنهل) تكاد تكون المجلة الأولى التي اهتمت بنشر القصة القصيرة في مجتمع لم تعرف فيه القصة كجنس أدبي كما عرفتها المجتمعات العربية بحكم انفتاحها على الغرب.. وهو لم يكتف بذلك، بل خصص باباً لها، رغبة منه في تأصيل هذا الجنس الأدبي الجديد، ونشره، وانتشاره.
ولا نبالغ حين نقول إن (المنهل) في عصرها قبل أن تعرف المملكة الصحافة الثقافية كانت مدرسة تخرج فيها عدد من الأدباء، والشعراء، والقاصين، وهذا لأن صاحبها (الأنصاري) فتح للجميع الأبواب، والنوافذ، ليس للأدباء المعروفين والمشهورين فحسب، بل لكل أقلام التجارب الواعدة، فالرجل بطبيعته لا يرفض الجديد بصفته جديداً، وإنما يعطي الفرصة لكل من يحاول أن يكون شيئاً في عالم الأدب الواسع، ورحاب الثقافة الأوسع. ورغم أن أستاذنا (الأنصاري) رجل وقور، وهادئ، ولا يميل إلى الكلام كثيراً، بقدر ما يسمع أكثر، ورغم أنه لا يحب الدخول في أي جدل قد يخرجه عن طبعه، وطبيعته، إلا أننا نذكر أنه خاض معركتين أدبيتين، إحداهما مع الأستاذ اللغوي الراحل (أحمد عبد الغفور عطار)، والأخرى عن (جيم جدة) مع الأستاذين العلامتين (حمد الجاسر، وأبي تراب الظاهري) تغمد الله الجميع بواسع رحمته.
وأخيراً لا ننسى أن نشير إلى أن مكتبة أستاذنا (الأنصاري)، الخاصة تحتوي على ما يربو على عشرة آلاف كتاب. ونحن حين نشير في هذه الحلقات إلى مكتبات بعض من نكتب عنهم، إنما نشير إليها للتوثيق من ناحية، ومساعدة الدارسين للمكتبات الخاصة في المستقبل على أن يجدوا ما يدلهم عليها من ناحية أخرى.
ومما يؤسف له أنني سمعت أخيراً أن مجلته (المنهل) التي يزيد عمرها على سبعين عاماً مهددة بالتوقف لظروفها المالية القاسية؛ مما يدفعني إلى مناشدة الموسرين في بلادنا وهم كثر للوقوف بجانبها، ودعمها. كما أتمنى على هذه المجلة أن تنشر قضيتها على صفحاتها للفت الانتباه إلى ما تعانيه من ظروف مادية ملحّة تهددها بالتوقف.. وهذه كارثة!!
alawi@alsafi.com
ص ب (7967) الرياض (11472)
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved