الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th July,2003 العدد : 22

الأثنين 28 ,جمادى الاولى 1424

صدى الإبداع
الفكر والمرجعية: 28
د. سلطان بن سعد القحطاني

لعل من أقدم المرجعيات العربية ظهور التقعيد والتقنين في بداية اختلاط العرب بالأمم المفتوحة، وما لمسه العلماء من بداية فساد السليقة العربية، من ناحية، وتقديم الخدمة المنهجية لعلوم القرآن الكريم من ناحية أخرى، وهذا بدوره يحتاج إلى كتابة تحفظ هذه العلوم الشرعية، وشرح للقصص التي وردت في نصوص القرآن الكريم، وهي قصص خبرية عن أحوال الأمم السابقة، فاحتاج العلماء والمفسرون إلى من يساعدهم في فهم أصول تلك النصوص، وليس هناك أصدق من أهل الكتب السماوية الذين أسلموا، من اليهود والنصارى، وحتى الذين لم يسلموا، وصاروا من أهل الذمة. فاستعان الطبري وابن كثير ببعض من أسلم من اليهود، مثل وهب بن منبِّه، ومن النصارى ابن جريج، وهو نصراني رومي. كما وضع علماء النحو قواعده على مذهب الرياضيين وعلماء المنطق من اليونانيين. واستفاد الخليل بن أحمد الفراهيدي من علم الموسيقى في تركيب بحور الشعر العروضية. ودخلت الثقافة العلمية اليونانية عن طريق الترجمات العلمية، في الطب والفلك والرياضيات عن اللغة اليونانية. وامتزجت الثقافة العربية بالثقافات غير العربية، وكونت في مجموعها ثقافة عربية إسلامية، وصار اللسان عربيا والدين الإسلام، وحتى الأقليات التي لم تسلم ولم تتخل عن دياناتها القديمة، مثل المسيحيين واليهود، تعربوا وأصبحت ثقافتهم عربية وانتماؤهم عربياً، بحكم الانتماء العام للدولة. ولابد ان يحدث هذا التمازج بين الثقافات والديانات والموروث الثقافي الذي قامت عليه الحركات الفكرية قبل ان تكوّن مرجعيتها الثقافية العامة، وهي الثقافة التي استطاعت ان تكيف الشكل العام بقوة الدعم السياسي، لكن بقي الشكل الداخلي متنازع بين مرجعيتين (الموروث الثقافي، والثقافة الجديدة) ومن هنا ظهرت الفرق السياسية، كنشاط فكري متعارض مع بعض المبادئ العربية، حيناً، وحيناً آخر مع الأنظمة السياسية. هذا من ناحية المظهر العام للفكر، كمرجعية فكرية، أما من الناحية الفكرية التراثية فلم يتخل البعض عن الفكر الموروث، فالزندقة والإلحاد والفكر المتطرف لم ينته بوجود النظام السياسي الإسلامي، كنظام ومرجعية شرعية للدولة، مما جعل بعض الخلفاء في الدولة العباسية يجعل وزيراً للزنادقة، وانشقاق الفرق الإسلامية دليل تشتت فكري وتنازع بين مرجعيتين، المرجعية العربية الإسلامية، والمرجعية الفكرية المضادة للفكر الإسلامي، والخروج على ولي الأمر، بالرغم من معرفة أصحاب هذا الفكر بالنص القرآني الكريم، في قوله تعالى {أّطٌيعٍوا پلَّهّ $ّأّطٌيعٍوا پرَّسٍولّ $ّأٍوًلٌي الأّمًرٌ مٌنكٍمً فّإن تّنّازّعًتٍمً فٌي شّيًءُ فّرٍدٍَوهٍ إلّى پلَّهٌ $ّالرَّسٍولٌ} فالتنازع هنا من داخل المرجعية، بينما التنازع الآخر بين مرجعيتين مختلفتين جمعهما الإسلام تحت راية واحدة، هي وحدانية الله. والتنازع الفكري في داخل المنظومة الواحدة أخطر على الفكر من التنازع بين مرجعيتين مختلفتين، وفي الوقت نفسه تكون أسهل في التوافق من غيرها، لأنها تنطلق من مبدأ واحد، بيد ان إحياء تلك العصبيات التي طرأت لظروف خاصة بأهلها لايعبر إلا عن نوعية تقليدية بائدة، والحديث فيها وترديدها مضيعة للوقت والجهد، قال تعالى {تٌلًكّ أٍمَّةِ قّدً خّلّتً لّهّا مّا كّسّبّتً $ّّلّكٍم مَّا كّسّبًتٍمً} وقد يكون الفكر الموروث أقوى سلطة من النص، فالبعض يظهر غير ما يبطن. ولا يمنع ذلك من الاستفادة من الظروف التي مر بها ذلك الفكر، لكن يجب علينا قراءة ذلك الفكر برؤية حضارية جديدة. والتأريخ مثل الإنسان لا يتجزأ، وعوامله المحركة، هي العوامل والظروف المحيطة بالإنسان، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وما مر بالأمة العربية لايختلف عما مر بغيرها من الأمم، لكن الفرق يكمن فيما اتخذه قادة الفكر في المجتمعات، حيث أسسوا لها قاعدة فكرية استطاعت الانطلاق منها إلى آفاق المستقبل، فقادة العرب من المسلمين الأوائل أرسوا دعائم الفكر العربي الإسلامي على عقيدة صافية، ذات أهداف محددة لنشر الدعوة الإسلامية، بطرق حضارية، فلم يقطعوا شجرة ولم يهدموا معبداً ولم يجبروا أحداً على الدخول في دينهم، امتثالاً لقول الله تعالى {لّكٍمً دٌينٍكٍمً $ّلٌيّ دٌينٌ} فكانوا مثال الإنسان المتحضر، ولم تزدهم تلك التيارات والخلافات الفكرية إلا قوة في التمسك بمبادئ الإسلام السمحة، فكانوا غاية في السماحة، في البيع وفي الشراء، وفي القضاء والاقتضاء.. وبالرغم من الاختلاف الفكري بين الأدباء والشعراء والنقاد إلا ان الفكر لم يقيد برأي واحد، ما لم يتجاوز إلى الثوابت الدينية، وهي ثوابت واضحة ومحددة، ليست بحاجة إلى تأويل، وإذا كان لابد من ذلك فيفسرها ويؤوّلها أهل العلم، المشهود لهم بقوة الحجة وسعة الثقافة. وعندما حصلت بعض التجاوزات الفكرية العقدية، في العقود الأولى للدولة الإسلامية، لم تؤثر في مسار الفكر وتقدمه، ولم يقف أحد في طريقها منادياً بالقضاء عليها، بل ظهرت الحجج المناهضة لها ترد عليها بحجة مثلها، ولم يسكت الصوت الآخر، بل ظهر فكر مضاد له، وبالتالي ظهرت التعددية فعندما اختلف التلميذ (واصل بن عطاء) مع استاذه العلامة (الحسن البصري) حول مسألة من المسائل، لم يكفره، لأنه خرج على منهجه، بل احترم رأيه وان لم يفعل به وقد اهتم النقاد بتوثيق الشعر الجاهلي في القرن الخامس، الحادي عشر الميلادي، لسببين: الأول، حفظه وشرحه، فالناس بحاجة إليه، في الوقت الذي ظهرت فيه أفكار حديثة اعتبروها من محدثات الأمور، فاهتم به الشرّاح، مثل شرح المعلقات، وجمع الدواوين وترتيبها... والثاني، حفظ اللغة ونحوها من خلاله، لما فيه من اللفظ الجزل والمعنى العميق. يقول ابن سنان، في كتابه (سر الفصاحة 270) «ذهب قوم من الرواة وأهل اللغة إلى تفضيل أشعار العرب المتقدمين على شعر كافة المحدثين، ولم يجيزوا ان يلحقوا أحداً ممن تأخر زمانه بتلك الطبقة وان كان عندهم حسناً». ولم يهتم النقاد بالشعر الحديث في وقته، لما فيه من الغموض، وسنأتي عليه في وقته. وقد يعتبر البعض قضية الغموض في مواجهة فكر الآخر تجنبه الكثير من الاحراج ويستطيع النفاذ إلى العقلية الأخرى، وهذه قضية جعلت الآخر يسفّه هذه الفكرة أو تلك، لأنه خرج من التيارين، الغربي والشرقي، دون ان يفهم أياً من الفكرين، والتعامل معه بروح العصر الذي يعيشه.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved