الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th July,2003 العدد : 22

الأثنين 28 ,جمادى الاولى 1424

قصة قصيرة
لوحة قد تكتمل
هند بنت سعد

خلف نصف جدار طيني متهدم، كان الفتى ينزوي منذ البارحة.. يسند ظهره المتصلب على بقايا الجدار ويقذف برأسه الفارغة من كل شيء إلا الأحزان والذكرى البائسة بين فخذيه يحتضنه بعنف الغاضب براحة كفيه يخنقه بين ركبتيه ثم ما يلبث حتى يرفعه بتثاقل إلى الأعلى لتلاقي مقلتاه سواد السماء فلا يجد بداً من إلقائه أرضاً من جديد!!
كان طارق يراقب صديقه حاتم من بعيد لقلقه عليه فصحته وحالته النفسية متدهورتان جدا، وهذه حاله منذ أسبوع أسبوع مضى على وفاة أبيه التي تسببت بها رصاصة صهيونية.. طائشة!! هكذا يقولون طائشة.. ولا يدري أحد تحديداً من المتسبب وما الذي حصل فعندما تكون الضحايا من الجانب الفلسطيني غالباً تقيد القضية ضد مجهول!
ذهب طارق إلى حاتم وهو جالسٌ جلسته تلك خلف جدار بستانهم يعبث بغصن زيتون..
يا حاتم أما فتئت تواصل البكاء؟ ألم تخمد فورة غضبك بعد ولو قليلاً؟ أو لم تجف آبار دموعك بعد يا صديقي؟ بالله عليك كفاك.. الحزن يقتلك بل يقتلنا سوياً أنت تعذب نفسك وتحملها مالا تطيق. حاتم إيمانك أقوى من هذه العواصف.
رفع حاتم رأسه ونظر إلى طارق بعينين غائرتين بعد أن تنهد تنهيدة كأنما تصعدت روحه معها إلى السماء..
إني أشتم رائحة الدم يا صديقي كل لحظة أتوضأ به لصلاتي، أسقي به البستان. أتنفسه بين جزيئات الهواء، أبصر به الأشياء. حتى.. حتى فستان فاتنتي وعروسي المرتقبة بسمة أراه يوم عرسنا أحمر قانياًَ!! لا.. لا.. لالالا ليس بحمرة حبات التوت ولا ثمار الكرز.. إنما ببشاعة لون الدم المسكوب.
حاتم أنت مؤمن بقضاء الله وقدره وابتلائه ما تمر به الآن كآبة عابرة.. غيمة حزن زائلة أنا متأكد كلنا نقدر ما عانيت وما تقاسي الآن وأقولها من قلبي يا رفيقي، فنحن نعيش في نفس الظروف ودماء أبيك ومن قبله أخيك تجري في عروقي كما في عروقك كلنا سُقينا من هذه الكأس المرة.. نتجرع العذاب كل يوم وثانية، لكن يجب أن تستمر الحياة بمرها وحلوها وإن قل ليشتعل فتيل المقاومة والنضال من جديد ويكرمنا الله بنصره الموعود.. هذا ما نؤمن به ونردده دائماً أليس كذلك؟
نعم... نعم صحيح (قالها بصوت كأنما خرج من غياهب جب ثم تنحنح في محاولة لإعلاء صوته قليلاً وإيضاحه)..
قد لا تفهمني يا طارق وتستغرب كلماتي.. ما ينغص علي الآن ليس فراق قرّة عيني أبي ومن قبله ليس ببعيد توأم روحي أخي، فعاجلاً أم آجلاً سأدفن حزنهم في صدري أو أُدفَن أنا معهما.. ليس هذا ما يشغلني بل هي.. أنا.. أنا (تردد وتلعثم، ثم سكت هنيهة).
أنا مشوش جداً لا أدري ماذا يريد مني؟! تتراءى لي رؤى مقززة.. أراه أمامي بطلاً صامتاً فيها يتبختر هنا وهناك.. إنه الشيطان بكل بشاعته يا طارق! يخيل إلي أني أراه ها هنا أمامي متجولاً في كل مكان يطل برأسه على كل ما تقع عليه عيناني يعبث بلا مبالاة بكرامتنا المراقة دماً سائباً على الأرصفة والطرقات، بأعراضنا المنتهكة جراحاً نازفة، أراه في بعض العيون اللامعة الوضاءة.. أتدري؟ هي مجرد انعكاس لوهجه ليس إلا!!.. حتى صمت العالم أجمع من حولي لم يسلم من شره فهو الذي أحكم الحصار عليهم، وعندما يبدأ عرضه المشين أمامي أتمنى اقتلاع عيني من شدة الاشمئزاز! فأدعكهما بقوة لتتزغلل الرؤية فيختفي بذلك قليل من ملامحه المشوهة، ولو كنت رساماً لرسمت صورته الآن، ولن أحتاج إلى شراء ريشة، سأصنع واحدة بضفائر ابنة الجيران، ولن أحتاج إلى ألوان، سأستخدم دم أبي وأخلطه بدم أخي ثم أضيف عليهما بضع قطرات من أدمعي السخية.. هكذا يزيد اللون نقاء وتزداد الصورة بهاء.. أنا مرهق مرهق مرهق.. ترى هل تلبّسني جان؟!!
استقبل طارق كلمات حاتم بدموع ساخنة كتمتها صرخة مدوية في صدره وتفهم كلمات صديقه حاتم تفهماً عميقاً كما يفعل ندرة من الأصدقاء، ثم أمسك بيد حاتم وشدّ عليها ثم ساعده على النهوض، غادرا المكان سوياً بعدها نحو المسجد لأداء صلاة الجمعة.
يا ترى هل يسوق القدر في هذه الأثناء حمامة بيضاء تلقف غصن الزيتون الملقى خلف الجدار لتملأ به الفراغ في أعلى لوحته.. أم يظل مكانه عارياً حتى يجف وينكسر؟!
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved