الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th August,2006 العدد : 168

الأثنين 4 ,شعبان 1427

جواز سفر الحرية
قاسم حول*

بعد أن حصلت على الجنسية الهولندية وجواز السفر الهولندي، تطلعت إلى جواز سفري القديم الذي استعرته من جمهورية اليمن الديمقراطية السابقة بعد أن حرمني وطني من جواز سفر عراقي أنتمي إليه وينتمي إلي، وأصدرت كتابا يحمل عنوان (مذكرات جواز سفر) يتحدث فيه جواز السفر العائد لي عن معاناته في المطارات وفي الحياة بسببي، قادني ذلك الجواز اليمني الذي انتهت دولته، للذهاب بعيدا في الذكريات عبر الأختام المدموغة على أوراقه، وكانت جمهورية اليمن التي منحتني مشكورة هذا الجواز تخص رقمه وأرقام جوازات السفر المماثلة والتي تمنح لغير اليمنيين بنماذج من الأرقام تدل على أن حامل هذا الجواز ليس مواطنا يمنيا. وهي بروتوكليا تبلغ وزارات خارجية الدول كافة بهذه الحقيقة، ولذلك فأنا مواطن مشكوك فيه مع سبق الإصرار.
كانت مدة الجواز سنة واحدة أقوم بتجديدها كل عام، يومها كنت أعيش في اليونان. ولم تكن في اليونان سفارة لتلك البلاد الاشتراكية المسماة (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) فيتحتم علي والحالة هذه أن أذهب إلى جمهورية ثانية (وأيضا انقرضت) هي جمهورية ألمانيا الديمقراطية حيث لجمهورية اليمن سفارة فيها. وحتى أحصل على تأشيرة سفر إلى جمهورية ألمانيا الديمقراطية فإن ذلك قد يستغرق عدة شهور، فافتراضا أني جددت جواز السفر في 30 3 فيكون الجواز قد جدد لمدة عام تنتهي صلاحيته في 30 3 من السنة القادمة، وحكومة اليونان تمنحني الإقامة عادة لمدة عام تنتهي في 31 12 فعمليا أنا أحصل على إقامة مدة تسعة شهور فقط. وعندما تأتي بداية السنة الثانية يكون جواز سفري ليس فيه صلاحية سوى لثلاثة شهور وبالتالي فإن الحكومة اليونانية لا تمنحني إقامة سوى لثلاثة شهور. هذه الحالة تتكرر معي سنويا، فأنا ما بين كل سفرة وسفرة توجد سفرة. وهذه السفرات المتتالية ليست للمتعة إنما فقط لمراجعة السفارات من أجل التأشيرات وتجديد جواز السفر. فمتى يستطيع مخرج سينمائي مثلي في مثل هذه الحالة أن يفكر بكتابة سيناريو أو أن يبحث عن ممول من بين ممولي هذه الأمة التي أنتمي إليها والتي تسمى مجازا الأمة العربية ومكابرة (المجيدة) لكي يمنحني فرصة إخراج فيلم سينمائي.
يوما وفي ندوة بلبنان قلت لا يوجد فرق بين الموهبة الغربية التي صنعت أفلاماً ممتازة وبين الموهبة العربية في هذا المجال مع أن الفارق بين الأفلام كبير على المستوى التقني والمستوى الفني والجمالي، فبازوليني مثلا أخرج عدداً كبيراً ومهماً من الأفلام السينمائية تعتبر كلها إشارات مهمة في تأريخ السينما العالمية ولم يتمكن مخرج عربي أن ينتج فيلما واحدا يمكن أن يعتبر إشارة في تاريخ السينما، لكن الفرق بين بازوليني وبين المخرج العربي هو أن بازوليني يملك جواز سفر وأنا مثلا لا أملك مثل هذه الوثيقة. بازوليني يمتلك حريته ليس في السفر بل حريته في التعبير فلا حدود أمامه في إنتاج الفيلم السينمائي ولم يستضف شرطيا يقيم في رأسه ويرافقه أين ما مشى، في وقت أردت فيه مرة أن أصور مشهدا سينمائيا في مصر وبسبب طبيعة جواز سفري اليمني الديمقراطي لم أستطع الحصول على تأشيرة سفر من الإخوة الأعزاء في مصر كي أسافر لتصوير ذلك المشهد السينمائي فدعوت مخرجة من زملائي إلى أثينا لأشرح لها طبيعة المشهد الذي أود تصويره ورسمت لها اللقطات وأجريت أمامها تدريبات للممثلة وسافرا لتصوير المشهد فيما بازوليني عندما أراد تصوير فيلم ألف ليلة وليلة سألني عن أجمل منطقة يمكنه أن يصور فيها فيلمه الكبير هذا، فاقترحت عليه مدينة حضرموت وعندما أراد التأكد من صلاحيتها للفيلم اتصلت بوزير ثقافة جمهورية اليمن الديمقراطية وشرحت له رغبة المخرج العالمي الكبير لزيارة حضرموت فرحب به ضيفا وسرعان ما سافر بازوليني واندهش بالمنطقة ومدى تطابقها مع حكايات ألف ليلة وليلة وسرعان ما أستدعى ممثليه ومصوريه وأقام هنالك ضيفا مرحبا به وحقق واحدا من أهم الأفلام السينمائية في حياته.
الحديث هنا عن الحرية.
فليس جواز السفر سوى وثيقة رمزية تعبر عن الحرية. لقد كان صعبا علي السفر لأية بقعة في العالم، بسبب طبيعة جواز السفر الذي أحمله، والآن وأنا نفس ذلك الشخص الذي لصقت صورته على جواز سفر يمني ومن قبله جواز سفر عراقي، الآن صورتي ملصقة على جواز سفر هولندي ولم تعد أمامي حدود فجواز السفر الهولندي الذي أحمله قد حطم حواجز كونكريتية وسياجات حديدية ولم يجرؤ أحد من حراس الحدود العرب ولا غير العرب أن يسألني عن أصلي وفصلي. ترى متى يدرك حراس الحدود بأن الشخص الطيب لا تكمن طيبته بشكل جواز السفر الذي يحمله بل طيبته تكمن في وعيه وقلبه وملامح وجهه وصفاء عينيه وحسن نواياه.
لماذا تمكن بازوليني من السفر بسرعة البرق إلى بلد عربي ليخرج فيلما يبحث في الدوافع الجنسية لشخوص حكاية ألف ليلة وليلة ويجلب معه كل الممثلين من إيطاليا وكل المصورين ويسخر كل الفتيات؛ الصوماليات يأتين واليمنيات ليلعبن في الفيلم شخصيات الجواري والغانيات في بيوت وسراديب بغداد: هارون الرشيد وحكايات شهرزاد وشهريار ويصور بحرية وبدون أن يطلب منه السيناريو للموافقة على تصوير مشاهده بل ويقدم له الدعم من قبل وزارة الثقافة اليمنية، وأمنع أنا المخرج العربي من السفر لبلاد السينما العربية من أجل تصوير مشهد طوله ثلاث دقائق عن فتاة تحلب البقرة في صعيد مصر؟!
لقد منح الله سبحانه موهبة الإبداع لمن يستحقها من بني البشر على هذه الأرض فلماذا يتألق بازوليني وينطفئ غيره من الموهوبين في مجال السينما ؟! ولماذا يتألق أديسون في أمريكا وينطفئ عبدالله في لبنان أو في أي بلد عربي؟! ولماذا يتألق بيرجمان في السويد وينطفئ سيد عكاوي في بلد الكنانة؟!
لقد أخرج بازوليني فيلما عن السيد المسيح يحمل اسم (إنجيل متى) وكان الفيلم مكتوبا برؤية مادية وليست روحية عن شخص السيد المسيح. الفاتيكان اعترض على الفيلم ولم ترق له قراءة بازوليني المادية لشخص السيد المسيح، ولكنهم لم يطلبوا منع الفيلم بل إن موقف الفاتيكان قد زاد من إقبال الجمهور على مشاهدة هذا الفيلم.
هذه الهوامش من الحرية هي التي تمنح فرصة الإبداع وتتألق بها الموهبة عندما تكون في مناخ منعش وتنطفئ هذه الموهبة عندما يكون المناخ سببا في الاختناق وعسر التنفس.
وليس جواز السفر سوى جواز حرية المرور بين أروقة الحياة بدون حواجز.
الآن حصلت على هذه الوثيقة.. جواز سفر من هولندا أتمكن فيه من السفر بحرية لتصوير أفلامي، ولكن ترى هل بقي من العمر ما يكفي لإنتاج فيلم يسجل بامتياز في تاريخ السينما العالمية.. ومن هم الممولون؟!


* سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@ wanadoo. nl

الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved