الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th August,2006 العدد : 168

الأثنين 4 ,شعبان 1427

كاتب البسطاء
عبدالعزيز مشري

ستة أعوام على رحيل عاشق الحرف واللون إلى ماضي الفعل، تاركاً لنا سيرة ترتقي إلى مستوى الرمز وبهاء الدلالة، ومخلفاً لنا إرثاً من كتابه تمضي إلى مستقبل الفعل وخصوبة الأثر لتحمينا من قسوة النسيان، وتجعلنا قريبين من ضمير الكائن الذي أحبنا وأحببناه.
ينتمي عبدالعزيز (من مواليد 1374 ه والمتوفى في 7 5 2000م) إلى جيل يمكن النظر إليه كجيل مفصلي عاش نمط الحياة القروية التقليدية في طفولته كما عاشها أشباهه منذ مئات السنين ثم مد قدميه في مياه الزمن ليرى صباه يتشكل في مزاج حاضنة متغيرة وليشهد مع جيله أضخم عملية تحول في تاريخ القرى حيث تبادلت مع المدينة صراعاً تجارياً وبشرياً انتهى بعدم قدرتها على المحافظة على أجمل ما تدخره من قيم المعيش القروي المنفتح على حقوقية التعبير وحضور المرأة، ثم بعجزها عن منافسته المدينة في إبقاء أبنائها في أحضانها، وهكذا هاجر عبدالعزيز إلى المدينة ليعمل محرراً متعاوناً في جريدة اليوم ولكن المدينة لم تكن سوى فضاء دبقاً يلتهم الغرباء الذين ضاعوا في أزقتها الخلفية بحثاً عن مأوى ولقمة كفاف في بداية سنوات الطفرة التي شهدتها البلاد منتصف عقد السبعينيات وهكذا بدأت أولى المفارقات النفسية والوجودية في حياته بمواجهة صدمة الاغتراب في شوارع المدينة، والافتقار إلى دفء المحيط الاجتماعي والقروي، كما كان عليه أن يستكمل عدة الكاتب بالقراءة، ولقمة العيش بالعمل، ومأوى البدن بالسكن في غرفة بائسة يتقاسمها مع بعض الأصدقاء.
وفي مناخ كهذا لم تكن مضامين الكتب المتاحة له للقراءة أقل قسوة من تفاصيل معاشه الجديد فانهمك في قراءة، اللامنتمي، وضياع في سوهو، لكولن ولسون، والوجود والعدم وثلاثية رواية دروب الحرية لسارتر، وغريب، كامو، وكوابيس كافكا وبعض ما يدخل في نسقها من كتابات عربية ليوسف إدريس ومالك حداد وزكريا ثامر ويحيى الطاهر عبدالله وسواهم، يقول في قصته (الدمعة والخط الهارب).
إنك في قاع المدينة
إنك لم تعثر على حظك
اقطف دمعة من قلبك
اقطفها ولفها في منديلك
اقطفها والقها تحت الأقدام
إنك في قاع المدينة
المدينة...
المدينة!
وهكذا يمكن القول إن لسان حاله آنذاك يتفق مع ما ذهب إليه ميلان كونديرا من أن مرحلة حلم الإنسان في الارتقاء إلى مرتبة سيد الطبيعة ومالكها قد تم تجاوزها بدخول المدينة مراحل تقدم قوى التقنية والسياسة والتاريخ، ولكن ذلك أفضى بها إلى ما أسماه هيدجر ب(نسيان الكائن) فإذا كان هذا التوصيف ينطبق على أحوال المدن الكبرى فإنه حتماً ينطبق على مدننا الطرفية الهامشية والمشوهة بشكل مضاعف مهني لم تكن مدنية إلا في عنفها البائس، وكل ما قدمته هو طرد الكائن من ملكوتها، وهذا ما صبغ إحساس الكاتب بالفقد ودفعه إلى الانشغال في جل أعماله على استعادة روح المكان والزمن القروي الذاهب إلى حواف المغيب. فقد كان ينشد استحضار أنماط حياة وقيم وذاكرة هي أكثر رقياً من أنماط حياتنا الآن، كما تسطر استعادتها بعداً أخلاقياً وأفقاً جمالياً ينقذ ضمير الكاتب من الوقوع في فخاخ النسيان أو عبثية اللامبالاة، وهكذا تجاوز عبدالعزيز مشري اتكالية طغيان الكلمات على الأفكار التي قال عنها (جوته) ساخراً: عندما تعوزنا الفكرة نستعيض عنها دائماً بكلمة تحل محلها، وهكذا استعاد مخزون ذاكرته الحميم أفكاراً وكلمات ضمن نسق رؤية ومشروع يدخل فيه النستالوجي والتسجيلي والاحتفائي والفكري أيضاً وقد بدأ هذا المشروع في القاهرة حيث كتب روايته الأولى التأسيسية لذلك المنحنى (الوسمية) عام 1982م حيث اطلع عليها الروائي صنع الله إبراهيم وشجعه على استثمار مناخاتها في أعماله الأخرى.
تميز عبدالعزيز المشري بغزارة الإنتاج وتنوع الاهتمامات حيث صدرت له الأعمال التالية: باقة من أدب، موت على الماء أسفار السروري بوح السنابل الزهور تبحث عن آنية أحوال الديار جاردينيا تتثاءب في النافذة، وله الروايات التالية: الوسمية الغيوم ومنابت الشجر ريح الكادي الحصون في عشق حتى صالحة و(مكاشفات السيف والوردة) وهو كتاب ضم سيرته الإبداعية والثقافية، وقد ترك المخطوطات التالية: رواية المغزول، القصيدة في المملكة، ترنيمة وهو عبارة عن نصوص شعرية وترك عدداً كبيراً من اللوحات الزيتية والرسومات المخطوطة بالحبر.
تزوج في عام 1980م من السيدة ناهد وهي أردنية من أصل فلسطيني وقد أهداها مجموعته القصصية الثانية أسفار السروري ونظراً لظروفه الصحية لم ينجبا ولذلك فقد اختار بطريقة نبيلة لا يباريه فيها أحد أن ينفصلا ليتيح لها الزواج والإنجاب كان ذلك في عام 1990م عانى طويلاً مع المرض فقد أصيب بالسكري وأدت مضاعفاته للتأثير على البصر واختلال توازن حركة المشي والفشل الكلوي وضغط الدم ثم الغرغرينا التي نحرت أقدامه فتم بتر قدمه اليمنى ثم الساق اليسرى كاملة هو من البسطاء وكتب لهم:
(تبدو كل كتاباته إبداعية ملاذاً لما يوشك أن يندثر من حياتنا، أو طريقاً للكشف عما لا يتضح من أمامنا إلا بها إنها مصباح الخلوة، ووقار الحنين، ويقين الحضور، ونافذتنا على ما لا نعرف أنفسنا ككتاب إلا به ولا نتعرف على الآخرين إلا به هكذا كان يرى عبدالعزيز مشري إلى ما وراء بياض الورقة أمام ورقته وضوء عدسة التكبير، وهكذا أخلص للحرف وللكتابة مستمتعاً بألق استعادة سيرة حياة البسطاء الذين استعار لهم كلمة أندريه مالدو التي تقول: ينبغي أن نحاول توعية البشر (البسطاء) على العظمة الكامنة فيهم التي يجهلونهاه.
ولهذا فإن أيامه كلها قد أُضيئت بقناديل تحويل تلك العظمة إلى كتابة.
ولعل طموحاً كهذا لا يعدو أن يكون مشتركاً بين كثير من المبدعين، ولكن عبدالعزيز امتاز عن غيره في هذا المجال بإرادة استثنائية، وذاكرة لونية وحكائية خصبة، ومزاج يستمتع بالمفارقة ويجيد استثمارها حديثاً وكتابة.


عن أصدقاء المبدع الراحل الطائية

الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved