الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th November,2005 العدد : 131

الأثنين 26 ,شوال 1426

خطاب الأنا العربية بين التقليل والتضخيم
(قراءة في وعي الشخصية العربية) «3»
سهام القحطاني
تصاحبت قيمة البطولة في وعي الشخصية العربية ما قبل الإسلام مع الحرب، فرحّل ذلك الوعي كل القيم التي يختزنها مفهوم الحرب إلى قيمة البطولة؛ وبذا تحوّلت بقية القيم من خلال هذه القيمة إلى أتباع لها كمستويات للبطولة، بل لعلني أزعم أن مفهوم الحرب بقيمه المتعددة اختزل داخل هذه القيمة، بل اندمج معها، وهذا التمازج بين القيمة الأبرز والمفهوم، بعد إزاحة المفهوم من رأس المعنى وإحلال القيمة الأبرز لقمة الرأس، أصبحت قيمة البطولة هي التعريف الأقوى للحرب.
أقول تصاحبت قيمة البطولة في وعي الشخصية العربية مع الحرب، وفي الحرب يختلط الحابل بالنابل، والوهم بالحقيقة، والحرب مادة إعلامية خطيرة لصناعة الأبطال، وصناعة البطل في عصر ما قبل الإسلام، وحتى ولو كان بطلاً من ورق، فهو أولاً يحقق الأمن النفسي للقبيلة كونها تملك سلاحاً عسكرياً يخاف منه أعداؤها، وهذا ما يدفع كل قبيلة إلى خدعة التضخيم، وهي خدعة قديمة يمارسها المزارعون من خلال (خيال المآتة) لإخافة الغربان، كما أن الشاعر كان يحقق ذلك الأمن النفسي لمجتمعه، وكان الشعر هو الإعلام الرسمي الذي يقوم بكل الوظائف والعلاقات بين القبائل؛ فهو قد يمثل مجلس أمن، أو سفير السلام، أو سفير النوايا الحسنة، أو يمثل على الجانب الآخر، الضغط الإعلامي المضاد، أو التشويش الإعلامي، أو الخداع الإعلامي.
إن البطولة تزداد قيمة في المجتمعات البدائية أو المتخلفة تنموياً، أو المجتمعات ذات الثقافة الوجدانية كالثقافة العربية، وكلما ارتفع المستوى الفكري والعلمي والمنطقي للمجتمعات تقلصت قيمة البطولة.
إن اختزال الحرية كناتج مجتمعي، والفعل التاريخي كمنجز داخل قدرة (رجل واحد) طريقة تفكير غير منطقية تعلمنا إياها البطولة، فهي إجحاف بدور الآخرين، وتنحية للقيم الجماعية المكوّنة للمنجز الحضاري والتنموي، فالمقدرة الفردية مهما تصاعد مجهودها لا تستطيع تفعيل الكفاح من خلال حدود شخصيتها القاصرة، التي تتممها غيرها من القدرات. إن خطورة البطل على وعي الشخصية الشعبية هو الاعتقاد الذي ترسمه على أساس البطل ممثلاً لطاقة مختلفة تتفوق على امتياز الطبيعة، وهذا ما يحوّل الأشخاص المختلفين بالتقابل مع العاديين إلى اختلاف يتجاوز محيط الكرة الأرضية وسماكة السماء، وهذا الاعتقاد هو الذي حوّل الأشخاص إلى آلهة سواء عبر الصنم أو عبر الدستور.
ولهذا تنبه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعزل خالد بن الوليد، وأرجعه إلى صفوف المستوى العادي؛ فالإسلام يستبدل قيمة البطولة بقيمة القدوة، التي توحّد مصدرها في رسولنا الكريم، وقيمة القدوة تختلف في البطولة فهي تتضمن سلوك وفكر مصدر القدوة، كما أن القدوة في الإسلام على الحسن من الأخلاق والأعمال، وما عدا ذلك يدخل في باب التقليد، وهو ما رمى إليه ابن خلدون من قانون (الاستقطاب الثقافي) ومنهج الغالب والمغلوب.
إن قيمة البطل من القيم المتسامية في وعي الشخصية العربية، وهي قيمة ظلت ولا تزال راسخة الثوابت، منذ عنترة بن شداد والزير سالم مروراً بخالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي وصولاً إلى جمال عبد الناصر وياسر عرفات وصدام حسين ورفيق الحريري، مع اختلاف الاسم في كل عصر عربي، فالانتقال من الفارس، البطل، المجاهد، المناضل، المنقذ، الثوري، لكن اختلاف الأسماء، لم يؤثر في سيكولوجية الأثر التي تظل واحدة، أو هكذا أعتقد. إنه استدعاء قيمة الاستعلاء التي يحققها لنا البطل، خاصة في ضوء فلسفة تدميج الأنا المفرد مع نحن الجماعة، فبطولة البطل الفرد تنتقل معنوياً إلى أنوات الجماعة، فانتصار البطل الفرد يرفع القيمة الاستعلائية لتلك الأنوات، وهو سبب نفسي نستطيع أن نطرحه كنوع من التفسير لظاهرة التناسخ بين وعي الشخصية العربية الشعبية مع ذات البطل. إن الذات الضعيفة التي نستطيع أن نلصقها فوق مفهوم المغلوب، ولو على مستوى الإحساس الأنوي الخاص، تحتمي بقدرة أنويّة (البطل - الغالب، بالنسبة لوعي الشخصية الشعبية) تخفي عنها مرآة اكتشاف الذات ومعيار تقويمها، ومحاكمة أخطائها، وهذا الاحتماء والاختفاء يحقق لها مخادعة الأنوي الخاصة بقيمة الاستعلاء، وقانون الاحتماء والاختفاء قانون لا تلجأ إليه الأنوات إلا في حالات (الغالب والمغلوب)؛ (فالمغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه) - ابن خلدون -، والغالب قد يكون فرداً أو جماعة أو شعباً، والحقيقة أن تأويل قانون الغالب والمغلوب عند أستاذنا تركي الحمد الذي يأخذ بمفهوم (التفاعل الثقافي) يحيرني، فالتفاعل هو عملية تبادل بين متكافئين، لكن الغالب والمغلوب هو مفهوم (الاستقطاب الثقافي)، وهو ما يعني عملية انتقال من الأدنى المغلوب إلى الأعلى الغالب. كما أن قانون (الاستقطاب) قد يتم خارج الإطار الحربي للمجتمعات، وحينها يتحول قانون الغالب والمغلوب ضمن إطار المجتمع الواحد والثقافة الواحدة.
وهناك أمر آخر، أن ذلك الوعي الذي يذكر على الدوام خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي يجهل في المقابل الرازي وابن النفيس وابن الهيثم والإدريسي الذين خدموا الحضارة الإسلامية، ولعل تفسير هذا الأمر يعود إلى أن وعي الشخصية العربية لم يتعود على تقويم الأشخاص علمياً وفكرياً، وكيفية تقدير المنجز الحضاري؛ أي أنه يعتمد في تقويمه على حاصل الناتج المادي والسريع، كما أنه يعتمد في تقويمه على قيمة اللغة المقدمة قبل الناتج وبعده. والأمر الثالث أن وعي الشخصية العربية ليست لديه خاصية النفس الطويل، وهي خاصية تتعلق بالمنجزات الفكرية والعلمية، وأعتقد أن استمرارية نهج هذا التفكير في وعي الشخصية العربية في العصر الحديث كان العائق الأهم والسبب الرئيس لغياب خطط التنمية وخمود الابتكار في المجتمعات العربية، وهجرة العقول العربية إلى الغرب، وتصاعد عقدة الأجنبي والمنتج الأجنبي، التي ستتصاعد بدورها في حمّى العولمة، والجلد المستمر للذات العربية.
لقد تميّز وعي الشخصية العربية ما قبل الإسلام بفطريته، فهو ذو بعد فردي، يمتد فوق خط بين طرفين؛ أن أكون أول الطرف في قدرية الكينونة، أو لا أكون آخر الطرف في عدمية ما كان موجوداً، ومعارفهم تبلورت من خلال طرفي الكينونة والعدمية؛ فالأنساب أبرز معارفهم هي تمثيل لأصالة الكينونة وجذورها، وعلم النجوم هو ارتباط الكينونة بالعدمية، متى ما وجد الماء خلقت الكينونة، ومتى ما انتهى فهي العدمية، والنجوم مصباح الحيرى والعشاق والضائعين في صحراء هي حليف مؤكد للعدمية، لكن تلك المعارف لم تتجاوز خط الطرفين.
أما الشعر، فلا شك أنه كان الوسيلة الأبرز؛ فهو جزء من حياة العربي، إنه يتساوى في المركز مع مفهوم القبيلة التي تختزن ماضي وعي الشخصية العربية وحاضرها وتأملات مستقبلها؛ كان العربي إذا أحب قال شعراً، وإذا كره قال شعراً، إذا افتخر يفتخر بالشعر ويمدح بالشعر ويتغزل بالشعر، وفي الشعر مستودع الحكمة والألم وظنون الشك والتوجس والعقدة السرية. الشعر والعربي هما منتجان لقدرية الكينونة والعدمية، وفي الشعر تنصهر الأنا مع الوعي الجمعوي من خلال ضمير المتكلمين المتصل الذي يميز النص الشعري الجاهلي لينبئ - على مستوى الرؤية الشعرية والأداة التعبيرية - عن ذوبان هذه الذات في القبيلة دون استقلالية ذاتية، ودون وضوح شخصيتها وآرائها التي يفرزها عقلها، في سلوكها الفردي، واتجاهاتها وعلاقاتها بالآخرين الناتجة عن العصبية الجاهلية، وهنا يأتي دور اللغة كمحرك لهذه العصبية، إذ يعول (ميد) على اللغة في تكوين الذات الخارجية (إذ إنها تنبثق عن الأفعال الكلامية والحوارية مما يعمل على تطوير الوعي بفكرة الذات)؛ وهنا يبرز لنا دور الشعر في حياة الشخصية العربية ما قبل الإسلام، فالشعر عدّ (ديوان العرب) وسجل مفاخراتهم. ثم جاء الإسلام، فكانت المهمة الأولى له إعادة تأسيس البنية التحتية لوعي الشخصية العربية في مستوياتها العقدية والاجتماعية والعقلية.
لقد كان الهدف التنويري النهضوي للإسلام يرتكز على تأسيس (العقيدة والسلوك والعقل) فسعى أولاً إلى توحيد الإيمان وإلغاء عبادة ما دون الله، وهو بذلك نقل مفهوم العبادة من إطارها المادي التعددي إلى أفق ميتا فيزيقي؛ قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}(الأنعام - 19) ثم حدد لهم الغاية من الحياة؛ وبذلك رفع المستوى الإنساني عن مستوى الحيوان بما منحه من إيجابية روحانية، ودور ومسئولية إنجاز، فأصبحت للحياة قيمة وغاية، تتجلى في العبادة؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات - 56).


....يتبع
seham_h_a@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved